لحقت بي جماهير الحفلة التنكرية. حاصرتني الأقنعة. قناع يسقط، وقناع يرتفع، وقناع يتمزق، وقناع يُحاك، وقناع المهرج أتقدّ، وأحمرّ كفرن الخباز. حينها شهقتُ، بكيتُ، وندبتُ الخُبْزَ الحيّ وصفق من في الحفلة وغنوا بأصوات جنائزية: سقط القناعُ عن القناعِ عن القناعِ
كان اِبني
اعتدتُ على سماع صوته يتكلّم ويجادل، يهمس ويصرخ، يضحك ويبكي عندما تنبعث أحلامه من رأسه في ساعات الصباح الأولى.
أوقظه في الثامنة. أحمّمه ثمّ ألبسه ملابسَ نظيفة بدل المتّسخة. أعدّ له الفطور. أطعِمهُ بيضة مهروسة، وموزة مستوية، وأشرّبه كوباً من الحليب الدافئ. أقعِده على كرسيّ متحرّك. نجلس معاً في حديقة المنزل. يتأمّل ما حوله، ويعدّ على أصابعه: الحَمامات، النملات، النحلات، الغيمات، وهو يستمتع. يغفو برهة ثمّ يستيقظ. يتفحّص ملامح وجهي بشرود. يناديني باِسم أمّي المتوفاة، قد أكون هي في ذاكرته النائمة.
عيناه تتحدّثان معي أكثر من شفتيه. أفهم إذا كان مبتهجاً أم مكتئباً، مطمئناً أم خائفاً، مرتاحاً أم قلقاً، وإن كان بحاجة للطعام أو الحمّام. أقرأ له في الحديقة كتبي المفضّلة، ينصت باهتمام وفجأة يستلّ الضحكات عندما يحطّ عصفور بالقرب منّا أو قطّة تتسلّق الجدار فأبادله التبسّم والضحك. يتمتم أحياناً بكلمات لا أفهمها وأهزّ رأسي باهتمام. حين تصحو ذاكرته يسألني عن إخوتي وأخواتي فاكذب عليه. أخبره بأنّهم جاؤوا لزيارته عندما كان نائماً فيبتسم سعيداً، ويقبِض على يدي بحنان فأحتضنه، وأقبّل رأسه. حياتنا اليوميّة رتيبة في جميع تفاصيلها الصغيرة والكبيرة؛ لكنّها شاقّة لأنّ العناية بطفل بحجمه يحتاج قلباً كبيراً.
أجلسنِي على كرسيّ المتحرّك. يقرأ لي كتبي المفضّلة في الحديقة، ويقبِض على يدي بحنان. أناديه باِسم أبي وأنا أتحدّث معه. يهزّ برأسه ويبتسم.
كتابة ورسم: نجاة الشافعي
ملحوظة: تصميم الموقع لا يتيح وضع علامات الترقيم بشكل صحيح
Black & White
I am half half
black & white.
sometimes I say
my mother is a black knight flying a kite
my father is a white kite flying at night
sometimes I say
my mother is a white kite flying at night
my father is black as a knight flying a kite
I am a mixed race,
so, it does NOT matter who is a black & who is white!
which side of the moon is dark & which side is bright!
I am the 2 sides in a shiny night full of stars.
I keep the secrets hidden in my eyes
throne under my colored skin that never dies
pebbles obstructing my throat
signs on my face, hands & feet
hangers of my coat in the street
ME ME ME is my beat
black & white!
Writing and drawing: Najat Alshafie
الفأرُ الأسد
الفأر قذر لكن ذكي .. الفأر قارض سريع الحركة.. الفأر سريع الهرب..
سماه أحدهم "الفأر" فتطايّر اسمه بين الناس، وذاع صيته: الفأر راح.. الفأر جاء.. الفأر قادم.. الفأر والفأر والفأر.. وهو يهز ذيله، وينفخ صدره، ويقفز فوقاً وتحتاً، يميناً وشمالاً، تارة يختبأ، وتارة يظهر، وتارة ينهب الجبن، ويستمتع بمضغه، وتارة لا يَمَسّه، الفأر يراوغ..
الفأر لا يأكل بطريقة الفئران. الفأر شره. يحب البصل والثوم واللحوم، وزيت الزيتون ويعصر الكثير من الليمون، ويقضم قرون الفلفل الحار فيطفئ اللهب بالماء البارد جداً.
الفأر يدخن ويدخن ويدخن بشراهة.. ويلقي بأعقاب السجائر.. في المخادع.. تحت الأسرة.. فوق المخدات.. بين الشراشف.. على مساند المقاعد..
عندما يعود تَفرُك الفأرة عيناها، تقوم من نومها لتسخّن له العشاء، يغضب منها:
- أنا الفأر!! حتى وإن أتيت متأخراً لا تنامي!
وعندما تضع مساحيق التجميل
- يا فأرة! لمن وضعتيها! لم أكن موجوداً! امسحيها!
وحين لا تضع المساحيق:
- يا فأرة! سُحنتك كالحة! ضعيها! أنا الفأر! أنا موجود!
الفأر ينام بطريقة خاصة، يستلقي على ظهره، ويضع رجلاً على رجل، ويتفرج على (التيك توك) حتى الفجر ويصل شخيره حتى الغابة البعيدة..
ذات يوم سقط الأسد في الشبكة.
الفأر بطل.. الفأر منقذ!!
قرضَ شبكة الأسد لأن الفأر ماهر وأسنانه حادة لاسيما قواطعه وزئير الأسد أوجع رأسه؛ لكن الأسد ناكر الجميل عندما تحرر من الأسر جاع جوعاً شديداً فالتهمه بِدْءًا برأسه ولم يدع سوى ذيله.
تندر أهلّ الحي على الأسد واسموه فأراً، وفي البئر رأى له ذيلين يهشّ بهما الذباب، وتقلص حجمه حتى دخل في جحر ضَبّ.
نجاة الشافعي
٦ / ٦/ ٢٠٢٣ م
ملاحظه: أود التنويه إن الموقع لا يتوافق مع أدوات الترقيم العربية
الحوت الأزرق في اليوم الأسود
قراءة لرواية "الحوت" للكاتب خالد سعيد الداموك
كتبتها: نجاة الشافعي
كيف للموتِ الذي حلّ ضيفاً ثقيلاً في قرية مجهولة على الخريطة على شكلِ حوتٍ نافق ظهرَ على الشاطئ يوما ما أن يخلق الحياة، وأن يُطلقَ أسرابَ الأمل في سمائها، وهذا ما استهلت به الرواية عندما صورت بطريقة ساخرة "الطيور القادمة من الشمس[1]" التي تقذف فضلاتها على رؤوس البشر؟ وكيف صَنَعَ الموتُ أهميةً لقرية صغيرة لم يسمع بها أحد فَبَرَزَ وجودها للآخرين؟ وكيف يكون للموت مفعولاً عجيباً فيُخرج ما هو مدفون في نفوس الناس من خير وشرور؟
هذا ما يكشفه لنا الساردُ، وهو الراوي العليم، في رواية "الحوت" حيث تصبح قرية ساحلية قرية الحجر محوراً لحدث غريب، وتصير معلماً سياحياً يقصده الناس من القرى المجاورة، وتصبح محط اهتمام العاصمة، فيأتيها المصورون والصحفيون، ووفدٌ عالي المستوى يرأسه بروفيسور أجنبي "الرجل ذو الأنف الأحمر[2]" ومساعديه الأجانب
الحوت الذي انتحر على الشاطئ أنعش الأمل في نفس الشاب جبران العاطل عن العمل بأن يصبح تاجراً ثرياً عندما يستخرج العنبر منه ليثبت لأمه إنه ليس بالعالة عليها، وليثبت لنفسه إنه رجل كأبيه الذي ابتلعه البحر في إحدى رحلاته التجارية، وكأن البحر الغادر الذي أغرق أباه وَهَبَه بالمقابل الحوت الميت ليغير حياته للأفضل. يرافق جبران في كفاحه فتى آخر اسمه راشد الذي ولد وفي فمه ملعقة من الذهب، ونشأ غيرَ صالحٍ للتعلم كأقرانه في الكِّتاب أو للعمل في دكان والده التاجر المتسلط "الجبرتي". راشد أراد أن يتمرد على أبيه ويتزوج الفتاة التي يهيم بها فذهب مع جبران لسرقة العنبر، ومن المفارقات إن الحوت الميت جددّ الأمل في نفس الجبرتي والد راشد الذي يريد أن يعالج ضعفه بأكله لحمه ليتزوج أم جبران وينجب ابناً يحقق أمله في الحياة، وليس كابنه الفاشل راشد
الحوتُ كان نافذة الأمل أيضاً "لحسن الداشر" السيء السيرة ليُبرِزَ سلطته في حمايته، والذود عنه بدمه لأنه من ممتلكات قريته وليس مباحاً أو مشاعاً لغيرها، وبالخصوص لقرية بني ملال المجاورة. لم يكن الحوت أملاً فقط للأفراد، بل للقرية المجهولة كاملة لكي تدخل التاريخ وتُعرَف بين البلدان، القرية التي نفقَ فيها الحوت ليستدلّ الجميع إنها وأهلها موجودون على وجه الخريطة
قراءتي لرواية "الحوت" ستتضمن التركيز على أسلوب السخرية في النص الروائي لسبر مكنوناته، حيث وَظَّفَه الروائي كأداةٍ لرسم الشخصيات، وتطور الأحداث، وإبراز مكامن الصراع، وايصال المعنى للقارئ. الرواية مشحونةٌ بجرعات مُفرِطة من السخرية تتضح في الحبكة الدرامية، وأسماء وصفات الشخصيات، والحوار فيما بينها. فعلى مستوى الحبكة الدرامية فإنه لمن سخرية القدر أن يستلقي حوتاً منتحراً على شاطئ قرية صغيرة ليذيع صيتُ هذه القرية وليؤجج رغبات وطموحات أهلها، بعضهم بالثراء من بيع العنبر أو أن يتقوى أحدهم بأكل لحمه أو يشبعوا بطونهم، وفي آخر الرواية تبدد أحلام أهل القرية فالحوت هو الحوتُ الأزرق وليس حوت العنبر كما يخبرهم البروفيسور الأجنبي، ويضحك مع فريقه عليهم مستهزئين من سذاجتهم وجهلهم
وعلى مستوى انتقاء أسماء الشخصيات الرئيسية والفرعية فيطلق الروائي أسماءً ساخرة على بعضهم ليدُّل على سماتهم الشخصية أو يبرز تناقضا معيناً أو يشير لحالة ما. فمثلاً، "حسن الداشر" الذي اسمهُ "حسن" وخلقه سيء و"داشر" في العامية تعني الشخص السيء، ويَصِفُ السارد الداشر السيء ودفاعه المستميت عن الحوت مقابل اعتداء أهل القرية المجاورة بشكل هزلي ساخر: "رجلٌ يعلق على عنقِه قطعة من الجلد المُسدَل على صدره وبطنه حتى تصل الى ركبتيه ويمسك في يده سكينا طويلة." [3]
وهناك شخصية "الملا بركات" خبير بالعلاج بالعطور والأعشاب لكن لا تسري بركة علاجاته للجبرتي، ولم ينفعه ما يعطيه من أعشاب مقوية، ويسخر غاضباً راشد ابن الجبرتي من شوارب الملا بركات وهي من علامات الرجولة في المجتمع الشرقي عندما حاول والده اجباره على الزواج من ابنته فيتندر مستهجناً: "ماذا؟! نظر إليهم وعيناه تكادان تخرجان: "ابنة الكلب ذي الشوارب القذرة؟![4]" ويصف السارد حال راشد: "يلعنُ والده ويلعن الملا بركات وشواربه النتنة ويلعن ابنته... كان يقول لنفسه: "ويبقى ذلك الشارب القذر عمي طوال العمر؟!" [5] ومن الجدير بالذكر إن وصف راشد الساخر لشوارب الملا بركات يتسق مع وصف السارد لها كصفة مميزة فيه بطريقة هزلية عندما تحدث عنه وهو داخل لدكان الجبرتي: "فإذا بالملا بركات ينتصب أمامه بهيكله الضخم وشواربه الكثة تتراقص مع تحيته".. "حرك الملا شفتيه الغليظتين تحت شاربه وهو يمسح عليه مستشعراً ما قاله الجبرتي".. همهم الملا بركات وشاربه يتراقص على شفتيه وأعاد حديثه عن تزويج راشد." [6]
أما "راشد" فهو لم يبلغ الرشد أو النضج لأنه لم ينفع نفسه بالتعلم في الكِّتاب أو أباه بتحمل مسؤولية العمل معه في الدكان، ويريد أن يتزوج بفتاة فقيرة جميلة لا تناسب مستواه الطبقي، ويلوم والده نفسه على تسميته راشد فيقول: "ولأزيد خيبتي أسميته راشد! من أين سيأتيه الرشاد وهو لا يملك عقل بعوضة[7]؟!" ويسهب السارد في وصف خيبة أمل الجبرتي في ابنه حين يصفه بين الأصغر منه من أقرانه في الكِّتَاب لحفظ القرآن: "ظل يدب كدودة حتي بلغ الخامسة عشرة.. كان يجلس بين الصبية الصغار بقامته الطويلة كعود من قصب بين شجيرات طماطم أو فجل أو حتى بطاطا لا تظهر ثمارها على الأرض.[8]" ويصف أبوه أسنانه بسبب التدخين هازئاً وهو يتحدث مع الملا بركات عنه: "أسنانه صفراء كحبوب الذرة"، ويسخر منه لأنه لا يجيد التجارة في موقف يعكس الألم والحزن في نفس الوقت حين احتفلوا في القرية بِمَنْ أنهوا حفظهم للقرآن: "كانت أفواج الحافظين تطوف القرية في موكب مثير يهزج بالأناشيد وهو يستقبل الساخرين أو المتلمقين.. لن ينسى ذلك اليوم السيء. ظل فيه لأسبوع يداري خيبته أمام الناس مدعياً أن ابنه خُلق للتجارة كما خلق هو لها"[9].
ويوضح السارد خيبة أمل الجبرتي في زوجته: "التي لم تتوقف بعدها عن وضع البنات الواحدة تلو الأخرى حتى امتلأ بيته بمستلزمات النساء." واطلقت زوجته اسم "يمنى" على آخر البنات الذي يوحي بالخير لكنه على العكس من ذلك محبطاً لا يشعر بالسعادة لأنه يرغب أن تنجب له ولداً آخرا
وبالإضافة إلى هذا تحفل الرواية بالكثير من الأوصاف الساخرة للشخصيات والمواقف التي تجمع بينها والحوارات الساخرة، وشدّ انتباهي سخريته من رموز السلطة وفرض النظام، وبالخصوص المأمور والعريف عوض وابنه والمتعالون على أهل القرية كالمصّور الأجنبي والقادمون من العاصمة وطريقة لبسهم الغريبة، والبروفيسور الأجنبي وطريقة حديثه ومعاملته للمأمور، فمثلاً، يصف مشي المصور الاجنبي حين تسلخ جلده بطريقة هزلية: "كان يمشي بين الناس كمن تغوط على نفسه
وقسم آخر من الشخصيات المحورية مثل الجبرتي وجبران، سماها الروائي ساخراً لتعكس سمات بارزة مثلاً: "الجبرتي" الأب والزوج المتسلط المتكبر الذي يجبر ابنه على ما يريده له من تعليم ومهنة وزوجة، ويجبر زوجته وبناته على طاعته المطلقة، ويجبر صَبِّيه "نوفل" أن يسرق له من لحم الحوت، ويجبر الناس على الدفع له، وجبران الذي يدل اسمه على الإصلاح أو التعويض وهو يحاول أن يُصلِح حاله بسرقة العنبر من الحوت رغم عدم شرعية ذلك فينتهز الفرصة ويتسلل تحت جنح الظلام
ومن الملاحظ إن عدم تسمية الداموك لبعض الشخصيات له دلالة أيضا، إما لأنها شخصيات فرعية جداً وذكرت لمرة واحدة مثل رئيس الميناء وشيخ الكّتاب والمصور الأجنبي أو لأن الشخصية تمثل رمزاً وليس فرداً، فالمأمور من منظور الراوي رمز للسلطة السياسية، وكذلك لم يسمي الراوي من ليس لهم سلطة من منظور ذكوري مثل زوجة الجبرتي وبناته ما عدا ابنته الصغيرة التي سمتها أمها يمنى؛ فلم يكن لهن أسماء لأنهن كنساء مهمشات في مجتمع القرية، وعليهن تلبية أوامر الجبرتي فعندما عزم على تزويج ابنه اعترضت الأم قليلاً ثم أقرت بما أمر به زوجها، وحتى أم جبران الذي يطمح أن يتزوجها نُسِبَ اسمها لولدها؛ أما "سكينة" ابنة الفقير "فرج الله" التي طمح راشد في الزواج منها فبالعكس تسمى سكينة لتدل على سكون واستقرار نفسه بحبها ولتظهر وجهة نظر السارد التي مَثَّلَها راشد قائلا: "الفقر ليس عيباً
السخرية التي وظفها الداموك أبرزت التناقضات والصراعات في الرواية على مستويات متعددة، فهناك صراع داخلي في نفوس الشابين جبران وراشد كي يحققا أهدافهما و يثبتا ذواتهما أمام أنفسهما والآخرين، وصراع الجبرتي لإثبات قدرته على انجاب الابن الذي يحمل اسمه ويعينه في تجارته ويُشَّرِفه أمام الناس، وعلى مستوى آخر الصراع الخارجي مع الحوت النافق الذي يمثل الصراع مع الطبيعة لاستخراج والاستفادة من العنبر. أما الصراع الخارجي مع الآخرين فيتعدد المحاور، فأوله صراع خارجي طبقي بين التاجر والفقير الذي يود ابن التاجر الزواج من ابنته فيوبخ الجبرتي ابنه راشد :"ألم تجد رجلاً ترتبط به سوى هذا المعدم! ويجيبه ابنه "الفقر ليس عيبا"[10] وصراع مع السلطة بشكلها الأبوي والأمومي، وأهم أشكال الصراع الذي تم التركيز عليه في الرواية هو الصراع بشكله السياسي ممثلاً في المأمور الذي أبرزه السارد بشخصية هزلية ضعيفة وخائفة ومحاولته فرض سلطته على مجتمع القرية بسلاحه القديم المهترئ، وما يمثله من رمزية ليحمي الحوت الذي هو ليس ملكاً للقرية بل للدولة فيُرسِل برقية وينتظر الأوامر التي سوف تصله، حتى وإن فَسِدَ لحم الحوت. ويتبلور أيضا صراع مع الأجنبي ممثلا بالبروفيسور، وصراع بين المركز القوي وهو العاصمة من جانب والأطراف المهمشة الممثلة بالقرية البسيطة من جانب آخر، وصراع القرية نفسها مع قرية مجاورة منافسة لها وهذا ينعكس في شخصية الداشر والذي يمثل شخصية غير محترمة في مجتمعه وخارج عن قيمه لكنه يدافع في نفس الوقت عما يراه حقاً لقريته بقوة ذراعه لأن الحوت وُجِدَ على أرضها. ويلعب كُلّا من نوعي الصراع الداخلي والخارجي دوراً مهماً ينضج رؤيتنا للشخصيات، ويدفع بالحبكة القصصية إلى ذروة الحدث وثم الحل
وفي الخاتمة تبرز محورية الرغبات الفردية التي تراكمت جمعيّاً، واندكت في حالة مجتمعية تم تفريغها بشكل معلن وقاسٍ على رموز السلطة الممثلة بالأب والملا والمأمور والعريف والبروفيسور الأجنبي فكانت حالة تمرد شاملة على ما في داخل الذات الإنسانية من خوف وطاعة وانصياع للسلطة، ويصف السارد هذه الحالة: "كان الوضع متفجراً وسريعاً يلامس رغباتٍ مكنونة، كلهم شاركوا في نهش الحوت. وقبل نهاية النهار، كان الحوتُ هيكلاً عظميّاً ملقىً على الشاطئ."[11]
طرحت فيما سبق لمحات من توظيف للسخرية على مستوى الشكل والمضمون كأداة فعَّالة لرسم الشخصيات، وتطور الأحداث، وإبراز مكامن الصراع، وبالتالي ايصال المعنى للقارئ، وتحتاج الرواية لعدة قراءات، ومساحة أوسع للتطرق لما جاء فيها من أسلوب ساخر باستفاضة
كتابة: نجاة الشافعي
بيت السرد/ جمعية الثقافة والفنون في الدمام
في ٢٢/٥/٢٠٢٣م
[1] . رواية الحوت، ص ٨.
[2] . رواية الحوت، ص ١٢٦.
[3] . رواية الحوت، ص ٧٨.
[4] . رواية الحوت، ص ٩٩.
[5] . رواية الحوت، ص ١٠٠.
[6] . رواية الحوت، ص ٤١، ٤٢ و٤٤.
[7] . رواية الحوت، ص ٤١
[8]. رواية الحوت، ص٣٩.
[9] . رواية الحوت، ص٣٩.
[10] . ص ٩٧ و٩٨.
[11] . رواية الحوت، ص ١٣٥.
رحلة عابرة للتذوق
رحلة عابرة للتذوق
تحسستُ جلدها الأملس، ضغطتُ عليها برقة فأصدرت آهة خافتة تخطِبُ ودّي فاستجبتُ لإغوائها، وأبقيتها ملتصقة بي طوال رحلتي والتي استغرقت حوالي الساعة.
قضمتُ لقمة من الكيكة الهشة التي سريعاً ما ذابت في حلقي. استمتعتُ بمضغها، وأنا أحتسي الشاي في كوب ورقي، ليته كان من زجاج بلوري شفاف لأثمل بمراقبة مكعبي السكر يتعانقان ثم يذوبان شيئاً فشيئاً في أحضان المياه الحارة، وقطرات الشاي الساحرة تتراقص طرباً في حلقات صوفية بديعة في داخل الكأس.
من المؤسف إن كل شيء تقلص على متن هذه الخطوط، حجم المقاعد، عدد الحقائب ووزنها، وحتى الوجبات أصابتها النحافة ماعدا سعر التذاكر الذي لم تصبه إلا الشراهة؛ لكن لحسن الحظ ظلّ طعم الكيك لذيذاً؛ ليس بالحلو الذي يصعقك بحلاوته فيستحيل حامضاً في فمك بعد أن تمضغه، وليس فاقداً للسكر فلا تطيق بلعه. ما زالتْ –لله الحمد— مخبوزاتهم الفاتنة الممتشقة القوام تدغدغ حليمات التذوق فتنعشني في رحلات العمل المملة.
انتهت المضيفتان الشاهقتي الطول من جمع ما تبقى من هياكل الوجبات. ثمّ صاح الرُبَان بصوت حازم باللغة الإنجليزيةــ بما معناه: اجلسوا أيها المضيفون! سنهبط الآن! وفي تلك الأثناء انتهيتُ من ارتشاف آخر قطرة شاي، وأبقيتها معلقة في فمي لعدة ثواني قبل أن تنزلق دافئة في بلعومي، وعندها قلّبتها بين كفيّ أتأملُ ما نُقِشَ في جسدها من حروف وصور.
لامستْ عجلتا الطائرة الأسمنت الصلب، واهتزّ ذيلها فانتفضنا في مقاعدنا نفضاً، وانقضّ على مسامعنا صرير حاد، صاحبه بكاء طفل رضيع في المقعد الأمامي.
أعلن أحد المضيفين بلهجة مستعجلة: الحمد لله على السلامة! نود تزكيركم بالتزام مقاعدكم حتى تتوقف الطائرة، سعيدون جداً بخدمتكم، نراكم قريباً على متن إحدى طائراتنا.
وأعقبها متحدثاً بالإنجليزية الركيكة:
Sank you for travel wiz us! Please remain in your chair, we are please to serve you, see you soon in one of our flitz!
عندها سارعت بالوقوف فَهَوَتْ من حضني، طقطقتْ عظامها، واستقرتْ على الأرض تسلّم أنفاسها الأخيرة، وأنا أهرول لباب الطائرة جاراً حقيبتي الثقيلة.
كتابة وتصوير: نجاة الشافعي
.تنويه: أدوات الترقيم غير دقيقة بسبب إن الموقع ــ للأسف ــ لا يتوافق تماما مع اللغة العربية
تصوير نجاة الشافعي مدينة الدمام ،٢٠١٤م
المرأة الإماراتية تُمخِرُ عباب المحيط
روح أي بلد تتمثل في ثقافتها، علومها وآدابها، وفنونها القديمة والحديثة، والمرأة الإمارتية تُسهِم بشكل جلّي في خلق روح ثقافية تضخّ فيها علمها ومعرفتها وخبراتها الثرية. كانت لي زيارة قصيرة لإمارة الفجيرة، ومن خلال عيني قاصة من السعودية تعرفتُ على بعض أوجه النشاط الثقافي فيها جعلني أشعرُ بما يعتمل في بوتقة المرأة من حيوية فائقة حيث أن المرأة الإماراتية قد أصبحت رافداً أساسياً للتطور العلمي، والثقافي، والمعرفي وفي مقالي هذا سأركز على زيارتي لدار المحيط للنشر
ولأني كنتُ وما زلتُ مهووسة بالكتب، أتتبع أثرها في كل حدب وصوب، كان المرفأ الأول في رحلتي هو دار المحيط للنشر والتوزيع والتي تُطّل في منظر خلّاب على البحر الساحر والجبال الشاهقة من الطابق الثالث عشر في مبنى الهلال، قصدتها بهدف أن أطلع على قصص الأطفال بصفتي مهتمة بالقصة القصيرة وأيضاً بأدب الطفل واليافعين، وجذبتني قصص الصغار المتنوعة فيها بحلتها الفنية القشيبة ومواضيعها المفيدة مثل “عظيم كالزرّ”، “حكايات جليلة وفتنة”، “كبكوبة وخيط”، و“المعلمة عجيبة في المدرسة الغريبة”. جولتي في دار المحيط وجدتها ممتعة أيضا لتزويدها بجلسات مريحة لكي يتمكن مرتادي المكتبة من الاطلاع على الكتب وقراءتها وليس فقط ابتياعها
تربعّتْ أيضا على رفوف المحيط مجموعة كتبٌ تراثية وتاريخية قيمة تنشرها الدار، شدني منها كتاب “الصفات في لهجة الامارات” وواحد عن “فن المسبّع (الدانة)” الذي يأتي في سبع أبيات ثم طالعتُ مجموعة قصصية اسمها "زمان أول" للكاتبة عايشة الظنحاني من منشورات دار المحيط في ٢٠٢١م، حيث تروي الكاتبة والتربوية عائشة المتخصصة في اللغة العربية والعلوم الإسلامية عدة قصص من ذكريات الزمن الجميل التي عاشتها الأمهات والجدات مثل: "العطارة"، "كرخانة أم مطر"، "المعِقصّة"، و"الحنّاية" وغيرها من القصص بهدف ربط الأجيال الحديثة بتراثهم، وسحرتني ماكينة الخياطة القديمة في صورة الغلاف وتسمى في اللهجة الإماراتية المحلية "الكارخانة" ــ كما أخبرتني الأستاذة منال النقبي مديرة الدار لاحقاً
ذكرتني ماكينة الخياطة بتجربتي في صغري، والتي لم تكلل بالنجاح في تعلم الخياطة عند جارتنا أم ناصر والتي كنا نعتبرها بمثابة خالتي، وعندما كَبِرتُ صرت أنسج القصص بدل خياطة الملابس. ومن القصة والتراث إلى الفلسفة حيث كانت بين الرفوف مجموعة كتب من منشورات بيت الفلسفة ومقره الفجيرة تتولى الدار أيضا بيعها وتوزيعها، وتحتوي على كتب تعريفية بالفلسفة ومواضيعها وتاريخها وقضاياها بشكل عام مثل كتاب “ضرورة الفلسفة” للدكتور أحمد برقاوي، وكتب متخصصة بعضها مترجم مثل “فلسفة الحرية”، "الموضة دراسة فلسفية”، “فلسفة الملل”، “فن الجوع”، “فلسفة الخوف”، وغيرها وسلسلة كتب تعريفية بأعلام الفلسفة العرب مثل: “ابن رشد”، “ابن باجة”، “ابن طفيل”، و”ابن سينا” وغيرها
في آخر جولتي في محيط الكتب رأيت إعلاناً لورشة في فنون السرد: القصة القصيرة نموذجاً مع القاص والروائي إسلام أبو شكير من إعداد الدار فسجلت فيها لكي أطور مهاراتي في الكتابة، ولم أكن أعلم أن القدر قد ساقنّي للتعرف على ثلاث قاصّات إماراتيات في يوم واحد. كانت عائشة الظنحاني كاتبة (زمان أول) جالسة عن يميني فتعرفت عليها وأخبرتها عن اعجابي بتوجهها لإحياء التراث من خلال قصصها الشيقة وكتبت لي إهداء على كتابها نابعاً من عشقها للتراث ورغبتها في إحياء ذكريات الزمن الجميل ومن صميم قلبها الدافئ: “لعل رائحة حناء.. قهوة.. عطر قديم يستشعرها جيل غابت عنه تفاصيل (زمان أول)
وفي الورشة التقيت أيضاً بإعلامية وقاصّة إماراتية هي رقية فرحان الكعبي صاحبة مجموعة قصصية "دلوعة باباتي" نشرتها في عام ٢٠٢٢ متحتوي على ٢٣ قصة ممتعة. والقاصّة الثالثة كانت مديرة دار المحيط منال النقبي نفسها فلقد نشرت مجموعة قصصية (غصون أماليد) في ٢٠١٩ م وتضم باقة من قصص النساء من دول متعددة تستعرض فيها بعض تحديات ومشاكل المرأة في أمكنة مختلفة. وأثمرت الدورة الغنية بالمعلومات عن القصة القصيرة وخصائصها وأمثلة عليها والتدريبات التطبيقية عن ولادة أربعة نصوص قصصية لي، اخترت واحداً منها: (قدمان برائحة السمك الفاسد) وعملت على تطويره من خلال النقد البناء الذي أسداه لنا الأستاذ الجليل إسلام أبو شكير ورفيقات الورشة
وبعد انتهاء الدورة طرحت رقية الكعبي قصة قصيرة للنقاش ولتطبيق ما تعلمناه في الورشة وهي قصة "الضفيرة" من مجموعة "المرآة" لمنى عبد القادر العلي وهي قاصة وفنانة تشكيلية إماراتية، ومن خلال النقاش الغني حول الضفيرة تعرفنا على أسلوب القاصة منى العلي من منظور تحليلي ومنى العلي كانت رابع القاصّات الإماراتيات اللاتي تعرفت عليهن خلال رحلتي للفجيرة
وكذلك يستضيف صالون المحيط فعاليات ثقافية متنوعة فلقد حالفني الحظ بحضور محاضرة رائعة للأخصائية النفسية الاستاذة نورة النقبي من تنظيم جمعية الفجيرة الاجتماعية الثقافية عَرَضَتْ فيها بطريقة حوارية شيقة مفهوم وآلية التشافي بالقراءة والتي من الممكن أن يستخدمها الاخصائي النفسي كطريقة علاجية، وأوضحت فيها دور القراءة فيها حياتها بأمثلة واقعية ودورها في حياتنا جميعاً وضرورة تعزيز عادة وحب القراءة لدى الجميع
ارتَدتُ دار المحيط أيام الورشة، ثم ذهبت للقراءة والكتابة هناك كلما سنحت لي الفرصة، ووجدت المكان رائقاً وملهِماً فكلما قلّبت في الكتب المنتقاة بعناية فيها كلما تفتقّت الأفكار وانبعثت القصص من فانوس علاء الدين الذي أحمله أينما ذهبت
جولتي في دار المحيط أعادت نبض الحياة لرحلاتي المكوكية القديمة في مكتبات بغداد ودمشق وشارع الحمراء في بيروت والساقي في لندن وارتيادي لمعارض الكتب حيث أنسى نفسي وأبحر في عوالم بديعة، وأخرجُ منها متأبطةً عشرات الكتب وأنا أشعر بالحماسة لسبر أغوارها؛ لذلك خرجتُ من المحيط إلى شاطئ المظلات الذي يطل على المحيط الهندي مصطحبةً قصة أطفال "كبكوبة وخيط"، وكتاب "ضرورة الفلسفة"، وقصص "زمان أول"، وفي الفجيرة قصص أخرى سأكتب عنها لاحقاً
نجاة الشافعي
٢٨ شعبان، ١٤٤٤ هـ
فريد عقد فريد
ماذا دهى والده.. مدرّس اللغة العربية.. عندما سَمَّاه: فريد عقد فريد.. كان مَثَار تندّر أقرانه.. لكني سَمْيتُه منذ طفولتنا: فرايدي
(Friday)
لأني أحب الإنجليزية.. وأحب يوم الجمعة.. يوم العطلة.. وأحب صديقي فرايدي جداً جداً
واُدَلِّلُـهُ
(Fred)
دَخَنَّ غليونه، نفضّ قدمه اليسرى، رفعَ بها للأعلى قليلاً ثم أنزلها للأسفل، تهبط وترتفع ثم تهبط، ترسم دائرة رشيقة، كأنّه يَقُودُ دراجة هوائية برِجل واحدة، سحبَ نفساً ملوثاً بالقطران المتفحم ثم نفثَ الدخان في وجهي، عدلّ من جلسته، اتكأ بعضده الأيمن على الأريكة الوثيرة، واصلَ نميمته، وواصلتُ الاستمتاع
قبل أن يبلغ الأربعين؛ كانت حياة فرايدي في مُجمَلِها هادئة.. حياة عادية جداً جداً.. أيّ كائن يأتي من طبقة متوسطة يعيِشُ بطموح طبقته وهمومها.. يجتهِدُ في دراسته.. يجّد في حياته.. يفشل وينجح.. ينجح ويفشل.. يتطلَع أن يصير صنو أبيه.. وزوجته صنو أمه.. تعينّ فرايدي كمعلم لغة عربية في مدينة بعيدة.. يعيش في شقة بالإيجار.. يقود سيارة بالأقساط.. يُحِّبُه طلابه.. يحترِمُه بواب العمارة.. وتزوج من ابنة عمه.. لكن لم يُنجِب
سحبَ نفساً عميقاً آخراً، ونفثَ زفرة دخان حارة في وجهي، قادَ دراجته غدواً ورواحاً، ورواحاً وغدواً، يَحلِبُ ثمالة التبغ من فوهة الغليون، انتابته كحة ارجفت عظيمات قفصه الصدري، ارتعشَ كَمَنْ مَسَّه تيار كهربائي، واستمرت الكلمات تسري بِدَوّي مُخَدّر من حنجرته
كلُ واحدٍ من زملائه يتمنى أن يصبح موجِهاً أو مساعداً للمدير أو يُنقَل لمدرسة قريبة من بيته أو يزيد مرتبه أو يؤسس عملاً تجارياً خاصاً إلا هو.. كان فرايدي على النقيض منهم... قنوع جداً جداً.. يؤدي ما يُناطُ بهِ من مسؤوليات كمعلم، وزوج، وابن، وصديق، وجار على أكمل وجه.. ولا يطمح للكثير.. مسالم إلى أقصى حد.. لا يؤذي بعوضة.. ولا يدوس على ساق نملة
في يوم عيد ميلاد فريد عقد فريد الأربعين.. بداية الشهر الرابع .. وفي بداية كل شهر.. يقدم إعانة بسيطة لرفيقه الحميم.. عنده أربعة أبناء ذكور.. لكن يبدد ماله في تدخين السيجار الكوبي المُقَلّد في الصين.. سَمِعَهُ يتحدث في هاتفه
سأهدِيكِ ما طلبتي.. يا سيدتي.. أحدثُ (آيفون) نزلَ في السوق.. كم فوز عندي! أراكِ الليلة
لم يُجبه فريد عندما دقّ الجرس.. رحلَ حانقاً.. وسيل عارم من العبارات النابية.. انطلق من فِيِهِ.. واقتحم أزيزه طبلة أذنيّ فرايدي
مَنْ يحسب نفسه! هذا الكلب الأجرب.. يتظاهر إنه لا يسمعني أطرقُ الباب.. حمار بلّ أكثر بلادة من حمار.. ما ذنب الحمار أن ننسبه إليه.. تافه مغرور.. فريد عقد فريد عربيد.. أصلع قبيح.. ذو وجه صغير.. وخشم مفلطح كبير.. الغلط مني إني جئت لهذا البخيل المدقع.. مسكينة زوجته.. كيف تتحمل ذفر إبطيه النتنة.. وريحُ فمه المقزّزة؟ !
بدلَّ قدماً بأخرى، هزّ اليمنى بدل اليسرى، أنهكه الحديثُ فبدأ يقود الدراجة الهوائية بلا اتزان، يترنح صاعداً ونازلاً، يضيق نَفَسَه وهو يتسلق المرتفعات، ثم تتسابق أنفاسه وهو يهبطُ المنحنيات، سحبَ نفساً عميقاً من غليونه، شعرتُ به يدوخ ثم يهدأ، ويعود إلى طبيعته، يُكمِلُ لي مغامرات فرايدي
في اليوم التالي ذهبَ إلى مدرسته.. لقنّ الطلاب دروسهم.. قدموا له بطاقات بمناسبة عيد ميلاده.. شكرهم وأقفل راجعاً.. مرّ بالمقهى.. وأمسك بيد العجوز.. يقوده كعادته في كلّ ظهيرة لمنزله.. فابنه يرميه في المقهى حتى يُشفِق عليه أحد ما.. ويعيده للمنزل.. ليُرِيح الزبائن من شخيره المزعج.. وهلوساته التي تضحكهم.. حتى يتطافر الدمع من أعينهم
أيها العنز الشهم! اجلب لي كرسياً أمدُّ عليه رجلي.. أين الشاي! أنت يا حارث الملعون! سرقت من جدّي حصانه.. أين ولدي.. يا ملاعين! عبلة! أين الشاي! حتى الشاي! يا أولاد..! أريد بسكويت! تأخر العشاء
أمسكه بحنان غامر.. مشيا معاً بهدوء.. فجأة نظر العجوز في وجهه مندهشاً
!أين الشاي! أين ابني! لماذا تُمسِكني؟ أتركني! أتركني! أتريد أن تسرق شركاتي! تسرق أموالي! يا حرامي! حرامي! حرامي! امسكوا الملعون
احاطوا به.. مَنْ سيُشَكِّك برواية هَرِمٍ يطلِبُ النجدة! تجمدّ دم فريد عقد فريد في شرايينه.. استجوبوه ولم ينطُق.. تعجبتُ منه.. كيف تَتَأتَى له ألاّ يَرُدّ.. ألاّ تَفتُرَعن ثغرِه لفظة يدافع بها عن نفسه.. لم يَزُمّ شفتيه أو يرتفع حاجباه.. لم تحمرّ وجنتيه ويتعرق جبينه.. لم يلهث أو تتسارع أنفاسه.. لم تَنتَفِخ أوداجُه.. كيف لبشر أن يصير صنماً.. بملامح رجل وكينونة حجر؟! تساءلتُ في سِرّي: هل من الممكن أن نفقد آدميتنا.. أن تنمحق رجولتنا.. أن نتشيء.. أن نتحول - في وقت ما- إلى رِجل كرسي.. ذرة سماد.. صنان إبط.. نباح كلب أو صرصار كافكا
لحسن حظه.. أنا.. أنا صديق فرايدي.. أنا روبنسون كروزو انقذته.. مررتُ بالحشد الغاضب.. انتشلته من بين أيديهم.. وإلاّ لسلموه للشرطة.. هَدَأّتُ من روع العجوز.. وأعدته للمنزل.. لكن فريد الأخرس ظلّ واقفاً لساعات في قارعة الطريق.. والناس محتارون في أمره.. وهو لا يكترث بهم.. كتمثالٌ يستظّل بعمود النور
أضافَ جُرعةً من التبغ الفاخر إلى جوف الغليون. تناولتُ قداحّته الذهبية، وأشعلته له، انفرجت أساريره، تأرجحتْ قدمه لتقود الدراجة، ونفثَ الدخان في وجهي. أنصّتُ له بفضولِ من يسترق النظر من نوافذ الجيران
عاد فرايدي إلى المنزل.. شمّ رائحة الباذنجان المقلي.. سببّت له الغثيان.. طبختْ المسقعة.. وهي تعلم إنه يكرهها.. يمقتُ الباذنجان.. يحرق معدته.. يسبب له تهيجاً في القولون.. أضرب فرايدي عن الطعام.. وأضرب عن الشراب.. وأضرب عن الكلام.. وأمور أخرى.. قاطعها تماماً.. حاولتْ تبرير فعلتها الشنيعة.. أصابني الملل.. تغيير بسيط.. لم يجبها.. صففت شعرها الكستنائي اللامع.. ارتدت أجمل حلة في دولاب الملابس.. رشّت العطر الباريسي الثمين.. ارتدت كعبها العالي.. خرجت لتزور جارتها.. عادت متأخرة.. مبعثرة الشعر.. لعبتْ مع قطتها.. نامتا.. فرايدي جالس في مقعده.. ينظر ببرود لساعة الحائط.. دقتّ مُعلِنَةً انتحار الليل..
في اليوم التالي ذهب فرايدي للمدرسة.. استقبله زميله بحفاوة بالغة: والدي مريض جداً جداً.. قدمّتُ على إجازة لإجراء فحوصات طبية له.. اجمع فصلي وفصلك معاً.. وعلّم الطلاب.. وصلّح دفاترهم حتى أعود.. وافق بكل أريحية.. وعندما كان يسافر في عالم (الفيسبوك).. رأى صورته في تايلند برفقتي.. نحتسي الشاي معا.. في غابة بوهيمية ساحرة.. ندخن السيجار الكوبي الفاخر.. نقهقه.. كالقردة..
هل تعاطفت معه؟! إياك! ثم إياك! ثم إياك! كنتُ غبياً مثلك.. أشعر بالشفقة عليه.. لكن بعد أن عاد فرايدي من تايلند.. نفض عن جلده الرماد.. كالحرباء.. كالعنقاء.. كالغول.. بعد أن عاد فرايدي من تايلند.. عنفّ والده العجوز الذي صاح به: حرامي.. قام بِرَمْيِهِ في دار العجزة.. ولم يزره أبدا.. بعد أن عاد فرايدي من تايلند.. حطم هاتف زوجته فوزية.. جزّ شعرها بسكين حادة.. طلقها.. طردها.. سحق قطتها بسيارته.. بعد أن عاد فرايدي من تايلند.. شتمَّ المعلمين.. وكلّ الإداريين.. والمستخدمين.. ومزقّ بطاقات الطلبة.. وألقى باستقالته في وجه المدير مزمجراً
!!!!!أنا! أنا فريد عقد فريد!! أنا لَسْتُ معلما
حطّت العنقاء في مخدعي.. تسللَّ على أطراف أصابعه.. اختبأ خلف الستارة.. جنّي يعدّ أنفاسي.. أنا.. أنا الفارس المقنع الذي ساندته.. عندما كان أبوه يصرخ به حرامي.. وهو متخشب كالتمثال.. وأنا.. أنا الخل الوفي.. الذي كنتُ أهدر وقتي الثمين.. أتحدث مع امرأة مسكينة.. أحّل مشاكلها المستعصية مع زوجها اللئيم.. امرأة استأمنتني على أسرارها.. ووأدتها في صحراء الصمت.. امرأة جميلة جداً جداً.. ذات حظ عاثر جداً جداً.. لجأتْ إليّ.. لولا شهامتي لجُنّت.. لولا نُبلِي لهربت من زوجها المتبلد الشعور
حسبته آدمياً.. توسلتُ إليه.. أن يسمح لي.. يَدَعُنِي أدخّن غليوني.. ألتذّ بسحب نفس عميق.. نفخة من القطران الملتهب.. للمرة الأخيرة.. آخر مرة.. حَلِفتُ له.. إنه تشابه أسماء.. هي فائزة.. وليست فوزية زوجته.. لكنه خنقني بحبل غسيل قذر.. جَلَبَه من حديقتي الخلفية.. ربطه حول عنقي بإحكام.. شدّه بتلذذ مازوشيتي.. ظل يبحلق في عينيّ.. بدون أن يرتد إليه طرفه.. أو يفتر ثغره عن كلمة
ألم أقل لك! إنه أنجس من خنزير.. أرعَنُ مِنْ ثور.. أدهى من ثعلبٍ.. كلب بن كلب.. كلبُ شوارعٍ نجس.. أجبنُ من ضبع.. أسرعُ من عقرب.. يلدغ ويفرّ.. أحقر من خنزيرٍ! لن تعرف فريد عقد فريد إلاّ إذا عاشرته مدة طويلة مثلي
نظرَ السجّان إليه، وهو يرفع قدماً يتبعها بأخرى كَمَنْ يصعد سلماً للنجاة، ولا يصل للدرجة الأخيرة
!فريد عقد فريد! زائرٌ لك!! فائزة
١ رمضان ١٤٤٤هـ
كتابة ورسم
نجاة الشافعي
عِطرٌ يليقُ بِكِ
وتعيّرُنا بأن العطر لا يليق بنا
Read Moreقصة قصيرة جدا
ومشينا بخطى الجبال لنصنع الجمال في صحائف الأطفال
Read Moreحرارة وحلاوة
أيها الطفل
تَحَسَسْ الجدار حينما تسير وتَمَسَك، تَمَسَك
أطِل النَّظرَ في البعيدَ وواصِلَ المسير
تَحَرَكْ، أيها الطفل، تَحَرَكْ
إن لم تصلْ هناك
…لن يَصِلَ غيرك
Read Moreالثالثة والثانية والأولى
وفي ذلك الصباح الباهر تدفق المطر وغرد الشجر وأينع الثمر وابتهج البشر
Read Moreتأبين العام الجديد
تأبينُ العام الجديد
لوحة نجاة الشافعي
هذه السنة
٢
٠
٢
٣
اِحتِفَالُها مختلف
أسدلت شعرها
ارتدت فستاناً أحمراً
لم تفعلْ شيئاً في تأبينِ السنة الجديدة البتة
سِوَى إنها أشعلتْ
٣
٦
٥
شمعة
ثم أطفأت أيامها ولياليها كلّها
واحدة
واحدة
واحدة
حتى آخِرَ رمق
كم شعرتْ بفرحٍ لا يُوصَفْ
نجاة الشافعي