رحمُ الولادةِ الأربعين


في ساعة الولادة يُقرَعُ الجرس. يتصارعُ أملٌ خاثر في عنق الزجاجة المعتمة، تبكي، تصرخ، تتصدع. ينطلِقُ رجع الصدى هادراً في الفراغ، يتكسّر الصمتُ شظايا حارة، مولودٌ آخر يقتحم الهواء الحامض قفصه الصدري، وتنحسِرُ أجنحة الصقور مقيدة بسلاسلَ إلى الأرض البور، وفي رحم الحقيقة ينمو للعنقاء ٤٤ وجه، وتنتثر بذور مصّفرة في البيداء.

 

في تمامِ القمر، رجلٌ خارجيٌ يتنسّك في كثبان الرمال، يفترش جُبتّه أمام الخيمة، يَصُّب قهوته الغليظة في فناجين الغرباء، وفي الخريف تسري في بدنه الحمى الحمراء فيتجه إلى حيث النار التي لا تنطفئ، يَلْتَّفُّ يساراً، يَكذِبُ ليُصَدَّق، ويُصَدَّق لِيَكْذُب، والكذب الأبيض والأسود والأصفر وخرائط منسحقة الألوان جمارٌ تتقدّ تحتَ الرماد. 

 

تسير بين الجموع الغائمة، وحيدة تنتظره عند باب المدينة العتيقة تتأبط ٥٥ رسالة كتبها لها في ليل الحنين الحالك. تضحكُ بملء شدقيها، تدوي قهقهتها المتقطعة كهدير مدافع، ولم يسمعها أحد من غير الصُّم. دبَّت ألسِنة اللهب في جفونها، وهي تضحك حتى في الحلم، ثم تستيقظ ضاحكة بعد سبع سنوات مُجدِبات، تسير بخرطوم فيل يرشّ الماء على الحشود المحررة، لا أحد منهم يعرف سِّر الضَّحِك الذي تجلبهُ أكمامه العريضة وتطحنه خبزاً للبؤساء، لا أحد يعلم أنه ذبح جواده ليُطعِم المارقين عند باب خيمته، أنه يسير بكامل أناقته بين الجثث العارية من الكرامة، يمشي على قدميه بين الزاحفين على ظهورهم وبطونهم، المتقلّبين ببوصلة مشروخة، حتى ليلى نفسها لم يُبِح لها عن سره العميق، خبأه بين ثنايا عباءته، وضمّه زهوراً وحدائق في حبر رسائله ليفاجأها عندما يأتي برائحة الطين المعتق، وهسهسة النخل الأسمر، وعنفوان الخل الأخضر. 

 

لا أحد يعلم سّره سوى ناقته وصهيل الصحراء التي يمتطيها! لا يخمدُ أبداً عشقه السماويّ، وبعدسة جنونه يرى ليلى الناصعة الشاهقة. يرى ليلى هي ليلى، ليلى أرضٌ أبدية للعاشقين، ليست رملاً أو تراباً أو أبنية تشظّت، وإنما الواحات عيون ليلى التي ترفد العابرين، حنجرة المؤذن وأجراس الكنائس تغريد ليلى، النسائم الدافئة أنفاس ليلى، التين والزيتون والليمون أشجار نبتت من أهداب ليلى، الأطفال الذين يطّيرون الطائرات الورقية أبناء ليلى، والنساء الجميلات المزغردات وصيفات ليلى، والحناء القاني حناء ليلى، والعشق والهيام وأقصى نقمات الجنون كُلّه ليلى. لا شيء سوى ليلى! 

 

خاطبتها الريح بصوت انزلق من أوتار أشجار الزيتون، من خلف الجدار العازل، ومن بين الأسلاك الشائكة:

 

يا ليلى! يا أصل العشق وجذوته السرمدّية، فصله وفصوله، قصصه القصيرة والطويلة.

 

يا ليلى! واصلٌ هو قبل أن يَصِلكِ، عارفٌ قبل أن يَعرِفكِ، له ٤٨ يداً ليتسلق جدائلكِ حتى يصل إلى مدّ شفتيك قبل الهجيع.

 

يا ليلى! قوافل المرضى والجذاميين تؤمّ إليكِ، تتعمدّ بثغركِ الشافي، فيرتفع بوهج كفيكِ الداء، ويصيبهم داء ما له بُرء. 

 

وتندكّين يا ليلى في كل الأزمان! كُنتِ قبل أن تكوني، في أروقة المعابد، والنقوش المحفورة في الكهوف، والحدائق المعلقة في السماء، تصبين في النيل ليفيض في الدلتا، تسقين الماء فراتاً، وتخصبين الأرض ربيعاً، تروين العطشى عشقاً لا ينقطع، لا ينتهي حتى يبدأ.  

  

يا ليلى الخارج والداخل وما بينهما من زوايا حادة ومسافات مهشمة، هو ثَمِلُ قبل أن يراكِ، فما باله حين يراك، ويا ليلى هل سيعرِف من هو بعد أن يراك، يا ليلى سوف يُبصِر بك، وبعد أن يرتد إليه بصره سيغشاه النور فلا يستطيع أن يرى! 

 

يا ليلى! أقسّمتِ أنّ من يظفر برسائلك التائهة وله ٤٨ يداً سيرقد خالداً في مذبحك، أن من يحترق حتى صبابة العشق في وضح النهار عند ثكنة الثعالب سيلِج بابك، أن من يُفجرّ رأسه حتى آخر رمق من حُبِّه سيبحر في شرايينك المائجة، أنّ من تتكسر مجاذيفه في يمّ العطش ويغرق في جوعه سيرتشف قهوتك ويأكل خبزك في مأدبة العشاء الأخير. 

 

اِعلمي يا ليلى، إن وصل متأخرا فقد سبقهم جميعاً شهيداً في مقلة عينيك، وسيحصد الرطب لأنك نخلته، وسيسير رافعاً هامته لأنك زمام ناقته.

 

ليلى يا ليلى! تأخر لكنه أول الواصلين في أربعين ليلة! وصلَ مجنونكِ إلى أعتاب البشارة، وقد فاضت روحه بالدموع لتروي الغيمات والزهرات والسعفات، والمخيمات التي تفترشها نجوم السماء!

 

كتابة ورسم

نجاة ناجي الشافعي

١٢ مارس ٢٠٢٤م

مدنٌ صديقة للتوحُّد التجربة السعودية.. واقع وآفاق

شهدت السنوات الأخيرة ازديادًا في عدد المراكز والجمعيات الخاصة بالتوحُّد. وبدأت المؤسسات والشركات والمجتمعات والمدن تتحوَّل إلى صديقة للتوحُّد بعد إعداد وتهيئة وتنفيذ حزمة من التغييرات في البنية المادية وإعداد الكوادر البشرية. كما بدأ العمل في دعم المصابين بطيف التوحُّد بكثير من البرامج التشخيصية والتعليمية والعلاجية، ومنحهم فرص العمل والتوظيف المناسب لقدراتهم، وتمكينهم من عيش حياة كريمة كبقية أفراد المجتمع

ما اضطراب طيف التوحُّد تحديدًا؟

تُسلِّط وزارة الصحة السعودية الضوءَ على التوحُّد في موقعها الإلكتروني وفي نشراتها التوعوية في اليوم العالمي للتوحُّد، على أنه ليس مرضًا، وأن “اضطراب طيف التوحُّد”، كما يُطلق عليه علميًا، هو اضطرابٌ نمائيٌّ يؤثر في التواصل والسلوك، ويسبِّب تحديات اجتماعيةً، وغالبًا لا يوجد ما يميِّز الأشخاص المصابين عن غيرهم، ولكن قد تكون طريقةُ تعلُّمهم وتواصلهم وتفاعـلهم وتصرُّفهم مختلفةً عن الآخرين. وتتفاوت قدرات التعلُّم والتفكير وحل المشكلات لديهم؛ فهناك أشخاص موهوبون، وآخرون ذوو تحديات شديدة تجعلهم يحتاجون إلى المساعدة في أعمال الحياة اليومية أكثر من غيرهم وتظهر اضطرابات طيف التوحُّد في مرحلة الطفولة، غير أنها تميل إلى الاستمرار في فترة المراهقة وسن البلوغ. ويمكن للتدخلات النفسية والاجتماعية مثل أنشطة معالجة السلوك، أن تحدَّ من صعوبات التواصل والسلوك الاجتماعي، وتؤثر إيجابًا في العافية ونوعية الحياة

في الأوساط الغربية، بدأ مصطلح “التنوع العصبي” يشهد رواجًا منذ تسعينيات القرن العشرين، ويُستخدم كذلك في الأمم المتحدة بديلًا للفظة “اضطراب”. إذ إن بعض المصابين بالتوحُّد يتمتعون بنقـاط قوة، مثل: القدرة على التركيز، والتعرُّف على الأنماط، وتذكُّر المعلومات، وغيرها. ويشمل “التنوع العصبي”، بالإضافة إلى ذوي اضطراب التوحُّد، الأشخاص الذين يعـالج دماغُـهم المعلومات بطريقة غير نمطية، مثل: صعوبات التعلُّم، واضطرابات نقص الانتباه، والقلق، وغيرها. ولذلك يدعو المختصّون والمهتمّون بالتوحُّد إلى أن تكون مدننا مهيئةً لاستيعاب المتنوّعين عصبيًا بدعمهم ببرامج مختصة، وتهيئة البيئة المكانية التي تُلبِّي احتياجاتهم سواء في المؤسسات التعليمية والعلاجية، أو أماكن عملهم، أو الأماكن العامة، أو وسائل النقل

المؤشرات الإحصائية لذوي الصعوبات في المملكة

تشير بعض المؤشرات الإحصائية العامة إلى أن نسبة ذوي الصعوبات الخفيفة والمتوسطة والشديدة في المملكة العربية السعودية، تبلغ %7.1 من إجمالي عدد السكان، ويمثِّل الذكور منهم %3.7، والإناث %3.4 (الهيئة العامة للإحصاء، 2017م). ومن بين هذه النسبة عدد غير محدد من ذوي اضطراب طيف التوحُّد. ولدعم التوحُّد، شهد عدد الجمعيات التي تخدم هذه الفئة تصاعدًا مطردًا حتى وصل إلى سبع عشرة جمعية للتوحُّد في جميع مناطق المملكة في عام 2022م، ووردت تسمياتها وتصنيفها وتوزيعها الجغرافي في بيانات المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي

ويُذكر أن هناك كثيرًا من المراكز المختصة بالتوحُّد، ومنها “مركز شمعة التوحُّد للتأهيل” الذي أُسِّس في عام 2016م بدعم من أرامكو السعودية في الدمام، ثم صار لديه فرع في الجبيل في المنطقة الشرقية، بينما يجري العمل على فرع آخر في الأحساء؛ لتقديم خدمات نوعية لذوي طيف التوحُّد من خلال التدريب والتشخيص والتدخل المبكر. وقد أصبح هذا المركز أوَّلَ مركز يحصل على اعتماد في الشرق الأوسط من اللجنة الدولية لاعتماد مرافق إعادة التأهيل (CARF) في عام 2021م. وكذلك حصل “مركز الأمير فيصل بن سلمان للتوحُّد” في المدينة المنورة، الذي أُسِّس عام 2021م، على الاعتماد بوصفه مركزًا معتمدًا للتوحُّد (CAC) من المجلس الدولي لاعتماد معايير التعليم المستمر (IBCCES) في مايو 2024م. وعادة ما يُمنح هذا الترخيصُ للمؤسسات التي درَّبت %80 أو أكثر من موظفيها الذين يتعاملون مع الجمهور على برامج متخصصة بالتوحُّد، وهو ما يزوّدهم بالفهم والمهارات اللازمة لتحسين التواصل والاستجابة للأفراد المصابين بالتوحُّد، وتقديم خدمات استثنائية لأسر المصابين وللمجتمع ككل

على المستوى التشريعي

على المستوى التشريعي، صدر في المملكة العربية السعودية نظام حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة بقرار مجلس الوزراء رقم (110) وتاريخ 1445/2/6هـ، ويشمل مجموعةً من القوانين لحماية حقوق ذوي الإعاقة، ومنها ما يتعلق بالتسهيلات اللازمة لهم للتنقل الآمن والوصول إلى الخدمات؛ حيث ورد في المادة الأولى: “إمكانية الوصول: مجموعة التدابير المناسبة التي تكفل إمكانية وصول الأشخاص ذوي الإعاقة إلى الخدمات المقدمة، على قدم المساواة مع غيرهم، ووصولهم أيضًا إلى البيئة المادية المحيطة بهم ووسائل النقل والمعلومات والاتصالات”. وورد أيضًا في المادة الثالثة: “ضمان حق الأشخاص ذوي الإعاقة في التنقل بسهولة وأمان عند تصميم وتنفيذ الطرق الداخلية والأرصفة وطرق المشاة ومواقف المركبات”

وفي إطار الاهتمام بهذه الفئة في المجتمع، أُسِّست هيئة رعاية الأشخاص ذوي الإعاقة بقرار من مجلـس الـوزراء في 1439هـ، وهي المظلة الرسـمية الجامعة لكلِّ ما يُعنى بالأشخاص ذوي الإعاقة فـي المملكـة، والهادفة إلى تمكين ذوي الإعاقة وضمان حصولهم على حقوقهم، وتعزيز دورهم في المجتمع، والعمل على تطوير الخدمات التي تقدِّمها الجهات لهم. ومن ضمن هذه التسهيلات، منح وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بطاقةً يمكن إصدارها إلكترونيًا لذوي “اضطراب التوحُّد” للتعريف بهم، ولتسهيل حركتهم في الأماكن العامة، وإعطائهم الأولوية عند مراجعة المستشفيات والمراكز الصحية وغيرها

المدينة المنورة.. أولى المدن صديقة التوحُّد

على الصعيد المحلي، تميَّز عام 2024م بتزايد الدعم لذوي طيف التوحُّد على وجه التحديد. إذ أطلق “برنامج سند محمد بن سلمان” مبادرة “طيف التوحُّد” في شهر يناير. وتهدف المبادرة إلى تشخيص المصابين باضطراب طيف التوحُّد وتأهيلهم وتدريبهم؛ لمساعدتهم على الاندماج في المجتمع، وتعزيز استقلاليتهم والاعتماد على الذات، وتوعية الأسرة بكل ما يخص المُصاب، وتوفير فرص عمل للشباب. وبلغ عدد المستفيدين من دعم “برنامج سند محمد بن سلمان” أكثر من 1400 شخص و10 جمعيات من خلال 17 برنامجًا في 8 مناطق من المملكة، ومن المبادرات الرائدة أيضًا لدمج ذوي طيف التوحُّد في المجتمع، تسجيل المدينة المنورة اسمها بوصفها أول مدينة صديقة للتوحُّد في الشرق الأوسط، والرابعة عالميًا، وذلك بعد توقيع اتفاقية بين جمعية “تمكن” للتوحُّد مع “البورد الأمريكي للاعتماد الدولي ومعايير التعلم المستمر” في 9 مايو 2024م. وتهدف هذه الاتفاقية إلى خلق بيئة داعمة لذوي التوحُّد على مستوى المنطقة، وتحقيق الالتزام بشمولية الدعم للمستفيدين، وتنفيذ التدابير المعيارية التي تضمن أن تكون المدينة المنورة موضع ترحيب يتواءَمُ مع متطلباتهم واحتياجات أسرهم، فضلًا عن تدريب واسع النطاق لأفراد المجتمع والعاملين في الأجهزة الحكومية والقطاع الخاص لرفع مستوى الوعي ومهارات التواصل والسلوك الاجتماعي

والجدير بالذكر أن تسميـة المدينة المعتمدة للتوحُّد أو المدينــة الصديقـة للتــوحد Autism Certified City (ACC)، تُمنح عادة من قبل المجلس الدولي لاعتماد معايير التعليم المستمر (IBCCES)، بناءً على استيفاء المعايير الآتية في المجالات المختلفة

التعليم: سيكون المعلمون وغيرهم من الموظفين مثل سائقي الحافلات والمعلمين المساعدين، مدربين وقادرين على تلمس احتياجات الطلاب ذوي طيف التوحُّد، والعمل معهم بشكل أفضل. وكذلك توفير معلومات حديثة ومتعددة التخصصات لمعلمي الدروس الخصوصية، ومراكز التعلُّم وغيرها؛ لمساعدتهم على تحسين النتائج، وتيسير تواصلهم مع المجتمع. ومن الأمثلة لمشاريع أُقيمت في مدن عدة من العالم في هذا المجال، تأسيس “معهد تعليم التوحُّد” (ATI) في مدينة ملبورن في أستراليا؛ لتقديم تدريب متخصص للمعلمين لإنشاء فصول دراسية أكثر شمولًا، تتضمن غرفًا حسية وخططًا تربوية فردية لدعم الطلاب المُصابين بالتوحُّد. وفي “منطقة سان دييغو الموحدة للمدارس” في الولايات المتحدة الأمريكية، برامج تعليمية خاصة قوية مصمّمة خصوصًا لتلبية احتياجات الطلاب المُصابين بالتوحُّد

التـوظيف: يمكن لأصحاب العمل في الشركات تعلُّم كيفية إدارة وجذب قوة عاملة متنوعة عصبيًا بشكل أفضل. وتشمل هذه القوة العاملة ذوي طيف التوحُّد، وعسر القراءة، وتشتت الانتباه، والقلق، وأنواعًا عصبية أخرى. ومن التجارب الملهمة في هذا المجال شركة دنماركية (Specialisterne) تعمل بنشاط على توظيف الأفراد المُصابين بالتوحُّد، مع الاعتراف بمهاراتهم الفريدة في مجالات مثل تكنولوجيا المعلومات وتحليل البيانات. وفي العاصمة الأمريكية واشنطن، تتعاون إدارة خدمات الإعاقة في مقاطعة كولومبيا مع الشركات المحلية لخلق فرص عمل للأفراد المصابين بالتوحُّد، وتوفير التدريب الوظيفي، وغير ذلك من أشكال الدعم لضمان نجاحهم

الرعاية الصحية: يمكن للمستشفيات وأقسام الطوارئ والعيادات خدمة المجتمع والتواصل مع ذوي التنوّع العصبي بشكل أفضل، وضمان التشخيص الدقيق والزيارات الفعَّالة والرعاية الفُضلى لجميع المرضى. ففي مدينة تورنتو الكندية، مثلًا، يقدِّم مستشفى “هولاند بلورفيو لإعادة تأهيل الأطفال” خدمات متخصصة لمرضى التوحُّد، وتشمل بيئات رعاية صحية صديقة للحواس وموظفين مدربين على تلبية الاحتياجات الفريدة. وفي مدينة لوس أنجلوس في ولاية كاليفورنيا، يقدِّم “مركز جامعة كاليفورنيا لأبحاث وعلاج التوحُّد” رعاية ودعمًا شاملين للأفراد المُصابين بالتوحُّد، بما في ذلك غرف فحص صديقة للحواس ورعاية منسقة عبر تخصصات متعددة

السلامة العامة: يجب أن يكون لدى المستجيبين الأوائل مثل رجال الشرطة والإسعاف وغيرهم من العاملين في أجهزة تطبيق القانون، التدريب والتجهيز اللازمين للتعامل مع الأشخاص المصابين بالتوحُّد، والاضطرابات الحسية الأخرى بطريقة إيجابية. وفي هذا الإطار، نذكر برنامج “تدريب التدخل في الأزمات” الذي وضعته إدارة الشرطة في مدينة سياتل في ولاية واشنطن، والذي يتضمن وحدات تدريبية للتعامل مع الأفراد المصابين بالتوحُّد، بحيث يساعد هذا التدريب الضباط على التعرُّف إلى علامات التوحُّد والاستجابة بشكل فعَّال أثناء حالات الطوارئ. بالإضافة إلى خدمة تقدِّمها شرطة مدينة لندن، وهي “بطاقة تنبيه التوحُّد” التي توفر معلومات عن حالة الفرد وأفضل طريقة للتواصل معه، وهو ما يساعد ضباط الشرطة والمستجيبين الأوائل على اتخاذ الإجراءات المناسبة

مجال الضيافة والترفيه: تحسين تجربة الضيوف من ذوي طيف التوحُّد وأُسرهم في مختلف المنشآت، مثل: الفنادق والمطاعم والمتنزهات. وذلك من خلال توفير التدريب اللازم للموظفين لتمكينهم من التعامل مع هذه الفئة بشكل أفضل، وتوفير بيئة ملائمة تلبي احتياجاتهم الخاصة. ومن جهة الترفيه، ستكون المتنزهات وأماكن الترفيه والمسارح ومراكز الترفيه العائلية والمعالم السياحية، قادرة على خدمة الضيوف من جميع الاحتياجات بشكل أفضل، ومساعدتهم على الاستمتاع بتجربتهم، وهو ما يسمح لهذه المنشآت بجذب وخدمة المزيد من الأُسر، بالإضافة إلى زيادة تمكين الموظفين فيها ورفع معنوياتهم. وكأمثلة ملهمة، نشير إلى ما أنشأته إمارة أبوظبي في الإمارات العربية المتحدة من “غرف حسية” في المراكز التجارية والمناطق الحيوية، بهدف توفير مساحات آمنة للأطفال أصحاب الهمم، لا سيَّما أطفال التوحُّد لتعزيز رفاهيتهم واندماجهم في الأماكن العامة. كما يمكن العودة إلى ما قدَّمته منشآت مثل “متحف أريزونا للتاريخ الطبيعي” في مدينة ميسا الأمريكية، الذي وفّر دليلًا للتأثير الحسي للغرف المختلفة ضمن المعرض، ولا سيَّما أن التحديات الحسية مثل الضوضاء غير المتوقعة والأضواء الساطعة والأماكن المزدحمة، هي التي تمثِّل التحدي الأكبر للأفراد المصابين بالتوحُّد. وعلى سبيل المثال، يُصنِّف هذا الدليل قاعة الديناصورات بـ5 من 10 لتحفيز الحواس الصوتية، و3 من 10 للمحفزات البصرية، و2 من 10 للمس، و1 فقط من 10 للشم والتذوق. ويمكن الاطلاع عليه إمِّا عبر الإنترنت، أو مشاهدته عند مدخل المعرض

نجاة الشافعي

مقال منشور في قافلة الزيت

عدد سبتمبر – أكتوبر | 2024

أبجدية العشق

تستدرجني أبجدية العشق

إلى لغات العالم

الأبيض والأسمر

الأحمر والأصفر

باحثة عن طوق الزيتون

عن طفلة ضائعة منذ الرحيل

.قوافل سائرة للمهجر

 

يا بحر الهوى

يا راسم ملامحي في الدجى

أغثني من ألوان كئيبة

تعشش في حنجرتي

تبتر أجنحتي

وضمني إلى جناحك

.فوق صهوة جوادك الأمهر

 

يا سر الأسفار

أتغفر لساعي بريدٍ محى خرائطك

رسائل حبي التي ضاعت عنك

في لجة الأشواق إنثالت الأبجدية

.حين انتفضت سعفات الشغف الأخضر

 

أتغفر لي الزلل في طرائق الحب

يا قدري الذي لم يغب عني

يا قمري وقافية قصائدي

يا محور دائرتي

.في تجليات سماوات العشق الأكبر

 

ما عدت قادرة

ألاّ أغفو في صميم عينيك

ألاّ أترنم بألحان شفتيك

ألاّ أعدو بين ارتعاشة ذراعيك

أمتني ثم أبعثني على صدر الرياحين

أقطف عبق الياسمين

.وألظم زهور العنبر

نجاة الشافعي

ديسمبر ٢٠٢٣م

ديكنسون والهيدروجين

أحُس أني من كثرة قراءة شعر أميلي ديكنسون والكتب التي كتبت عنها قد تقمصت شخصيتها. هي تعتزل الناس وتكتفي بالنظر من نافذتها الصغيرة وأنا أيضا أغلق النوافذ والأبواب وأكتفي بالنظر إلى شاشة الكمبيوتر والجوال والآيباد. هي تكتب الشعر وأنا أيضا أهوى قراءة وكتابة الشعر ولدي هوايات أخرى: التطريز والكروشيه وإعداد الكعك والشاي مشروبي المفضل وعشقي الذي ليس له حدود

 

حتى بعد تقاعدي أستيقظ في السادسة كل صباح.  كل يوم أجلس على نفس الكرسي في غرفة المكتب. كالعادة الستارة مُنسدلة والغرفة معتمة ومصباح صغير يضيء المكتب. لا أفتح الستائر خشية أن يتسلل النور فيُعشي بصري. تتحسس عيناي من الضوء منذ أجريت عملية الليزر قبل خمس وعشرين سنة. لذلك أرتدي نظارة خاصة معتمة للنظر إلى شاشة الكمبيوتر. أضع كأس الشاي بالقرب مني على قطعة قماش مزخرفة بورود حمراء صنعتها بنفسي. أرتشفه على مهل ثم اشرب كأس ماء لأن ريقي يجف بعد شرب الشاي. الآن الكل يذهب للمقاهي ويتحدث عن القهوة ويضعون صورها في وسائل التواصل الاجتماعي لكني أكرهها منذ طفولتي. كانت أمي تمنعنا من شربها وتقول إنه عيب شربها للفتيات. البعض يسلط الأضواء هذه الأيام على شاي الكركك أي الشاي بالحليب وهذا أيضا أمقته حتى الثمالة فهو مجرد سائل حليبي له طعم مقزز. ما أفضله هو الشاي الأسود التقليدي شاي الوزة وليس أكياس الشاي. أغليه في الأبريق فيصبح أسودا محمرا أخلطه بقليل من الماء المغلي الصافي وكثير من السكر وأحيانا أضيف له بتلات من الورد الجوري لتعطيه طعم ماء ورد منعش

 

الشاي يعني لي إعادة برمجة مخي. عندما استيقظ من النوم رأسي يكون في دوامة يمتزج فيها الحلم بالحقيقة. عندما استيقن أنني في الواقع ابدأ أفكر فيما ينبغي علي إنجازه من مهام خلال اليوم. علقت على الثلاجة قائمة طويلة وجداول لأتذكر مهام اليوم والأسبوع والشهر والسنة. لا أستطيع أن أفكر أو أعمل أي شيء بدون أن أكتبه وأراه أمامي واتفحصه مليا. عملت من القائمة نسخة في الملاحظات على الجول لكي أستطيع الاطلاع عليها في أي مكان وفي أي وقت أشاء. كذلك صورت القائمة الورقية واحتفظت بها في البوم الصور في الجوال والآيباد والكمبيوتر. يؤرقني الزمن وضياعه وخاصة الآن في خريف عمري. الوقت طائر يجب اقتناصه قبل أن يفر من أيدينا. لذلك الساعات تملأ منزلنا يضعها أبي الذي يؤرقه مثلي الزمن في كل مكان. حتى في الحمام لدينا ساعة بيضاء معلقة على الجدار وأخرى وردية على شكل دجاجة

 

تعيش في هذه الفترة من حياتها بما يسمى بالإنجليزية “her own bubble” وهي عبارة ليس لها مرادف دقيق في العربية. يمكننا جزافا أن نترجمها إلى فقاعة أو قوقعة أو حيز. هي تسميها هالة أو حقل من حقول الطاقة مثل التي تحيط بالنواة في الذرات ويسبح فيها الالكترونات. كم عشقت الفيزياء وبالخصوص الذرات! ودت لو تسبح فيها للأبد. صنعت مجسما لذرة من كرة بيسبول خضراء وطلتها بالأزرق ثم أحضرت كرة تنس طاولة بيضاء صغيرة ولفتّ حول خصرها النحيف سلك نحاسي أوصلته بالكرة الخضراء. حملت المجسم ورأته زميلتها التي اعتمدت عليها لعمل المشروع فقطبت حاجبيها ونهرتها: "لماذا لم تتبعي ارشادات المدرسة لعمل المجسم كما أوضحت لنا عشرات المرات وعادت وزادت وكتبته على السبورة وكتبناه في كراريسنا. هي تريد ذرات بها أكثر من الكترون وأنت وضعت واحدا فقط!" أجبتها: "لكني أحب الهيدروجين! ذرة بها نيترون واحد ويطوف حولها الكترون واحد." واصلت زميلتها: "لكن هذا لن ينفع لدرسنا وسنأخذ صفر للمشروع! ثم طلاء المجسم يجب أن يكون الالكترون أحمرا ليمثل الطاقة التي به والنواة بيضاء وأنت لم تتقيدي بهذه الألوان". أحابتها: "لكن الإلكترون يطير بريشه الأبيض والنواة هي السماء والبحر التي يحلق فيهما." احتدت زميلتها قائلة:" خلاص، خلاص! خبئيه في كيسك وأعيديه إلى بيتك. لا تريه أحداً! سأقول للمدرسة أننا نسينا المجسم وسأعمل واحدا أحضره الحصة القادمة لنأخذ درجة عالية وليس صفرا". هززت رأسها بانكسار وحبست الدموع في عينيي

 

ما زالت أحتفظ بالمجسم أضعه على رف مقابل مكتبي. لا ولم يفهمني أحدا، زميلاتي ومدرسة العلوم ووالدتي. الهيدروجين أبسط العناصر وأهمها يدخل تقريبا في كل شيء. منه يتكون الماء الذي نشربه والهواء الذي نتنفسه. ترى كل الأشياء حية حتى الجمادات تتنفس وتتحدث بلغة خاصة بها. حتى الجسد في حالة تغير وكل الخلايا تتغير. خلايا تشيخ وخلايا تولد وخلايا تنقسم وخلايا تلتحم وخلايا تندمج تتغير كل يوم حركة دائمة متقنة. الالكترون يحلق كما هو الأمل في قصيدة أميلي ديكنسون: الأمل هو ذلك الكائن ذو الريش. الحروف والكلمات تدور في رأسي مثل الالكترونات والبروتونات وتباغتني وأنا جالسة ونائمة تقلقني قد تكون القصيده متعثرة ولادتها أو قيصريه أو سلسله أضع بجوار المجسم صندوقا أحتفظ فيه بريش الطيور كلما سرت ورأيت ريشة وضعتها في الصندوق. لقد امتلأ حتى رمته ربما أحتاج إلى آخر

 

دق جوالها فلم تجب كعادتها. جرت كرسيها المتحرك من خلف المكتب. اتجهت للمطبخ لتحضر لها أبريق آخر من الشاي على أمل أن تكتب قصيدة جديدة ستسميها ديكنسون والهيدروجين

 

نجاة الشافعي

11/7/2019

قراءة في قصة انفجار للكاتب كاظم الخليفة

مِثلُ سجادةٍ أعجميةٍ فاخرة نُسجت بخيوطٍ حريرية دقيقة، تتمعنُ في نقوشها الآسرة، فتنثالُ الألوان في رحلة بصرية أخاذّة، تسحرك الصورة الكاملة، ثم تتوغل في تفاصيلها البالغة الحيوية، يتفجر الجمال من كل عقدة في السجادة، هكذا شعرتُ وأنا أقرأ القصة القصيرة "انفجار.." للكاتب كاظم الخليفة والتي تتصدر مجموعته القصصية: "مائل بخط الرقعة"، والحائزة على المركز الثاني في مسابقة نادي حائل الأدبي في عام ٢٠١٨م، وسوف أتطرق في هذه القراءة الإنطباعية إلى بعض الملامح التي أتضحت لي من قراءة قصة: انفجار 

حَبْكُ النهاية بالبداية

من ذروة الحدث كانت بداية النص في حبكة شيقة حيث تبدأ القصة بعبارة "انتهى كل شيء الآن..، وخبا بريق ألسنة اللهب والدخان المنبعث من غرفة الاحتراق الداخلي لمولد الكهرباء بعد انفجارها" يلي ذلك وصف السارد بصوت المتكلم المشارك لمشهد الدمار الذي حل بسبب هذه الكارثة التي طالت الحجر والبشر، فيبّين:" نخوض في وحل ذلك المزيج الرمادي من مياه إطفاء الحريق الممتزج ب "الرغوة" وبعض الزيوت المتسربة" ثم يعرج على الضرر البشري: "وعلى جانب المصطبة بقايا ملابس ممزقة ومنكمشة بفعل الحريق، وكذلك بعض الأحذية المشوّهة” تخلل المشهد لحظة تواصل إنساني بين السارد وعبد الله وهو مشرف النوبة في مشهد مؤثر: "يشد عبدالله على يدي ويضغط عليها بوتيرة متسارعة وهو يبعدني عن مكان الإسعاف. لكنني ألمح في وجهه مسحة إشفاق 

نَسجُ المكان والزمان

يعود الراوي إلى لحظة سماعه بالخبر باستخدام تقنية الفلاش باك، واستيقاظه في الصباح الباكر، وتتضح لنا من هذا المشهد أن الشخصية الرئيسية في القصة هو "مشرف الصيانة" والذي يُطلَب منه كتابة تقرير عن الحادثة المؤسفة. وبعد أن وضّح السارد الزمان والذي تحدد بحادثة الانفجار التي سبقتْ الاتصال بمشرف الصيانة في الفجر، حددّ لنا أيضاً المكان وهو يتكون من معامل نفطية ومجمّع سكني وسط الصحراء، والمعمل يصفه الراوي بأنه يشكل "بيئة صناعية" ذاماًّ إياها بأنها: "تذيب أي معنى روحي وتطلع ميتافيزيقي، تنطبع روحك بما يجاورها في البيئة.. مادية صارمة وجفاف كتصحر الأراضي المحيطة بالمعامل". ثم يصف بشاعة هذه المعامل التي تسلب الروح بأنها "تنتصب مثل عفاريت ألف ليلة وليلة. غربة أخرى وتلاشي حس الحياة"، والمكان الثالث المتحرك هو الطريق أو الشريان الذي يربط بين المجمع السكني والمعامل حيث ينتقل مشرف الصيانة بالسيارة من المجمع السكني إلى المعمل البعيد واصفاً الطريق بسخرية مُرّة: "الجمل هو الشيء الوحيد الذي ينظر إليك هنا.." ويذكر أن المعمل المقصود هو معمل نفطي واصفاً ذلك "وعندما تفقد إحساسك بالمكان وتشعر بثبات الزمان، يُرجعك من إغماءاتك مرأي بعض المنشآت البترولية المتباعدة

اللبّ

ومن القشرة نَلِجُ للثمرة أو لبّ القصة حين تتداعى أفكار مشرف الصيانة من كتابة التقرير عن كارثة انفجار المعمل إلى وظيفة اللغة في حالات مثل هذه حيث تتقلص اللغة عن التعبير عن الحدث الذي يحمل بشاعة الحدوث من جهة ومن جهة أخرى بشاعة التعبير عنه بلغة آلية باردة فيذكر التالي: "تقتضي كتابة التقرير التقني أن يكون الاعتماد على مرويات الآلات وشهاداتها وليس البشر." وكأن اللغة استحالت أيضاً إلى مُعّدة من المعدات أو مكينة من المكائن، ليست اللغة فقط التي تصحرّت؛ وإنما الإنسان الذي ينتج هذه اللغة عندما يعيش في البيئة الصناعية التي تسحقه. يرسم السارد على لسان "مشرف الصيانة" التباين والفرق الجلي بين البيئة البحرية والزراعية واللتان تحملان طابعاً إنسانياً، والصناعية المتصحِرة حيث يتجرد الإنسان من الروح ويصبح جزء من الآلة الهائلة التي تحرك الاقتصاد، فمثلاً الشخصية المحورية في القصة نعرف وظيفته كمشرف الصيانة ولا نعرف له اسم، لأنه فقط رقم في سجل الشركة فيوضح الراوي ذلك ساخراً: في البحر أنسنوا المراكب، منحوها أسماء أحبائهم، كما هو تقليد قريتي في تسمية المزارع ونعوتها. ونحن هنا "مكننا" الإنسان فهو ١٢٣٤ يُعطى أمراً بالعمل على المعدة رقم… المدرب الأمريكي في معهد الشركة أفاض في وصف معدة وأجزائها، ثم قارنها بالحيوان. الحيوان أيضاً آلة مثل (الساعة تحكمها اللوالب والدواليب).. فقدنا إذاً شريكنا في الكوكب.. الحيوان؟! وفي نفس السياق يُذكَر أن الموظف قد تحول إلى رقم: "أليس الجسد هنا هو أحد الموارد ومن أصول الشركة الثابتة؟

يشركنا السارد في رؤيته للإنسان والوجود ويطرح مفارقة بين العقل المادي والعقل النظري: "علاقتنا بالمعامل شبيهة بارتباطنا بهذا الكون! تتّفق البشرية على الغاية من الجهد المبذول ومقابله في العمل وتختلف في معنى الوجود وغايته!" وفي سياق آخر يصف إحساس مشرف الصيانة وهو يربط جسده في المركبة بحزام الأمان: "هو إحساس مفعم بالتيهان وضياع بوصلة الوجود أن تكون مجرد رقم وظيفي في منظمة صناعية تعمل على مدار الساعة". لذلك تعكس القصة شعور بالاغتراب وعدم الانتماء في البيئة الصناعية القائمة في وسط الصحراء والتي تُشَيّء الإنسان فيصير برغي في آلة وأداة للإنتاج فتسحق بذلك مشاعره واحتياجاته وأحلامه

الاستشهادات

في نطاق القصة يتم الإحالة إلى بعض الاستشهادات، والتي أزعم أنها تدعم العمود الفقري للقصة وبنيتها السردية في موارد شعرتُ بأنها طبيعية وليست مقحمة لتضيف للقصة جنبة دلالية عميقة. أول الاستشهادات أبيات الشعر للشاعر المبدع وبطل المعلقة، الشاعر جاسم الصحيح، وبهذه الأبيات يستهّل القصة، وهذه الديباجة ليست من المألوف في عرف القصة القصيرة، وهي كالتالي

إذا انفردَتْ بِيَ الصحراءُ كالعــــــرَّافةِ الكهْلَهْ

وصار الدربُ ثعبانــاً بطول مســــافة الرحلَهْ

وحاولتُ الصلاةَ هناكَ لكنْ ضـــــاعَتِ القِبلَهْ

أصلِّي باتجاهِ النخــــــلِ حين تعـــنُّ لِي نخلَهْ. 

هذه الأبيات تأتي من قصيدة لجاسم الصحيح عن الأحساء ويلي الأبيات الأولى التالي

هِيَ الأحساءُ قِبلتِــــيَ-القديمةُ والهوى الدائــــمْ

…وليستْ بقعةً بَرَكَــــتْ على صدر المدى الجاثِـــمْ

وتتضح دلالة هذه الأبيات وارتباطها بالقصة عندما نبحر في النص، ونصل إلى نهايته حيث الراوي يريد أن يوصل فكرة أنه في خضم رحلة الضياع والوجع في الصحراء والتي لا تدل على بيئة جغرافية فقط وإنما على كل ما هو متصحر من الحضارة الإنسانية بسبب الصناعة، هناك ما زال أمل وهو النخلة التي تربط الإنسان بالأرض وهي رمز للهوية والانتماء، هذه الصورة المضيئة مقابلة للصورة القاتمة للإنسان الذي يغدو برغي في آلة الإنتاج، والرقم الذي يدفع بعجلة الاقتصاد

في إحالة أخرى تمتزج التقريرية أو السحنة العلمية بوصفية عالية تفعلّ الحواس الخمسة ومداراتها؛ فلذلك لا تخلّ بتوازن النص ولا تشعر المتلقي بالملل أو فقد الاتزان، ومثال على مهارة الراوي في تشبيك التقريري بالساخر ليدل على استغلال الإنسان في منظومة الاقتصاد حيث يُنظَر له فقط كأداة للإنتاج أو حمار يُدِير الرحى: "كم أمقت جون بولتون ونظرية الإنتاج ومدرسته "الإدارة العملية"، هو من قاس نشاطك وساعات وجودك في منظومة العمل ويطالبك بمقدار معين من الجهد.. هل يقصد جهد ثلاثين حماراً في اليوم؟"  وفي إطار توضيحه لتحول الإنسان إلى آلة يذكر ساخراً "وبالمقابل "سارتر"، الفيلسوف الفرنسي، شطح بالفكرة بعيداً.. فكما ينقله مهندس السلامة الأمريكي ممازحاً: العامل خلف الآلة يشعر بخيالات ورؤى جنسية.. ليغفر له الله وليقف نصف ساعة أمام غرفة الاحتراق في ماكينة.. لن يتراءى له سوى الجحيم. ذلك كان ردنا حينها

النقطتان المتتابعتان (..)

مما لفت نظري كثرة استخدام الكاتب للنقطتين المتتابعتين ".." وهي ليست من علامات الترقيم الأساسية في اللغة العربية، بل صارت تستعمل حديثاً في الشعر والنثر، استخدمها الكاتب ليس فقط في عنوان النص بعد كلمة "انفجار.." بل أيضاً بعد العبارة الأولى في النص: "انتهى كل شيء الآن.." واُستخدِمت نفس هذه العلامة "الفارقة" في أكثر من مرة في داخل النص بشكل صار يميز هذا النص القصصي عن غيره من النصوص، وكأن النقطتين صارتا محوريتان في لحمة النص أو كأنها متوالية حسابية تعتمد على النقطتين، فعلاما ترمز ولماذا استخدمت؟ لاحظت إنها توضع في نقاط مفصلية في النص وليس جزافاً كشفرة مورس تدل القارئ الحاذق على منابع الألم والشجن والتمزق في ذات السارد أو في إشارة إلى أن هناك ما يتبع، وعلى سبيل المثال: "الظلام ما زال متمدّداً وجاثماً في الصحراء.." وفي مورد آخر "الصحراء تسر لنا بالاقتضاب في الحديث.." وفي: "أساطير يغيب عنها الحب.." و "الأسبوع الأول.."، "شيئاً فشيئاً تدير ظهر لسانك وتشيح بفمك عن أبجديتك.."، "تهرم لغتك ومن يهرم ننكسه في العمر".. ، "وإن شعرت أنها لا تكفي فزينها بلغة جسدك المتخشب.."، "وليقف نصف ساعة أمام غرفة الاحتراق في ماكينة.."، "كل فرد يؤدي دوراً محدداً ومرسوماً بعناية.."، "الرمل الأصفر يشعرك أنّك محتل.."، "في الأرض كما هو الفضاء.."، "المعدات التي تسرها منظومة آلية في التحكم..".  من وجهة نظري، هاتان النقطتان المتتابعتان قد تكونان صرختي وجع مكتومة تغص بها الحنجرة بحيث يتوقف الكاتب ليدع للقارئ مساحة من التفكير  

لغة الآلات

اللغة التي تستعمل في المعامل والآلات هي لغة مناوئة، لغة غريبة عن بيئتها، لغة تعلم الرضوخ ولغة الأرقام التي تُشَيّء الإنسان، فالمفردة متلازمة مثل متلازمة مرضيه، فيُذكَر في النص أن: "يس" مفردة تصبح متلازمة لفظية تبتر بها كل حوار.. وربطها بما تلاها فقال: نجحتُ في اختبار الترويض وأصبحت مفكاً آخر في صندوق معدات المعمل. إذاً، "يس" اللفظة الإنجًليزية المرادفة لكلمة "نعم" في العربية نجحت في ترويض الإنسان ليصبح جزءاً من الماكنة الكبيرة. وفي هذا السياق يوضح السارد جنسية مهندس السلامة الأمريكي المثقف الذي ينقل لهم ما يقوله سارتر المفكر الفرنسي. ويذكر جون بولتون الأمريكي ونظرية الإنتاج والإدارة العملية، وأخيراً ترقيم المعدة بأرقام إنجليزية

نهاية الحكاية

أخيراً، كتب مشرف الصيانة التقرير التقني والذي يصفه بوجع: "يكون الاعتماد على مرويات الآلات وشهاداتها وليس البشر باسترجاع ذاكرتها الإلكترونية والانشغال بفكّ شفراتها لفهم حقيقة وشايتها على أوضاع سبقت انفجار المكينة" ثم يسترسل في ذكر بعض النقاط التفصيلية في التقرير بطابع تهكمي لاذع، ويشير السارد إلى أن "بقية التقارير كانت باللون الأحمر وتشير إلى معلومات غير منظّمة وليست منطقية في تتابعها.. كانت لحظة الانفجار

 وفي الخاتمة تفاجئنا القصة بمأسوية لم تفصح عنها في بدايتها حيث تم ذكر فقط المصابين الذين ادخلوا للمستشفى، وقد تكون هيأت لذلك بشكل ما فالإصابات الخطيرة قد تؤدي للوفاة. ونفسه عبد الله مشرف التشغيل، والذي ذُكِر في بداية القصة يظهر من جديد وفي تواصل إنساني عاطفي يستخدم يديه كما في بداية القصة، فِعلٌ لا تستطيع الآلات والماكينات القيام به. يوضح المشهد مشرف الصيانة

"عند هذا الحد من تلخيص التقرير، كان مشرف التشغيل عبدالله يقرؤه من وراء ظهري وأنا جالس، وأشار بإصبعه المرتجف إلى فقرة (الانفتاح والإغلاق المتكرر لصمّام الوقود) ويضغط بيده الأخرى على كتفي: كان صديقك سلمان في الموقع بجوار الماكينة.. بحثنا عنه طوال الليل إلى الفجر ولم نجده. كان يرثيه ويواسيني لفقده

وهنا هبط الحزن واعتصر قلبي فتذكرت حدثاً مؤلماً في طفولتي، تذكرت ألم جيراننا والحي بأكمله، بل البلدة كلها حين فقدنا جارنا "عيد السيهاتي" "أبو أحمد" جيراننا الذين يسكنون في البيت المقابل لبيتنا، والذي أحترق وتفحم جسده تماماً عندما انفجرت الرفاينري مصفاة رأس تنورة وتيتم أطفاله وهم صغار ولم يبقى شيء لدفنه. وتذكرت زوج صديقتي من صفوى والذي قضى أيضا في حادث مشابه في انفجار المصفاة، وترملت صديقتي في ريعان شبابها. تذكرت الثمن عندما تخطأ الآلات أم من يُشغِلُها

أثر الفراشة

كيف تعرف أن النص القصصي جيد أو أن القاصّ قد أحرز في نصه قدراً من الجمال والابداع، أعتقد كقارئة أن ذلك يتضح بما تتركه القصة بعد قراءتها من أثر في نفس المتلقي فكراً وروحاً، وكأن النص قطعة حصى تلقيها في الماء فتشهد تموجات وكلما كانت الحصى أثقل كلما زادت التموجات وهذا أتضح في نص: انفجار.. الذي حاول تحريك الراكد من المشاعر والأفكار أو بالأحرى طرح تساؤلات فلسفية وجودية عن الآلة ودورها وتحكمها في حياة البشر، وكيف صارت تسيطر الآلة وتحل محلّ الإنسان، وتسبب له الدمار وكيف أثر ذلك في كيان الإنسان فصار يحسّ بالاغتراب وعدم الانتماء لبيئة تستغله وتُشَيّئه

النص القصصي "انفجار.." متلاحم في شكله وتفاصيله ورؤيته ويشير بأصابع الاتهام للحضارة والبيئة الصناعية، وسحق الاقتصاد للإنسان، والتعامل معه كبرغي في آلة، ولا يدفع الثمن لهذا الاستغلال سوى الإنسان كسلمان، صديق مشرف الصيانة. يتم الإفصاح عن اسم "سلمان" وليس صديقه مشرف الصيانة، فعندما مات سلمان في انفجار المعمل عادت له إنسانيته، تحول من رقم إلى إنسان فالآلات لا تموت

 

القاصّة: نجاة الشافعي

٢٦ /٣/ ٢٠٢٤م

 

 

 

Islamophobia on Social Media

The media play a crucial role in manufacturing Islamophobia. Nathan Lean (2012) names such process as the “Islamophobia industry” that manufactures the fear of Muslims in the U.S. and Europe, especially by the Right movement groups, the pro-Israeli right and other influential politicians and journalists. Lean (2012) points out, “The Islamophobia industry is a growing enterprise, one that is knowledgeable about the devastating effects of fear on society and willing to produce and exploit it” (p.218).

Read More

الناجي الوحيد

النَاجِي الوحيد

في تمام السادسة صباحاً سارعتْ ذات القدمين الدافئتين لارتداء النِعَال العتيق الذي ورثته من والدتها. ذهبتْ إلى الخبّاز، ووقفتْ كالعادة تنتظر دورها في طابور تتدحرج فيه أحاديثٌ ألِفوها عن القصف الشرس والغارات المتواصلة والحصار الغادر، وعن انقطاع الكهرباء وندرة الماء، والغذاء، والدواء، وعرجّت الأحاديث المترعة بالشجن إلى تعداد أسماء العائلات التي حُصِدَت من السجل المدني في غضون ساعات. عادتْ للمنزل مثقلة بالهموم، فقط ثلاث أرغفة من الخبز سيقتسمونها حتى صباح اليوم التالي، ونزعتْ النعال لتعّد الفطور في المطبخ.

استيقظ في السادسة والنصف صباحاً ذا القدمين الباردتين، ولبس النعال مهرولاً نحو الباب. ذهبتْ لتوقظه فكان فراشه بارداً مثل قدميه. حسبته في الحمام فعادت للمطبخ. لم يجد سجائراً في السوق فعاد لاهثاً يحمل ربع بطيخة مفلوقة، ذات غلاف لامع أخضر، وجوف شهي أحمر، وترك النعال المـُـنهك عند الباب.

لبستاه قدمان سريعتي الإيقاع، وغاصتا فيه. كانتا قلقتين، فقد أوشكت باقة الانترنت على النفاد. فتحتا الباب وخرجتا لتبحثا عن طوقاً للتواصل مع من تبقى من أصدقائه؛ لكنهما عادتا حانقتان فلم تجدا ما تبحثان عنه؛ فلقد نفدت باقات الاتصال بالعالم الخارجي. خَلَعَ فردتي النعال المكتئب، وألقى به عند باب الحمام.

أمسكت بهما يد بريئة. تخيلتهما طائرتين نفاثتين تحلقان في السماء. دمدمت ضاحكة وهي تلعب فتحلقت حولها الأقدام الأخرى مبتهجة. فجأة انقلب عاليها سافلها، وأمطِروا بحجارة من سجيل. سقط النعال اليتيم تنزِف منه أحلامٌ بيضاء: أرغفة خبز وعلبة سجائر وباقة انترنت ولعبة طفل.

نجاة الشافعي

The artwork is mixed media on paper using water colors, wax and matches.

نجاة الشافعي

٢٥ أكتوبر ٢٠٢٣م

وَعْدٌ طائر


دقّ الجرس

فأنسّل من تحت الباب

.ليدخل عشي

 

طائرُ الكناريُّ الأصفر

تبنيتهُ بعد أن هاجر ابني

.وأودعني جناحيه

 

:ابني يهاتفني

هل كَبُر طَيرِي؟

!نعم، كَبُر مِثلُك

 هل نساني؟

!لا! لكن يغرد باكياً

 

أطعمته الحُب والحَب

وكلما غرّد

.أدمى قلبي

نكثتُ بعهدي

تناسيتُ إغلاق الباب

!لكنه ظلّ واقفاً عند القفص

 

كتابة وتصوير: نجاة الشافعي

٣٠ ديسمبر