رحمُ الولادةِ الأربعين


في ساعة الولادة يُقرَعُ الجرس. يتصارعُ أملٌ خاثر في عنق الزجاجة المعتمة، تبكي، تصرخ، تتصدع. ينطلِقُ رجع الصدى هادراً في الفراغ، يتكسّر الصمتُ شظايا حارة، مولودٌ آخر يقتحم الهواء الحامض قفصه الصدري، وتنحسِرُ أجنحة الصقور مقيدة بسلاسلَ إلى الأرض البور، وفي رحم الحقيقة ينمو للعنقاء ٤٤ وجه، وتنتثر بذور مصّفرة في البيداء.

 

في تمامِ القمر، رجلٌ خارجيٌ يتنسّك في كثبان الرمال، يفترش جُبتّه أمام الخيمة، يَصُّب قهوته الغليظة في فناجين الغرباء، وفي الخريف تسري في بدنه الحمى الحمراء فيتجه إلى حيث النار التي لا تنطفئ، يَلْتَّفُّ يساراً، يَكذِبُ ليُصَدَّق، ويُصَدَّق لِيَكْذُب، والكذب الأبيض والأسود والأصفر وخرائط منسحقة الألوان جمارٌ تتقدّ تحتَ الرماد. 

 

تسير بين الجموع الغائمة، وحيدة تنتظره عند باب المدينة العتيقة تتأبط ٥٥ رسالة كتبها لها في ليل الحنين الحالك. تضحكُ بملء شدقيها، تدوي قهقهتها المتقطعة كهدير مدافع، ولم يسمعها أحد من غير الصُّم. دبَّت ألسِنة اللهب في جفونها، وهي تضحك حتى في الحلم، ثم تستيقظ ضاحكة بعد سبع سنوات مُجدِبات، تسير بخرطوم فيل يرشّ الماء على الحشود المحررة، لا أحد منهم يعرف سِّر الضَّحِك الذي تجلبهُ أكمامه العريضة وتطحنه خبزاً للبؤساء، لا أحد يعلم أنه ذبح جواده ليُطعِم المارقين عند باب خيمته، أنه يسير بكامل أناقته بين الجثث العارية من الكرامة، يمشي على قدميه بين الزاحفين على ظهورهم وبطونهم، المتقلّبين ببوصلة مشروخة، حتى ليلى نفسها لم يُبِح لها عن سره العميق، خبأه بين ثنايا عباءته، وضمّه زهوراً وحدائق في حبر رسائله ليفاجأها عندما يأتي برائحة الطين المعتق، وهسهسة النخل الأسمر، وعنفوان الخل الأخضر. 

 

لا أحد يعلم سّره سوى ناقته وصهيل الصحراء التي يمتطيها! لا يخمدُ أبداً عشقه السماويّ، وبعدسة جنونه يرى ليلى الناصعة الشاهقة. يرى ليلى هي ليلى، ليلى أرضٌ أبدية للعاشقين، ليست رملاً أو تراباً أو أبنية تشظّت، وإنما الواحات عيون ليلى التي ترفد العابرين، حنجرة المؤذن وأجراس الكنائس تغريد ليلى، النسائم الدافئة أنفاس ليلى، التين والزيتون والليمون أشجار نبتت من أهداب ليلى، الأطفال الذين يطّيرون الطائرات الورقية أبناء ليلى، والنساء الجميلات المزغردات وصيفات ليلى، والحناء القاني حناء ليلى، والعشق والهيام وأقصى نقمات الجنون كُلّه ليلى. لا شيء سوى ليلى! 

 

خاطبتها الريح بصوت انزلق من أوتار أشجار الزيتون، من خلف الجدار العازل، ومن بين الأسلاك الشائكة:

 

يا ليلى! يا أصل العشق وجذوته السرمدّية، فصله وفصوله، قصصه القصيرة والطويلة.

 

يا ليلى! واصلٌ هو قبل أن يَصِلكِ، عارفٌ قبل أن يَعرِفكِ، له ٤٨ يداً ليتسلق جدائلكِ حتى يصل إلى مدّ شفتيك قبل الهجيع.

 

يا ليلى! قوافل المرضى والجذاميين تؤمّ إليكِ، تتعمدّ بثغركِ الشافي، فيرتفع بوهج كفيكِ الداء، ويصيبهم داء ما له بُرء. 

 

وتندكّين يا ليلى في كل الأزمان! كُنتِ قبل أن تكوني، في أروقة المعابد، والنقوش المحفورة في الكهوف، والحدائق المعلقة في السماء، تصبين في النيل ليفيض في الدلتا، تسقين الماء فراتاً، وتخصبين الأرض ربيعاً، تروين العطشى عشقاً لا ينقطع، لا ينتهي حتى يبدأ.  

  

يا ليلى الخارج والداخل وما بينهما من زوايا حادة ومسافات مهشمة، هو ثَمِلُ قبل أن يراكِ، فما باله حين يراك، ويا ليلى هل سيعرِف من هو بعد أن يراك، يا ليلى سوف يُبصِر بك، وبعد أن يرتد إليه بصره سيغشاه النور فلا يستطيع أن يرى! 

 

يا ليلى! أقسّمتِ أنّ من يظفر برسائلك التائهة وله ٤٨ يداً سيرقد خالداً في مذبحك، أن من يحترق حتى صبابة العشق في وضح النهار عند ثكنة الثعالب سيلِج بابك، أن من يُفجرّ رأسه حتى آخر رمق من حُبِّه سيبحر في شرايينك المائجة، أنّ من تتكسر مجاذيفه في يمّ العطش ويغرق في جوعه سيرتشف قهوتك ويأكل خبزك في مأدبة العشاء الأخير. 

 

اِعلمي يا ليلى، إن وصل متأخرا فقد سبقهم جميعاً شهيداً في مقلة عينيك، وسيحصد الرطب لأنك نخلته، وسيسير رافعاً هامته لأنك زمام ناقته.

 

ليلى يا ليلى! تأخر لكنه أول الواصلين في أربعين ليلة! وصلَ مجنونكِ إلى أعتاب البشارة، وقد فاضت روحه بالدموع لتروي الغيمات والزهرات والسعفات، والمخيمات التي تفترشها نجوم السماء!

 

كتابة ورسم

نجاة ناجي الشافعي

١٢ مارس ٢٠٢٤م

ديكنسون والهيدروجين

أحُس أني من كثرة قراءة شعر أميلي ديكنسون والكتب التي كتبت عنها قد تقمصت شخصيتها. هي تعتزل الناس وتكتفي بالنظر من نافذتها الصغيرة وأنا أيضا أغلق النوافذ والأبواب وأكتفي بالنظر إلى شاشة الكمبيوتر والجوال والآيباد. هي تكتب الشعر وأنا أيضا أهوى قراءة وكتابة الشعر ولدي هوايات أخرى: التطريز والكروشيه وإعداد الكعك والشاي مشروبي المفضل وعشقي الذي ليس له حدود

 

حتى بعد تقاعدي أستيقظ في السادسة كل صباح.  كل يوم أجلس على نفس الكرسي في غرفة المكتب. كالعادة الستارة مُنسدلة والغرفة معتمة ومصباح صغير يضيء المكتب. لا أفتح الستائر خشية أن يتسلل النور فيُعشي بصري. تتحسس عيناي من الضوء منذ أجريت عملية الليزر قبل خمس وعشرين سنة. لذلك أرتدي نظارة خاصة معتمة للنظر إلى شاشة الكمبيوتر. أضع كأس الشاي بالقرب مني على قطعة قماش مزخرفة بورود حمراء صنعتها بنفسي. أرتشفه على مهل ثم اشرب كأس ماء لأن ريقي يجف بعد شرب الشاي. الآن الكل يذهب للمقاهي ويتحدث عن القهوة ويضعون صورها في وسائل التواصل الاجتماعي لكني أكرهها منذ طفولتي. كانت أمي تمنعنا من شربها وتقول إنه عيب شربها للفتيات. البعض يسلط الأضواء هذه الأيام على شاي الكركك أي الشاي بالحليب وهذا أيضا أمقته حتى الثمالة فهو مجرد سائل حليبي له طعم مقزز. ما أفضله هو الشاي الأسود التقليدي شاي الوزة وليس أكياس الشاي. أغليه في الأبريق فيصبح أسودا محمرا أخلطه بقليل من الماء المغلي الصافي وكثير من السكر وأحيانا أضيف له بتلات من الورد الجوري لتعطيه طعم ماء ورد منعش

 

الشاي يعني لي إعادة برمجة مخي. عندما استيقظ من النوم رأسي يكون في دوامة يمتزج فيها الحلم بالحقيقة. عندما استيقن أنني في الواقع ابدأ أفكر فيما ينبغي علي إنجازه من مهام خلال اليوم. علقت على الثلاجة قائمة طويلة وجداول لأتذكر مهام اليوم والأسبوع والشهر والسنة. لا أستطيع أن أفكر أو أعمل أي شيء بدون أن أكتبه وأراه أمامي واتفحصه مليا. عملت من القائمة نسخة في الملاحظات على الجول لكي أستطيع الاطلاع عليها في أي مكان وفي أي وقت أشاء. كذلك صورت القائمة الورقية واحتفظت بها في البوم الصور في الجوال والآيباد والكمبيوتر. يؤرقني الزمن وضياعه وخاصة الآن في خريف عمري. الوقت طائر يجب اقتناصه قبل أن يفر من أيدينا. لذلك الساعات تملأ منزلنا يضعها أبي الذي يؤرقه مثلي الزمن في كل مكان. حتى في الحمام لدينا ساعة بيضاء معلقة على الجدار وأخرى وردية على شكل دجاجة

 

تعيش في هذه الفترة من حياتها بما يسمى بالإنجليزية “her own bubble” وهي عبارة ليس لها مرادف دقيق في العربية. يمكننا جزافا أن نترجمها إلى فقاعة أو قوقعة أو حيز. هي تسميها هالة أو حقل من حقول الطاقة مثل التي تحيط بالنواة في الذرات ويسبح فيها الالكترونات. كم عشقت الفيزياء وبالخصوص الذرات! ودت لو تسبح فيها للأبد. صنعت مجسما لذرة من كرة بيسبول خضراء وطلتها بالأزرق ثم أحضرت كرة تنس طاولة بيضاء صغيرة ولفتّ حول خصرها النحيف سلك نحاسي أوصلته بالكرة الخضراء. حملت المجسم ورأته زميلتها التي اعتمدت عليها لعمل المشروع فقطبت حاجبيها ونهرتها: "لماذا لم تتبعي ارشادات المدرسة لعمل المجسم كما أوضحت لنا عشرات المرات وعادت وزادت وكتبته على السبورة وكتبناه في كراريسنا. هي تريد ذرات بها أكثر من الكترون وأنت وضعت واحدا فقط!" أجبتها: "لكني أحب الهيدروجين! ذرة بها نيترون واحد ويطوف حولها الكترون واحد." واصلت زميلتها: "لكن هذا لن ينفع لدرسنا وسنأخذ صفر للمشروع! ثم طلاء المجسم يجب أن يكون الالكترون أحمرا ليمثل الطاقة التي به والنواة بيضاء وأنت لم تتقيدي بهذه الألوان". أحابتها: "لكن الإلكترون يطير بريشه الأبيض والنواة هي السماء والبحر التي يحلق فيهما." احتدت زميلتها قائلة:" خلاص، خلاص! خبئيه في كيسك وأعيديه إلى بيتك. لا تريه أحداً! سأقول للمدرسة أننا نسينا المجسم وسأعمل واحدا أحضره الحصة القادمة لنأخذ درجة عالية وليس صفرا". هززت رأسها بانكسار وحبست الدموع في عينيي

 

ما زالت أحتفظ بالمجسم أضعه على رف مقابل مكتبي. لا ولم يفهمني أحدا، زميلاتي ومدرسة العلوم ووالدتي. الهيدروجين أبسط العناصر وأهمها يدخل تقريبا في كل شيء. منه يتكون الماء الذي نشربه والهواء الذي نتنفسه. ترى كل الأشياء حية حتى الجمادات تتنفس وتتحدث بلغة خاصة بها. حتى الجسد في حالة تغير وكل الخلايا تتغير. خلايا تشيخ وخلايا تولد وخلايا تنقسم وخلايا تلتحم وخلايا تندمج تتغير كل يوم حركة دائمة متقنة. الالكترون يحلق كما هو الأمل في قصيدة أميلي ديكنسون: الأمل هو ذلك الكائن ذو الريش. الحروف والكلمات تدور في رأسي مثل الالكترونات والبروتونات وتباغتني وأنا جالسة ونائمة تقلقني قد تكون القصيده متعثرة ولادتها أو قيصريه أو سلسله أضع بجوار المجسم صندوقا أحتفظ فيه بريش الطيور كلما سرت ورأيت ريشة وضعتها في الصندوق. لقد امتلأ حتى رمته ربما أحتاج إلى آخر

 

دق جوالها فلم تجب كعادتها. جرت كرسيها المتحرك من خلف المكتب. اتجهت للمطبخ لتحضر لها أبريق آخر من الشاي على أمل أن تكتب قصيدة جديدة ستسميها ديكنسون والهيدروجين

 

نجاة الشافعي

11/7/2019

الناجي الوحيد

النَاجِي الوحيد

في تمام السادسة صباحاً سارعتْ ذات القدمين الدافئتين لارتداء النِعَال العتيق الذي ورثته من والدتها. ذهبتْ إلى الخبّاز، ووقفتْ كالعادة تنتظر دورها في طابور تتدحرج فيه أحاديثٌ ألِفوها عن القصف الشرس والغارات المتواصلة والحصار الغادر، وعن انقطاع الكهرباء وندرة الماء، والغذاء، والدواء، وعرجّت الأحاديث المترعة بالشجن إلى تعداد أسماء العائلات التي حُصِدَت من السجل المدني في غضون ساعات. عادتْ للمنزل مثقلة بالهموم، فقط ثلاث أرغفة من الخبز سيقتسمونها حتى صباح اليوم التالي، ونزعتْ النعال لتعّد الفطور في المطبخ.

استيقظ في السادسة والنصف صباحاً ذا القدمين الباردتين، ولبس النعال مهرولاً نحو الباب. ذهبتْ لتوقظه فكان فراشه بارداً مثل قدميه. حسبته في الحمام فعادت للمطبخ. لم يجد سجائراً في السوق فعاد لاهثاً يحمل ربع بطيخة مفلوقة، ذات غلاف لامع أخضر، وجوف شهي أحمر، وترك النعال المـُـنهك عند الباب.

لبستاه قدمان سريعتي الإيقاع، وغاصتا فيه. كانتا قلقتين، فقد أوشكت باقة الانترنت على النفاد. فتحتا الباب وخرجتا لتبحثا عن طوقاً للتواصل مع من تبقى من أصدقائه؛ لكنهما عادتا حانقتان فلم تجدا ما تبحثان عنه؛ فلقد نفدت باقات الاتصال بالعالم الخارجي. خَلَعَ فردتي النعال المكتئب، وألقى به عند باب الحمام.

أمسكت بهما يد بريئة. تخيلتهما طائرتين نفاثتين تحلقان في السماء. دمدمت ضاحكة وهي تلعب فتحلقت حولها الأقدام الأخرى مبتهجة. فجأة انقلب عاليها سافلها، وأمطِروا بحجارة من سجيل. سقط النعال اليتيم تنزِف منه أحلامٌ بيضاء: أرغفة خبز وعلبة سجائر وباقة انترنت ولعبة طفل.

نجاة الشافعي

The artwork is mixed media on paper using water colors, wax and matches.

نجاة الشافعي

٢٥ أكتوبر ٢٠٢٣م

السير يصنع الطريق

حور الممشى

السير يصنع الطريق

اليوم كان مختلفاً جداً. أثناء سيرنا ناجتنا الغيمات الكالحة السواد فأنصتنا لها. أخبرتنا عن الشجن الأزلي في العالم، الصغار الذين تسرق أحلامهم فيكبرون أيتام الأمهات والأمل، الشيوخ الذين يهرمون بدون أبناء، المنفيون عن الأوطان، المحرمون من الفرح، البيوت التي بدون سقوف، الأسوار العالية، وتفجرت الغيمات أسىً فسالت مدامعها. واصلنا سيرنا في الممشى، تحت المطر. عندما وصلنا إلى ٥٠٠ متر خاطبته بصوت ماطر:

- أشعر إني غريقة.

- المطر ذكركِ بالغرق؟ ليس غزيراً!

- منذ قرأت تغريبة القافر، شعرت بأني الغريقة نفسها، أضع رأسي في الماء لينطفئ الوجع ولا ينطفئ . حاولت بكافة الوسائل ولم تنجع، أصابني اليأس فرأسي دائماً ثقيلة كالجبل.

- لم أقرأها الرواية بعد. دورها قادم، لكن الوجع جزء من الحياة ربما يدفعنا لأن نكون حالمين نأمل في يوم جميل مثل هذا اليوم الماطر.

- بالمناسبة، هل أنتَ من أنصار الرواية أو القصة؟

- أحب القصص قصيرة أم طويلة. القصة القصيرة زاوية في شارع طويل، والرواية هي شارع طويل ببشره وبناياته وتفرعاته، بكافة تفاصيله الدقيقة..

- إذاً الممشى رواية.

- روايتنا نحن، نحن نكتب فصولها.

- كل شيء يمضي.. كل شيء يبقى..

ولكن قدرنا أن نمضي..

نشق طُرُقا،

طُرُقاً فوق الماء..

أيها السائر،

الطريق آثار خطواتك،

ولا شيء بعد..

أيها السائر ليس ثمة طريق..

السير يصنع الطريق..

- مؤثرة، من قالها؟

- الشاعر الأسباني ماتشادو الذي يشبه السياب في رقته وتوجعه وغربته.

- ومن لا يعرف السياب!

هل تأملت فيما يعني ماتشادو؟

- مؤثر! السير يصنع الطريق.

- الطريق ليس موجوداً قبل أن نسير أو بعد أن نسير.

-أعجبني ما قاله "طُرقاً فوق الماء"

- سيرًا تشّق الطرق..

وحين تنظر للوراء..

يتراءى الطريق..

الذي لن تعود لتسيره مطلقًا..

أيها السائر

ليس ثمة طريق..

بل علامات على سطح الماء..

بل علامات على سطح الماء..

بل علامات على سطح الماء..

- أتدري الطريق لن يكون موجوداً بعد أن نسير.

أتدري، لا أحب زوال الشمس!

- لكننا في العصر ستغرب الشمس لتظهر من جديد في اليوم التالي.

- أكره زوالها في منتصف النهار حين تختفي الظلال وكأنه لا يوجد عالم سوى صمت مطبق. لا ظلال أي لا حياة.

أجهشتُ بالبكاء فمد لي منديله المفعم برائحة الليمون. حاول أن يلطف الجو الذي تعكر:

- على فكرة، يعجبني عزيزتي ما تنسجيه من قصص.

- كيف تحبها وأنت تفكك أوصالها، وتقوضّ كل ما أبنيه إلى أشلاء.

- أدلك على طريق الخلاص. النقد لغةٌ لا يفهما الكل، لغة بها الكثير من الحب لهدم المألوف، وبناء الأجمل.

- إذاً، كان النقد فخاً سقطتُ فيه بملء إرادتي.

- إنما بوتقة ينصهر فيها الفحم ليخرج الماس.

أطرق ثم رفع رأسه:

- سؤال إن سمحتي. هل دعوتِ غيري للممشى؟

- لِمَ تسأل؟ الحقيقة ثقيلة. هل ستجيب إن سألتكَ نفس السؤال؟!

- نعم و لا. نحن مثل النصوص بعضها جلي كعين الشمس وبعضها مرمز ونصوص أخرى تتقاطع مع الأولى والثانية لكن نسعى لأن نقرأ الآخرين.

أيها أنت؟

أنا نص مفتوح على مصراعيه

لذت بالصمت أتحدث مع نفسي: يا ترى أي بحور جابها وأي شواطئ رست سفينته على أعتابها، كم حقائب سافر بها، وكم أحذية سارت معه وكم قميص نزعها عن جسده، كم كتب أهملها حتى كساها الغبار؟

قطع أفكاري :

- أرجو المعذرة.. أسأل لأعرف متى.. وأين.. وكيف أسير. ومتى أصل. إن شئتِ ألا تجيبي.

- سؤال واحد فقط في كل مرة. الآخرون ليسوا مثلك سقطوا في الامتحان.

- امتحان؟

- قراءة الشعر. من يتريض معي فليحسن قراءة الشعر قلباً وقالبًا.

ضربة بعد ضربة،

بيت شعر بعد بيت..

عندما لم يعد العصفور قادرًا على التغريد..

عندما أصبح الشاعر حاجًا..

عندما لم تعد تجدي صلواتنا..

أيها السائر ليس ثمة طريق..

السير يصنع الطريق..

ضربة بعد ضربة،

بيت شعر بعد بيت…

- هذا ماتشادو؟

- هو وأنا الطريق.

نص ورسم

نجاة الشافعي

اكتوبر ٢٠٢٣م

المقهى أم الممشى

حوار في الممشى

زوجة أعلنت براءتها من زوج عقيم

لاكت سمعتي الألسن. صَبَّوا جَامَ غَضَبِهِم عَلَيْ، من يعرفني ومن لا يعرفني. هجرنني حتى الصديقات، وعشت وِحدَة مطبقة فتكت شيئاً فشيئاً بأعصابي؛ لذلك أدمنتُ الحبوب المهدئة وتحسين المزاج. وبعد أن مهدوا الطريق، وصبوا فيه الاسفلت صار هناك ممشى للحيّ. صار المشي رفيقي الدائم، سلوتي وعزائي. وعاد قلبي ليحيا بما أسقيه فيه من أمل، وفي الممشى قدمت دعوة مفتوحة لرجل آخر ليقطع الطريق معي بعد أن هدأت عواصف الداخل والخارج.

 

جلسنا نلتقط أنفاسنا بعد أن ذرعنا الممشى ذهاباً وإياباً خمس مرات. كانت لقاءاتنا كلّها عن طريق الصدفة المتعمدة. أشاهده من شرفتي يذرع الممشى فأسارع بالنزول. عندما نلتقي كلانا يصطنع الدهشة. أول مرة أنا دعوته للمشي ثم صار يجيء بمحض إرادته، ومع مرور الأيام أدمنّا المسير في طريق طوله كيلومتر واحد مرصع بشجيرات الورد والنخيل.

 

في أول سيرنا أصاب شفتيّ الخدر. في داخلي أنثى جريحة يصعب عليها البوح. بدأ هو الحديث بعد مسير صامت. قال متوجساً:

 

ـ اًقول لج شي..

 

- أرجوك! وقع العامية على أذني نشاز.

 

- حسناً! عزيزتي. أصارحكِ بأمر ما؟

 

- تفضل.

 

حسبته سيخبرني بما سمعه عني من أقاويل لكنه قال:  

 

- أنتِ أول امرأة تدعوني إلى الممشى بدل المقهى!

 

- أتحب المقاهي؟

 

- أرتادها مع أصدقائي.

 

- بالنسبة لي الممشى ملتقى والمقهى مفترق، والمسافة بينهما قد تطول أو تقصر.

 

- متى بدأتي المشي؟

 

- منذ زمن بعيد. الأحياء فقط يمشون!

 

- متى تمشين؟ كل يوم؟

 

-حسب مزاجي.

 

-أليس من ثوابت؟

 

- لا! يعتمد!

 

- أنت غريبة.

 

- أنا مزاجية.

 

- في أول جملة تبادرين: مزاجي سيء، أو مزاجي رائق، أو شبه متعكر، أو حزين، أو لم أنم كنت أفكر في مشاكل العالم. تصرّحين بحالتك النفسية مثل قارئ نشرة الطقس.

 

- لأنك لا تقرأ ما بين السطور.

 

شعرتُ بأنه تضايق ولاذ بالصمت. مشينا بتؤدة، وبدا ظلينا طويلين كقامات النخيل. انتشلتهُ من حالة التوجس:

 

-  أصارحكَ بأمرٍ ما؟

 

-  ماذا؟

 

- أشعر بأن الكلام معكَ يختلف عندما نمشي عما لو كنا جالسين.

 

- كيف؟!

 

- ألا تشعر عندما نمشى بأن التراب يبتهج لوقع خطانا، أن كل نخلة تنتظر أن نمر بها لتصافحنا، أن السماء تنصتُ إلى حكاياتنا، مسيرنا مثل لحن شجي تتناغم فيه حركة اللسان بالقدم بالقلب بالكون.

 

- كأنكِ تبالغين!!

 

- بلّ أبسّط. أليست الأرض دائرية؟

 

- ويعني؟

 

-إذا مشينا من نقطة نعود إليها، وإذا افترقنا سنلتقي. أليس العالم صغير؟  

 

- نكتشف أن العالم صغير جداً حين نعبر جزءً منه.

 

- والعكس صحيح.

 

- لا تكوني متشائمة، الفراق لن يحصل! أنت محور دائرتي.

 

- هل تعني كل ما تقول، وتقول كل ما تعني؟

 

- بالتأكيد! وأنتِ؟

 

- أنا.. أنا أقول ما لا أعني، وأعني ما لا أقول.

 

- هذا طلسم.

 

- أليست الحياة طلاسم؟!

 

- غموض أحياناً، وليست طلاسم. أنا واضحٌ كالشمس، أما أنتِ فغامضة كوجه القمر الخفي.

 

- بل يقال إن الرجال من المريخ والنساء من الزهرة، وأننا نفصح عن مشاعرنا بينما أنتم تخفونها. أتدري أيها المريخي نسيتُ أن أسألك ما هو لونك المفضل، أو متى عيد ميلادك أو كتابك المفضل، ووو..؟

 

- أيتها الزهرة. أنتِ لوني المفضل، ولادتي عندما عرفتكِ، وأنتِ كتابي، وأنتِ صديقتي و..

 

- إذاً أنتَ من انتظرته طويلاً، فليس لي رفاق.

 

غالبتُ دمعةً مدويةً كادت تسقط فيسمعها. ارتجفتْ يدي:

 

- لا أدري لم أشعر بالبرد رغم أن في داخلي كتلة من اللهب.

 

قدم لي معطفه فغصت في رائحته.. مخدّرة مثل زهر الليمون. رائحة تشبه رائحة أبي.

 

في المذياع تصاعد صوت ناعم للمذيعة:

 

- الخطوط مفتوحة! ستُغلق بعد قليل.

 

- أسمعتِ ما تقول؟

 

- تقول الخطوط مفتوحة.

 

- أي خطوط؟ الحمراء؟

 

- الهاتف طبعاً.

كتابة ورسم نجاة الشافعي

الخَبَرُ الحَيّ

 

خرجتُ إلى الخبّاز لأبتاع تسعة أرغفة حيّة. يقع المخبز في الطرف الأقصى من البلدة بجوار المسجد ذي القبة الذهبية الذي يتوسط حقلاً من أشجار التفاح والزيتون. أمرّ في طريقي إلى الخبّاز بالكثير من المحلات الصغيرة ثم أعبر السوق المفتوحة في ساحة البلدة التي يفترشها البائعين والبائعات يعرضون بضائعهم الطازجة والبائتة.

 

كان الجو خريفياً بارداً فاعتمرت قبعة صوفية، وارتديت معطفاً سميكاً. البقالّ أول من مررت به؛ لكن في مكانه وجدت شخصاً آخراً لم أعرفه، أصلعاً حليق الشارب واللحية. هل أنت جديد؟! ضحك: ألم تعرفني؟! لا! تغيرت كثيراً! ابتعتُ منه قارورة حليب صغيرة وأنا مندهش: لم يقم بحلاقة شاربه من قبل!

 

لم ألقي بالتحّية على الجزار كعادتي لأنني عندما مشيتُ بمحاذاته شممتُ رائحة مقززة، وكأنها لفئران ميتة فابتعدت عنه.

 

تذكرت.. أحتاج قلماً ومحبرة فلقد جفت أقلامي فتوقفت عند باب القرطاسية. نظرتُ عبر الزجاج ولم أجد أبو رائد. دخلت المحل وناديت: أبو رائد.. أبو رائد! فأجابني طفل لم يبلغ الرشد: أنا رائد! رائد؟! نعم! أبي لن يحضر اليوم. مريض! تفضل! لكن أبو رائد أخبرني أن ابنه يرتاد الجامعة! ربما خانتني الذاكرة. اِبتعتُ ثلاثة أقلام رصاص، وقلم حبر، ودواة حبر، وحزمة أوراق صفراء، وكعادتي الجريدة اليومية، فقد تحمل أخباراً طازجة.

 

نسيتُ أنّ الطقس بارد، وانتبهت عندما مررتُ ببياع الأحذية إنني أرتدي نعال الحمام. غمرني الخجل من قمة رأسي إلى أخمص قدمي: ماذا سيقول الناس! غطيت قدمي بطرف الجريدة. جلست سريعاً لئلا يرى قدمي البائع المخضرم: إحسان. أحضر لي زوجاً صينياً فارتديته على عجل عندما أدار ظهره ليبحث عن زوج آخر.

 

تجاوزت محلي الأقمشة والملابس الجاهزة فلحسن حظي زوجتي كانت نائمة عندما خرجت، ولم ترهقني بأية طلبات: إبر، خيوط، قماش بمربعات أو مُقلّم، جلابّية مطرزة بزخارف يدوية، الخ...

 

وصلتُ الساحة التي تضجّ بالحياة. طوفانٌ من البشر: الباعة، والمشترين، والمتفرجين، والمشردّين، والروائح تتصارع في الهواء؛ لكنها تخلو من الأطفال. اليوم جمعة يبدو أنهم ما زالوا نائمين.

 

لم أشرب الشاي قبل الخروج من المنزل فتوقفت عند عربة بائع الشاي على الفحم. أعطني شاياً، وزد ثلاث ملاعق من السكر! ارتشفت رشفة حارة أحرقت لساني، طعمه كان مقززاً كالقيء فسكبته في قارعة الطريق.

 

اشتهيتُ البيض عندما مررت بالبائعة المتلثمة فاشتريت ست بيضات مرقطة بالأسود بحجم بيض النعام لكنها أقسمت إنه بيضُ دجاجٍ فاخرٍ من الدرجة الأولى تربيه في مزرعتها. إن كنت سأعدّ لي ولزوجتي شكشوكة للفطور سأحتاج للطماطم والبصل. عند بائع الخضروات توقفت لكن كلّ الطماطم كانت فاسدة فلم أشتريها، وبحثت عن البصل ولم أجد ولا بصلة واحدة في كلّ السوق. انقرض البصل!

 

مررت بتلة من القاذورات، ورأيت ماعزاً تمضغ الأوراق. خالجني الأسى فأسقيتها قنينة الحليب. سأشتري قنينة أخرى في طريقة عودتي لئلا تثور زوجتي، وتسوّد يومي.  

 

أخيراً، وصلت إلى الخبّاز؛ لكنه كان مُغلقاً على غير عادته. أصابني التوتر: هل تأخرت إلى هذه الدرجة فنفد الخبز؟! هل مات قريبٌ له فأغلق المحل؟! ماذا سنأكل في الفطور؟! خبزٌ بائت!!!

 

افترشتُ الجريدة. جلستُ على دكة المخبز يائساً. وضعت يديّ فوق رأسي أفكر بأمرّ الأرغفة الميتة. ستستيقظ زوجتي وتعاتبني على تأخري. مرّ بي بائعٌ قزم اشتريتُ منه علبة سجائر، ورغم إني أقلعتُ عن هذه العادة الذميمة؛ لكن استنشاق النيكوتين، والإمساك بواحدة بين السبابة والإبهام كعادتي السابقة خففّ من قلقي.  

 

سمعتُ المذياع يزمجر.. دويّ المدافع.. وابل من الصواريخ.. انفجار قنابل فسفورية.. أزيز طائرات عمودية.. انهيار عمارات سكنية فرميت بالسجائر القاتلة وهرستها بكعب حذائي الصيني الجديد.

 

في تلك الأثناء سمعت من أحد المارة أن أهل الحي أعدّوا عدّتهم لحفلة تنكرية. لُذّت بالفرار. لا أحب التجمعات الصاخبة. ركضت صوب الحقل. أردت الدخول إلى باحة المسجد، ووجدت الباب مغلقاً في وجهي فساعة الظهر لم تَحُنْ بعد. كانت بعض أشجار الزيتون والتفاح نافقة؛ لكني لم أجد ماء لأسقيها.

 

هبّت عاصفة صحراوية فسدّ أنفاسي الغبار الأبيض. صنعت لي كمامة من الأوراق الصفراء غطيت بها أنفي وفمي

 

لحقت بي جماهير الحفلة التنكرية. حاصرتني الأقنعة. قناع يسقط، وقناع يرتفع، وقناع يتمزق، وقناع يُحاك، وقناع المهرج أتقدّ، وأحمرّ كفرن الخباز. حينها شهقتُ، بكيتُ، وندبتُ الخُبْزَ الحيّ وصفق من في الحفلة وغنوا بأصوات جنائزية: سقط القناعُ عن القناعِ عن القناعِ

 

١٣ أكتوبر ٢٠٢٣م

نجاة الشافعي

 

 

 

 

 

الفأرُ الأسد

الفأر قذر لكن ذكي .. الفأر قارض سريع الحركة.. الفأر سريع الهرب..

 

سماه أحدهم "الفأر" فتطايّر اسمه بين الناس، وذاع صيته: الفأر راح.. الفأر جاء.. الفأر قادم.. الفأر والفأر والفأر.. وهو يهز ذيله، وينفخ صدره، ويقفز فوقاً وتحتاً، يميناً وشمالاً، تارة يختبأ، وتارة يظهر، وتارة ينهب الجبن، ويستمتع بمضغه، وتارة لا يَمَسّه، الفأر يراوغ..

 

الفأر لا يأكل بطريقة الفئران. الفأر شره. يحب البصل والثوم واللحوم، وزيت الزيتون ويعصر الكثير من الليمون، ويقضم قرون الفلفل الحار فيطفئ اللهب بالماء البارد جداً.

 

الفأر يدخن ويدخن ويدخن بشراهة.. ويلقي بأعقاب السجائر.. في المخادع.. تحت الأسرة.. فوق المخدات.. بين الشراشف.. على مساند المقاعد..

 

عندما يعود تَفرُك الفأرة عيناها، تقوم من نومها لتسخّن له العشاء، يغضب منها:

- أنا الفأر!! حتى وإن أتيت متأخراً لا تنامي!

 

وعندما تضع مساحيق التجميل

- يا فأرة! لمن وضعتيها! لم أكن موجوداً! امسحيها!

 

وحين لا تضع المساحيق:

- يا فأرة! سُحنتك كالحة! ضعيها! أنا الفأر! أنا موجود!

 

الفأر ينام بطريقة خاصة، يستلقي على ظهره، ويضع رجلاً على رجل، ويتفرج على (التيك توك) حتى الفجر ويصل شخيره حتى الغابة البعيدة..

 

ذات يوم سقط الأسد في الشبكة.

 

الفأر بطل.. الفأر منقذ!!

 

قرضَ شبكة الأسد لأن الفأر ماهر وأسنانه حادة لاسيما قواطعه وزئير الأسد أوجع رأسه؛ لكن الأسد ناكر الجميل عندما تحرر من الأسر جاع جوعاً شديداً فالتهمه بِدْءًا برأسه ولم يدع سوى ذيله.

 

تندر أهلّ الحي على الأسد واسموه فأراً، وفي البئر رأى له ذيلين يهشّ بهما الذباب، وتقلص حجمه حتى دخل في جحر ضَبّ.

 

نجاة الشافعي

٦ / ٦/ ٢٠٢٣ م

 

ملاحظه: أود التنويه إن الموقع لا يتوافق مع أدوات الترقيم العربية 

 

رحلة عابرة للتذوق

رحلة عابرة للتذوق

تحسستُ جلدها الأملس، ضغطتُ عليها برقة فأصدرت آهة خافتة تخطِبُ ودّي فاستجبتُ لإغوائها، وأبقيتها ملتصقة بي طوال رحلتي والتي استغرقت حوالي الساعة.

قضمتُ لقمة من الكيكة الهشة التي سريعاً ما ذابت في حلقي. استمتعتُ بمضغها، وأنا أحتسي الشاي في كوب ورقي، ليته كان من زجاج بلوري شفاف لأثمل بمراقبة مكعبي السكر يتعانقان ثم يذوبان شيئاً فشيئاً في أحضان المياه الحارة، وقطرات الشاي الساحرة تتراقص طرباً في حلقات صوفية بديعة في داخل الكأس.

من المؤسف إن كل شيء تقلص على متن هذه الخطوط، حجم المقاعد، عدد الحقائب ووزنها، وحتى الوجبات أصابتها النحافة ماعدا سعر التذاكر الذي لم تصبه إلا الشراهة؛ لكن لحسن الحظ ظلّ طعم الكيك لذيذاً؛ ليس بالحلو الذي يصعقك بحلاوته فيستحيل حامضاً في فمك بعد أن تمضغه، وليس فاقداً للسكر فلا تطيق بلعه. ما زالتْ –لله الحمد— مخبوزاتهم الفاتنة الممتشقة القوام تدغدغ حليمات التذوق فتنعشني في رحلات العمل المملة.

انتهت المضيفتان الشاهقتي الطول من جمع ما تبقى من هياكل الوجبات. ثمّ صاح الرُبَان بصوت حازم باللغة الإنجليزيةــ بما معناه: اجلسوا أيها المضيفون! سنهبط الآن! وفي تلك الأثناء انتهيتُ من ارتشاف آخر قطرة شاي، وأبقيتها معلقة في فمي لعدة ثواني قبل أن تنزلق دافئة في بلعومي، وعندها قلّبتها بين كفيّ أتأملُ ما نُقِشَ في جسدها من حروف وصور.

لامستْ عجلتا الطائرة الأسمنت الصلب، واهتزّ ذيلها فانتفضنا في مقاعدنا نفضاً، وانقضّ على مسامعنا صرير حاد، صاحبه بكاء طفل رضيع في المقعد الأمامي.

أعلن أحد المضيفين بلهجة مستعجلة: الحمد لله على السلامة! نود تزكيركم بالتزام مقاعدكم حتى تتوقف الطائرة، سعيدون جداً بخدمتكم، نراكم قريباً على متن إحدى طائراتنا.

وأعقبها متحدثاً بالإنجليزية الركيكة:

Sank you for travel wiz us! Please remain in your chair, we are please to serve you, see you soon in one of our flitz!

عندها سارعت بالوقوف فَهَوَتْ من حضني، طقطقتْ عظامها، واستقرتْ على الأرض تسلّم أنفاسها الأخيرة، وأنا أهرول لباب الطائرة جاراً حقيبتي الثقيلة.

كتابة وتصوير: نجاة الشافعي

.تنويه: أدوات الترقيم غير دقيقة بسبب إن الموقع ــ للأسف ــ لا يتوافق تماما مع اللغة العربية

تصوير نجاة الشافعي مدينة الدمام ،٢٠١٤م

فريد عقد فريد


ماذا دهى والده.. مدرّس اللغة العربية.. عندما سَمَّاه: فريد عقد فريد.. كان مَثَار تندّر أقرانه.. لكني سَمْيتُه منذ طفولتنا: فرايدي

(Friday)

لأني أحب الإنجليزية.. وأحب يوم الجمعة.. يوم العطلة.. وأحب صديقي فرايدي جداً جداً

واُدَلِّلُـهُ

(Fred)

دَخَنَّ غليونه، نفضّ قدمه اليسرى، رفعَ بها للأعلى قليلاً ثم أنزلها للأسفل، تهبط وترتفع ثم تهبط، ترسم دائرة رشيقة، كأنّه يَقُودُ دراجة هوائية برِجل واحدة، سحبَ نفساً ملوثاً بالقطران المتفحم ثم نفثَ الدخان في وجهي، عدلّ من جلسته، اتكأ بعضده الأيمن على الأريكة الوثيرة، واصلَ نميمته، وواصلتُ الاستمتاع

قبل أن يبلغ الأربعين؛ كانت حياة فرايدي في مُجمَلِها هادئة.. حياة عادية جداً جداً.. أيّ كائن يأتي من طبقة متوسطة يعيِشُ بطموح طبقته وهمومها.. يجتهِدُ في دراسته.. يجّد في حياته.. يفشل وينجح.. ينجح ويفشل.. يتطلَع أن يصير صنو أبيه.. وزوجته صنو أمه.. تعينّ فرايدي كمعلم لغة عربية في مدينة بعيدة.. يعيش في شقة بالإيجار.. يقود سيارة بالأقساط.. يُحِّبُه طلابه.. يحترِمُه بواب العمارة.. وتزوج من ابنة عمه.. لكن لم يُنجِب

سحبَ نفساً عميقاً آخراً، ونفثَ زفرة دخان حارة في وجهي، قادَ دراجته غدواً ورواحاً، ورواحاً وغدواً، يَحلِبُ ثمالة التبغ من فوهة الغليون، انتابته كحة ارجفت عظيمات قفصه الصدري، ارتعشَ كَمَنْ مَسَّه تيار كهربائي، واستمرت الكلمات تسري بِدَوّي مُخَدّر من حنجرته

كلُ واحدٍ من زملائه يتمنى أن يصبح موجِهاً أو مساعداً للمدير أو يُنقَل لمدرسة قريبة من بيته أو يزيد مرتبه أو يؤسس عملاً تجارياً خاصاً إلا هو.. كان فرايدي على النقيض منهم... قنوع جداً جداً.. يؤدي ما يُناطُ بهِ من مسؤوليات كمعلم، وزوج، وابن، وصديق، وجار على أكمل وجه.. ولا يطمح للكثير.. مسالم إلى أقصى حد.. لا يؤذي بعوضة.. ولا يدوس على ساق نملة

في يوم عيد ميلاد فريد عقد فريد الأربعين.. بداية الشهر الرابع .. وفي بداية كل شهر.. يقدم إعانة بسيطة لرفيقه الحميم.. عنده أربعة أبناء ذكور.. لكن يبدد ماله في تدخين السيجار الكوبي المُقَلّد في الصين.. سَمِعَهُ يتحدث في هاتفه

سأهدِيكِ ما طلبتي.. يا سيدتي.. أحدثُ (آيفون) نزلَ في السوق.. كم فوز عندي! أراكِ الليلة

لم يُجبه فريد عندما دقّ الجرس.. رحلَ حانقاً.. وسيل عارم من العبارات النابية.. انطلق من فِيِهِ.. واقتحم أزيزه طبلة أذنيّ فرايدي

مَنْ يحسب نفسه! هذا الكلب الأجرب.. يتظاهر إنه لا يسمعني أطرقُ الباب.. حمار بلّ أكثر بلادة من حمار.. ما ذنب الحمار أن ننسبه إليه.. تافه مغرور.. فريد عقد فريد عربيد.. أصلع قبيح.. ذو وجه صغير.. وخشم مفلطح كبير.. الغلط مني إني جئت لهذا البخيل المدقع.. مسكينة زوجته.. كيف تتحمل ذفر إبطيه النتنة.. وريحُ فمه المقزّزة؟ !

بدلَّ قدماً بأخرى، هزّ اليمنى بدل اليسرى، أنهكه الحديثُ فبدأ يقود الدراجة الهوائية بلا اتزان، يترنح صاعداً ونازلاً، يضيق نَفَسَه وهو يتسلق المرتفعات، ثم تتسابق أنفاسه وهو يهبطُ المنحنيات، سحبَ نفساً عميقاً من غليونه، شعرتُ به يدوخ ثم يهدأ، ويعود إلى طبيعته، يُكمِلُ لي مغامرات فرايدي

في اليوم التالي ذهبَ إلى مدرسته.. لقنّ الطلاب دروسهم.. قدموا له بطاقات بمناسبة عيد ميلاده.. شكرهم وأقفل راجعاً.. مرّ بالمقهى.. وأمسك بيد العجوز.. يقوده كعادته في كلّ ظهيرة لمنزله.. فابنه يرميه في المقهى حتى يُشفِق عليه أحد ما.. ويعيده للمنزل.. ليُرِيح الزبائن من شخيره المزعج.. وهلوساته التي تضحكهم.. حتى يتطافر الدمع من أعينهم

أيها العنز الشهم! اجلب لي كرسياً أمدُّ عليه رجلي.. أين الشاي! أنت يا حارث الملعون! سرقت من جدّي حصانه.. أين ولدي.. يا ملاعين! عبلة! أين الشاي! حتى الشاي! يا أولاد..! أريد بسكويت! تأخر العشاء

أمسكه بحنان غامر.. مشيا معاً بهدوء.. فجأة نظر العجوز في وجهه مندهشاً

!أين الشاي! أين ابني! لماذا تُمسِكني؟ أتركني! أتركني! أتريد أن تسرق شركاتي! تسرق أموالي! يا حرامي! حرامي! حرامي! امسكوا الملعون

احاطوا به.. مَنْ سيُشَكِّك برواية هَرِمٍ يطلِبُ النجدة! تجمدّ دم فريد عقد فريد في شرايينه.. استجوبوه ولم ينطُق.. تعجبتُ منه.. كيف تَتَأتَى له ألاّ يَرُدّ.. ألاّ تَفتُرَعن ثغرِه لفظة يدافع بها عن نفسه.. لم يَزُمّ شفتيه أو يرتفع حاجباه.. لم تحمرّ وجنتيه ويتعرق جبينه.. لم يلهث أو تتسارع أنفاسه.. لم تَنتَفِخ أوداجُه.. كيف لبشر أن يصير صنماً.. بملامح رجل وكينونة حجر؟! تساءلتُ في سِرّي: هل من الممكن أن نفقد آدميتنا.. أن تنمحق رجولتنا.. أن نتشيء.. أن نتحول - في وقت ما- إلى رِجل كرسي.. ذرة سماد.. صنان إبط.. نباح كلب أو صرصار كافكا

لحسن حظه.. أنا.. أنا صديق فرايدي.. أنا روبنسون كروزو انقذته.. مررتُ بالحشد الغاضب.. انتشلته من بين أيديهم.. وإلاّ لسلموه للشرطة.. هَدَأّتُ من روع العجوز.. وأعدته للمنزل.. لكن فريد الأخرس ظلّ واقفاً لساعات في قارعة الطريق.. والناس محتارون في أمره.. وهو لا يكترث بهم.. كتمثالٌ يستظّل بعمود النور

أضافَ جُرعةً من التبغ الفاخر إلى جوف الغليون. تناولتُ قداحّته الذهبية، وأشعلته له، انفرجت أساريره، تأرجحتْ قدمه لتقود الدراجة، ونفثَ الدخان في وجهي. أنصّتُ له بفضولِ من يسترق النظر من نوافذ الجيران

عاد فرايدي إلى المنزل.. شمّ رائحة الباذنجان المقلي.. سببّت له الغثيان.. طبختْ المسقعة.. وهي تعلم إنه يكرهها.. يمقتُ الباذنجان.. يحرق معدته.. يسبب له تهيجاً في القولون.. أضرب فرايدي عن الطعام.. وأضرب عن الشراب.. وأضرب عن الكلام.. وأمور أخرى.. قاطعها تماماً.. حاولتْ تبرير فعلتها الشنيعة.. أصابني الملل.. تغيير بسيط.. لم يجبها.. صففت شعرها الكستنائي اللامع.. ارتدت أجمل حلة في دولاب الملابس.. رشّت العطر الباريسي الثمين.. ارتدت كعبها العالي.. خرجت لتزور جارتها.. عادت متأخرة.. مبعثرة الشعر.. لعبتْ مع قطتها.. نامتا.. فرايدي جالس في مقعده.. ينظر ببرود لساعة الحائط.. دقتّ مُعلِنَةً انتحار الليل.. 

في اليوم التالي ذهب فرايدي للمدرسة.. استقبله زميله بحفاوة بالغة: والدي مريض جداً جداً.. قدمّتُ على إجازة لإجراء فحوصات طبية له.. اجمع فصلي وفصلك معاً.. وعلّم الطلاب.. وصلّح دفاترهم حتى أعود.. وافق بكل أريحية.. وعندما كان يسافر في عالم (الفيسبوك).. رأى صورته في تايلند برفقتي.. نحتسي الشاي معا.. في غابة بوهيمية ساحرة.. ندخن السيجار الكوبي الفاخر.. نقهقه.. كالقردة..

هل تعاطفت معه؟! إياك! ثم إياك! ثم إياك! كنتُ غبياً مثلك.. أشعر بالشفقة عليه.. لكن بعد أن عاد فرايدي من تايلند.. نفض عن جلده الرماد.. كالحرباء.. كالعنقاء.. كالغول.. بعد أن عاد فرايدي من تايلند.. عنفّ والده العجوز الذي صاح به: حرامي.. قام بِرَمْيِهِ في دار العجزة.. ولم يزره أبدا.. بعد أن عاد فرايدي من تايلند.. حطم هاتف زوجته فوزية.. جزّ شعرها بسكين حادة.. طلقها.. طردها.. سحق قطتها بسيارته.. بعد أن عاد فرايدي من تايلند.. شتمَّ المعلمين.. وكلّ الإداريين.. والمستخدمين.. ومزقّ بطاقات الطلبة.. وألقى   باستقالته في وجه المدير مزمجراً

!!!!!أنا! أنا فريد عقد فريد!! أنا لَسْتُ معلما

حطّت العنقاء في مخدعي.. تسللَّ على أطراف أصابعه.. اختبأ خلف الستارة.. جنّي يعدّ أنفاسي.. أنا.. أنا الفارس المقنع الذي ساندته.. عندما كان أبوه يصرخ به حرامي.. وهو متخشب كالتمثال.. وأنا.. أنا الخل الوفي.. الذي كنتُ أهدر وقتي الثمين.. أتحدث مع امرأة مسكينة.. أحّل مشاكلها المستعصية مع زوجها اللئيم.. امرأة استأمنتني على أسرارها.. ووأدتها في صحراء الصمت.. امرأة جميلة جداً جداً.. ذات حظ عاثر جداً جداً.. لجأتْ إليّ.. لولا شهامتي لجُنّت.. لولا نُبلِي لهربت من زوجها المتبلد الشعور

حسبته آدمياً.. توسلتُ إليه.. أن يسمح لي.. يَدَعُنِي أدخّن غليوني.. ألتذّ بسحب نفس عميق.. نفخة من القطران الملتهب.. للمرة الأخيرة.. آخر مرة.. حَلِفتُ له.. إنه تشابه أسماء.. هي فائزة.. وليست فوزية زوجته.. لكنه خنقني بحبل غسيل قذر.. جَلَبَه من حديقتي الخلفية.. ربطه حول عنقي بإحكام.. شدّه بتلذذ مازوشيتي.. ظل يبحلق في عينيّ.. بدون أن يرتد إليه طرفه.. أو يفتر ثغره عن كلمة

ألم أقل لك! إنه أنجس من خنزير.. أرعَنُ مِنْ ثور.. أدهى من ثعلبٍ.. كلب بن كلب.. كلبُ شوارعٍ نجس.. أجبنُ من ضبع.. أسرعُ من عقرب.. يلدغ ويفرّ.. أحقر من خنزيرٍ! لن تعرف فريد عقد فريد إلاّ إذا عاشرته مدة طويلة مثلي

نظرَ السجّان إليه، وهو يرفع قدماً يتبعها بأخرى كَمَنْ يصعد سلماً للنجاة، ولا يصل للدرجة الأخيرة

!فريد عقد فريد! زائرٌ لك!! فائزة

 

١ رمضان ١٤٤٤هـ

كتابة ورسم

نجاة الشافعي