قراءة في قصة انفجار للكاتب كاظم الخليفة
مِثلُ سجادةٍ أعجميةٍ فاخرة نُسجت بخيوطٍ حريرية دقيقة، تتمعنُ في نقوشها الآسرة، فتنثالُ الألوان في رحلة بصرية أخاذّة، تسحرك الصورة الكاملة، ثم تتوغل في تفاصيلها البالغة الحيوية، يتفجر الجمال من كل عقدة في السجادة، هكذا شعرتُ وأنا أقرأ القصة القصيرة "انفجار.." للكاتب كاظم الخليفة والتي تتصدر مجموعته القصصية: "مائل بخط الرقعة"، والحائزة على المركز الثاني في مسابقة نادي حائل الأدبي في عام ٢٠١٨م، وسوف أتطرق في هذه القراءة الإنطباعية إلى بعض الملامح التي أتضحت لي من قراءة قصة: انفجار
حَبْكُ النهاية بالبداية
من ذروة الحدث كانت بداية النص في حبكة شيقة حيث تبدأ القصة بعبارة "انتهى كل شيء الآن..، وخبا بريق ألسنة اللهب والدخان المنبعث من غرفة الاحتراق الداخلي لمولد الكهرباء بعد انفجارها" يلي ذلك وصف السارد بصوت المتكلم المشارك لمشهد الدمار الذي حل بسبب هذه الكارثة التي طالت الحجر والبشر، فيبّين:" نخوض في وحل ذلك المزيج الرمادي من مياه إطفاء الحريق الممتزج ب "الرغوة" وبعض الزيوت المتسربة" ثم يعرج على الضرر البشري: "وعلى جانب المصطبة بقايا ملابس ممزقة ومنكمشة بفعل الحريق، وكذلك بعض الأحذية المشوّهة” تخلل المشهد لحظة تواصل إنساني بين السارد وعبد الله وهو مشرف النوبة في مشهد مؤثر: "يشد عبدالله على يدي ويضغط عليها بوتيرة متسارعة وهو يبعدني عن مكان الإسعاف. لكنني ألمح في وجهه مسحة إشفاق
نَسجُ المكان والزمان
يعود الراوي إلى لحظة سماعه بالخبر باستخدام تقنية الفلاش باك، واستيقاظه في الصباح الباكر، وتتضح لنا من هذا المشهد أن الشخصية الرئيسية في القصة هو "مشرف الصيانة" والذي يُطلَب منه كتابة تقرير عن الحادثة المؤسفة. وبعد أن وضّح السارد الزمان والذي تحدد بحادثة الانفجار التي سبقتْ الاتصال بمشرف الصيانة في الفجر، حددّ لنا أيضاً المكان وهو يتكون من معامل نفطية ومجمّع سكني وسط الصحراء، والمعمل يصفه الراوي بأنه يشكل "بيئة صناعية" ذاماًّ إياها بأنها: "تذيب أي معنى روحي وتطلع ميتافيزيقي، تنطبع روحك بما يجاورها في البيئة.. مادية صارمة وجفاف كتصحر الأراضي المحيطة بالمعامل". ثم يصف بشاعة هذه المعامل التي تسلب الروح بأنها "تنتصب مثل عفاريت ألف ليلة وليلة. غربة أخرى وتلاشي حس الحياة"، والمكان الثالث المتحرك هو الطريق أو الشريان الذي يربط بين المجمع السكني والمعامل حيث ينتقل مشرف الصيانة بالسيارة من المجمع السكني إلى المعمل البعيد واصفاً الطريق بسخرية مُرّة: "الجمل هو الشيء الوحيد الذي ينظر إليك هنا.." ويذكر أن المعمل المقصود هو معمل نفطي واصفاً ذلك "وعندما تفقد إحساسك بالمكان وتشعر بثبات الزمان، يُرجعك من إغماءاتك مرأي بعض المنشآت البترولية المتباعدة
اللبّ
ومن القشرة نَلِجُ للثمرة أو لبّ القصة حين تتداعى أفكار مشرف الصيانة من كتابة التقرير عن كارثة انفجار المعمل إلى وظيفة اللغة في حالات مثل هذه حيث تتقلص اللغة عن التعبير عن الحدث الذي يحمل بشاعة الحدوث من جهة ومن جهة أخرى بشاعة التعبير عنه بلغة آلية باردة فيذكر التالي: "تقتضي كتابة التقرير التقني أن يكون الاعتماد على مرويات الآلات وشهاداتها وليس البشر." وكأن اللغة استحالت أيضاً إلى مُعّدة من المعدات أو مكينة من المكائن، ليست اللغة فقط التي تصحرّت؛ وإنما الإنسان الذي ينتج هذه اللغة عندما يعيش في البيئة الصناعية التي تسحقه. يرسم السارد على لسان "مشرف الصيانة" التباين والفرق الجلي بين البيئة البحرية والزراعية واللتان تحملان طابعاً إنسانياً، والصناعية المتصحِرة حيث يتجرد الإنسان من الروح ويصبح جزء من الآلة الهائلة التي تحرك الاقتصاد، فمثلاً الشخصية المحورية في القصة نعرف وظيفته كمشرف الصيانة ولا نعرف له اسم، لأنه فقط رقم في سجل الشركة فيوضح الراوي ذلك ساخراً: في البحر أنسنوا المراكب، منحوها أسماء أحبائهم، كما هو تقليد قريتي في تسمية المزارع ونعوتها. ونحن هنا "مكننا" الإنسان فهو ١٢٣٤ يُعطى أمراً بالعمل على المعدة رقم… المدرب الأمريكي في معهد الشركة أفاض في وصف معدة وأجزائها، ثم قارنها بالحيوان. الحيوان أيضاً آلة مثل (الساعة تحكمها اللوالب والدواليب).. فقدنا إذاً شريكنا في الكوكب.. الحيوان؟! وفي نفس السياق يُذكَر أن الموظف قد تحول إلى رقم: "أليس الجسد هنا هو أحد الموارد ومن أصول الشركة الثابتة؟
يشركنا السارد في رؤيته للإنسان والوجود ويطرح مفارقة بين العقل المادي والعقل النظري: "علاقتنا بالمعامل شبيهة بارتباطنا بهذا الكون! تتّفق البشرية على الغاية من الجهد المبذول ومقابله في العمل وتختلف في معنى الوجود وغايته!" وفي سياق آخر يصف إحساس مشرف الصيانة وهو يربط جسده في المركبة بحزام الأمان: "هو إحساس مفعم بالتيهان وضياع بوصلة الوجود أن تكون مجرد رقم وظيفي في منظمة صناعية تعمل على مدار الساعة". لذلك تعكس القصة شعور بالاغتراب وعدم الانتماء في البيئة الصناعية القائمة في وسط الصحراء والتي تُشَيّء الإنسان فيصير برغي في آلة وأداة للإنتاج فتسحق بذلك مشاعره واحتياجاته وأحلامه
الاستشهادات
في نطاق القصة يتم الإحالة إلى بعض الاستشهادات، والتي أزعم أنها تدعم العمود الفقري للقصة وبنيتها السردية في موارد شعرتُ بأنها طبيعية وليست مقحمة لتضيف للقصة جنبة دلالية عميقة. أول الاستشهادات أبيات الشعر للشاعر المبدع وبطل المعلقة، الشاعر جاسم الصحيح، وبهذه الأبيات يستهّل القصة، وهذه الديباجة ليست من المألوف في عرف القصة القصيرة، وهي كالتالي
إذا انفردَتْ بِيَ الصحراءُ كالعــــــرَّافةِ الكهْلَهْ
وصار الدربُ ثعبانــاً بطول مســــافة الرحلَهْ
وحاولتُ الصلاةَ هناكَ لكنْ ضـــــاعَتِ القِبلَهْ
أصلِّي باتجاهِ النخــــــلِ حين تعـــنُّ لِي نخلَهْ.
هذه الأبيات تأتي من قصيدة لجاسم الصحيح عن الأحساء ويلي الأبيات الأولى التالي
هِيَ الأحساءُ قِبلتِــــيَ-القديمةُ والهوى الدائــــمْ
…وليستْ بقعةً بَرَكَــــتْ على صدر المدى الجاثِـــمْ
وتتضح دلالة هذه الأبيات وارتباطها بالقصة عندما نبحر في النص، ونصل إلى نهايته حيث الراوي يريد أن يوصل فكرة أنه في خضم رحلة الضياع والوجع في الصحراء والتي لا تدل على بيئة جغرافية فقط وإنما على كل ما هو متصحر من الحضارة الإنسانية بسبب الصناعة، هناك ما زال أمل وهو النخلة التي تربط الإنسان بالأرض وهي رمز للهوية والانتماء، هذه الصورة المضيئة مقابلة للصورة القاتمة للإنسان الذي يغدو برغي في آلة الإنتاج، والرقم الذي يدفع بعجلة الاقتصاد
في إحالة أخرى تمتزج التقريرية أو السحنة العلمية بوصفية عالية تفعلّ الحواس الخمسة ومداراتها؛ فلذلك لا تخلّ بتوازن النص ولا تشعر المتلقي بالملل أو فقد الاتزان، ومثال على مهارة الراوي في تشبيك التقريري بالساخر ليدل على استغلال الإنسان في منظومة الاقتصاد حيث يُنظَر له فقط كأداة للإنتاج أو حمار يُدِير الرحى: "كم أمقت جون بولتون ونظرية الإنتاج ومدرسته "الإدارة العملية"، هو من قاس نشاطك وساعات وجودك في منظومة العمل ويطالبك بمقدار معين من الجهد.. هل يقصد جهد ثلاثين حماراً في اليوم؟" وفي إطار توضيحه لتحول الإنسان إلى آلة يذكر ساخراً "وبالمقابل "سارتر"، الفيلسوف الفرنسي، شطح بالفكرة بعيداً.. فكما ينقله مهندس السلامة الأمريكي ممازحاً: العامل خلف الآلة يشعر بخيالات ورؤى جنسية.. ليغفر له الله وليقف نصف ساعة أمام غرفة الاحتراق في ماكينة.. لن يتراءى له سوى الجحيم. ذلك كان ردنا حينها
النقطتان المتتابعتان (..)
مما لفت نظري كثرة استخدام الكاتب للنقطتين المتتابعتين ".." وهي ليست من علامات الترقيم الأساسية في اللغة العربية، بل صارت تستعمل حديثاً في الشعر والنثر، استخدمها الكاتب ليس فقط في عنوان النص بعد كلمة "انفجار.." بل أيضاً بعد العبارة الأولى في النص: "انتهى كل شيء الآن.." واُستخدِمت نفس هذه العلامة "الفارقة" في أكثر من مرة في داخل النص بشكل صار يميز هذا النص القصصي عن غيره من النصوص، وكأن النقطتين صارتا محوريتان في لحمة النص أو كأنها متوالية حسابية تعتمد على النقطتين، فعلاما ترمز ولماذا استخدمت؟ لاحظت إنها توضع في نقاط مفصلية في النص وليس جزافاً كشفرة مورس تدل القارئ الحاذق على منابع الألم والشجن والتمزق في ذات السارد أو في إشارة إلى أن هناك ما يتبع، وعلى سبيل المثال: "الظلام ما زال متمدّداً وجاثماً في الصحراء.." وفي مورد آخر "الصحراء تسر لنا بالاقتضاب في الحديث.." وفي: "أساطير يغيب عنها الحب.." و "الأسبوع الأول.."، "شيئاً فشيئاً تدير ظهر لسانك وتشيح بفمك عن أبجديتك.."، "تهرم لغتك ومن يهرم ننكسه في العمر".. ، "وإن شعرت أنها لا تكفي فزينها بلغة جسدك المتخشب.."، "وليقف نصف ساعة أمام غرفة الاحتراق في ماكينة.."، "كل فرد يؤدي دوراً محدداً ومرسوماً بعناية.."، "الرمل الأصفر يشعرك أنّك محتل.."، "في الأرض كما هو الفضاء.."، "المعدات التي تسرها منظومة آلية في التحكم..". من وجهة نظري، هاتان النقطتان المتتابعتان قد تكونان صرختي وجع مكتومة تغص بها الحنجرة بحيث يتوقف الكاتب ليدع للقارئ مساحة من التفكير
لغة الآلات
اللغة التي تستعمل في المعامل والآلات هي لغة مناوئة، لغة غريبة عن بيئتها، لغة تعلم الرضوخ ولغة الأرقام التي تُشَيّء الإنسان، فالمفردة متلازمة مثل متلازمة مرضيه، فيُذكَر في النص أن: "يس" مفردة تصبح متلازمة لفظية تبتر بها كل حوار.. وربطها بما تلاها فقال: نجحتُ في اختبار الترويض وأصبحت مفكاً آخر في صندوق معدات المعمل. إذاً، "يس" اللفظة الإنجًليزية المرادفة لكلمة "نعم" في العربية نجحت في ترويض الإنسان ليصبح جزءاً من الماكنة الكبيرة. وفي هذا السياق يوضح السارد جنسية مهندس السلامة الأمريكي المثقف الذي ينقل لهم ما يقوله سارتر المفكر الفرنسي. ويذكر جون بولتون الأمريكي ونظرية الإنتاج والإدارة العملية، وأخيراً ترقيم المعدة بأرقام إنجليزية
نهاية الحكاية
أخيراً، كتب مشرف الصيانة التقرير التقني والذي يصفه بوجع: "يكون الاعتماد على مرويات الآلات وشهاداتها وليس البشر باسترجاع ذاكرتها الإلكترونية والانشغال بفكّ شفراتها لفهم حقيقة وشايتها على أوضاع سبقت انفجار المكينة" ثم يسترسل في ذكر بعض النقاط التفصيلية في التقرير بطابع تهكمي لاذع، ويشير السارد إلى أن "بقية التقارير كانت باللون الأحمر وتشير إلى معلومات غير منظّمة وليست منطقية في تتابعها.. كانت لحظة الانفجار
وفي الخاتمة تفاجئنا القصة بمأسوية لم تفصح عنها في بدايتها حيث تم ذكر فقط المصابين الذين ادخلوا للمستشفى، وقد تكون هيأت لذلك بشكل ما فالإصابات الخطيرة قد تؤدي للوفاة. ونفسه عبد الله مشرف التشغيل، والذي ذُكِر في بداية القصة يظهر من جديد وفي تواصل إنساني عاطفي يستخدم يديه كما في بداية القصة، فِعلٌ لا تستطيع الآلات والماكينات القيام به. يوضح المشهد مشرف الصيانة
"عند هذا الحد من تلخيص التقرير، كان مشرف التشغيل عبدالله يقرؤه من وراء ظهري وأنا جالس، وأشار بإصبعه المرتجف إلى فقرة (الانفتاح والإغلاق المتكرر لصمّام الوقود) ويضغط بيده الأخرى على كتفي: كان صديقك سلمان في الموقع بجوار الماكينة.. بحثنا عنه طوال الليل إلى الفجر ولم نجده. كان يرثيه ويواسيني لفقده
وهنا هبط الحزن واعتصر قلبي فتذكرت حدثاً مؤلماً في طفولتي، تذكرت ألم جيراننا والحي بأكمله، بل البلدة كلها حين فقدنا جارنا "عيد السيهاتي" "أبو أحمد" جيراننا الذين يسكنون في البيت المقابل لبيتنا، والذي أحترق وتفحم جسده تماماً عندما انفجرت الرفاينري مصفاة رأس تنورة وتيتم أطفاله وهم صغار ولم يبقى شيء لدفنه. وتذكرت زوج صديقتي من صفوى والذي قضى أيضا في حادث مشابه في انفجار المصفاة، وترملت صديقتي في ريعان شبابها. تذكرت الثمن عندما تخطأ الآلات أم من يُشغِلُها
أثر الفراشة
كيف تعرف أن النص القصصي جيد أو أن القاصّ قد أحرز في نصه قدراً من الجمال والابداع، أعتقد كقارئة أن ذلك يتضح بما تتركه القصة بعد قراءتها من أثر في نفس المتلقي فكراً وروحاً، وكأن النص قطعة حصى تلقيها في الماء فتشهد تموجات وكلما كانت الحصى أثقل كلما زادت التموجات وهذا أتضح في نص: انفجار.. الذي حاول تحريك الراكد من المشاعر والأفكار أو بالأحرى طرح تساؤلات فلسفية وجودية عن الآلة ودورها وتحكمها في حياة البشر، وكيف صارت تسيطر الآلة وتحل محلّ الإنسان، وتسبب له الدمار وكيف أثر ذلك في كيان الإنسان فصار يحسّ بالاغتراب وعدم الانتماء لبيئة تستغله وتُشَيّئه
النص القصصي "انفجار.." متلاحم في شكله وتفاصيله ورؤيته ويشير بأصابع الاتهام للحضارة والبيئة الصناعية، وسحق الاقتصاد للإنسان، والتعامل معه كبرغي في آلة، ولا يدفع الثمن لهذا الاستغلال سوى الإنسان كسلمان، صديق مشرف الصيانة. يتم الإفصاح عن اسم "سلمان" وليس صديقه مشرف الصيانة، فعندما مات سلمان في انفجار المعمل عادت له إنسانيته، تحول من رقم إلى إنسان فالآلات لا تموت
القاصّة: نجاة الشافعي
٢٦ /٣/ ٢٠٢٤م