عيدالموت#

قاربت الساعة السادسة مساء. انتهت من طبخ العشاء. أعدت أبريق شاي بالنعناع ودله قهوة عربية بالهيل والزعفران، مشروباه المفضلان. يحب أيضا المكسرات المشكلة وضعتها في أطباق صغيرة بلورية. يتراقص نور الشموع التي أشعلتها لتضفي للصالة دفئا ورومانسية بفعل الهواء البارد المتسلل من النافذة . رائحة كعكة الشوكولاتة انتشرت في فضاء المطبخ. أخرجتها من الفرن حارة شهية. أحتضنها صحن مزخرف اشترته لهذه المناسبة الخاصة، عيد ميلاده الخمسين. طلتها بكريمة طازجة وزينتها بحبات الكرز. صفت خمسة شموع على شكل قلوب حمراء فوق وجهها الأملس. قبل أيام اشترت له هدية كاميرا فاخرة ماركة كانون وعدسات احترافية كلفتها مرتب شهر كامل. لفتها في ورق ذهبي مطرز بالنجوم. يدمن على تصوير الطبيعة وكاميرته قديمة فارتأت أن تبتاع له هذه الكاميرا. أشعلت البخور متنقلة به كفراشة من زاوية لزاوية تنشر الرائحة الطيبة في كل أرجاء المنزل وتتمتم بالصلوات والمعوذات. ثم ألقت نظرة على أناقتها في المرآة. عدلت من تسريحتها ودست خصلات الشعر البيضاء خلف أذنيها. لبست قرطين ذهبيين أهداهما لها في عيد زواجهما الأول ثم توقفا عن الاحتفال به لأنه يقول لا داعي للمبالغة والتصنع فكل أيامنا أعياد. هو نادرا ما يتذكر عيد ميلادها لكنها تتذكر عيد ميلاده كل عام وتحتفل به معه. وضعت اللمسات الأخيرة: كحل أسود وبودرة خدود خوخيه اللون وأحمر شفاه صاخب. ارتدت الكعب العالي واغلقت الأنوار لتفاجئه عند دخوله المنزل

تصوير: نجاة الشافعيلندن صيف ٢٠١٦ م

تصوير: نجاة الشافعي

لندن صيف ٢٠١٦ م


تأخر الوقت كثيرا ولم يأتي. اتصلت به لكن هاتفه النقال كان مغلقا فأصابها القلق. هل به شيء؟ هل أصابه حادث أو مكروه لا سمح الله. وضعت يدها على قلبها وهي خائفة فهو عادة يعود للمنزل في حدود السادسة. وبعد ساعات كئيبة من الانتظار كانت فيها أعصابها مشدودة كأوتار الكمان رن الجوال بنغمة خاصة به: ليلة من ليالي العمر. قال بصوت هادئ: مساء الخير. لن أتمكن من الحضور. لدي عمل كثير! سأتأخر في المكتب. تعشي بدوني. سأتعشى مع الزملاء، وبفعل وقع المفاجأة سكتت على مضض

خلعت الكعب العالي. ألقت بنفسها على الأريكة وآمالها العريضة تحولت إلى سراب بعد عناء يوم طويل من الاستعدادات المرهقة. بكت طويلا فامتزج الأسود والأحمر أسفل عينيها وعلى وجنتيها. خالجها شعور أنه سيحتفل بعيد ميلاده في مكان آخر. قطعت الشموع أربا. طعنت الكعكة بسكينة حادة عدة مرات فتناثر الكرز وسالت دمائه ممتزجا بالكريمة البيضاء واشلاء الكعكة البنية في منظر منفّر. صورتها بالكاميرا ووضعت الصورة على الانستغرام مع هاشتاغ #عيدالموت. علق على الصورة في اليوم التالي: هههههههه وابتسامة وجه يبكي من شدة الضحك

نص: نجاة الشافعي

٢٢ مايو ٢٠١٩ م

  سالبة بانتفاء الموضوع  

في فترة الخطوبة كان يحدثني لساعات طويلة ويزورني باستمرار. نخرج سوية للمطاعم والمنتزهات والأسواق في كل أسبوع، فيمر علينا الوقت بدون أن نشعر لشدة سعادتنا. لكن بعد عدة شهور انقلبت الأمور وكأن بركاناً خامداً نهض فجأة واجتاح كل ما في طريقه من حب واهتمام. صار يحدثني لعدة دقائق ويزورني فيما ندر ولا نخرج إلا حوالي مرة أو مرتين في الشهر. وعندها نسير مكتئبين على رأسينا الطير أو نتحدث باقتضاب. كلما لـُمـته تدبّ الحياة في علاقتنا المريضة، ثم يعود الثلج ونستمر بين مد وجزر. عندما رأيتُ لوحة ممدة على الأريكة في شقته لرسامة مغمورة شممت رائحة نفاذة زكمت أنفي. سألته عن اللوحة وصاحبتها فأنكر أنها تخصه. قال بانزعاج لتحقيقي معه بأنها لأحد أصدقائه أحضرها ونساها عنده. أليس لديكِ ثقة فيني! أنتِ شكّاكة! وعلا صراخه ووعيده

the mask.jpeg

  في كل مرة يُلقي الكرة في ملعبي: أنتِ لا تحاولي لإنجاح علاقتنا. أنتِ دائما مستعجلة في الحكم على الناس. أنتِ لا تصبري. أنتِ قذيفة مشاعر سرعان ما تنفجر. أنتِ دوما تظنين ظن السوء بدون مبرر. أنتِ نار تحرق الأخضر واليابس. في عيد خطوبتنا الثاني باغتته وأنا أغالب دموعي: “لا داعي لأن نستمر. لا داعي أن نخدع أنفسنا ومن حولنا. فأصلاً لا توجد علاقة إذا لم يوجد تواصل فعلي بيننا واتصال عاطفي فيما بين روحينا. علاقتنا سالبة بانتفاء الموضوع”. هكذا يقال في علم المنطق. أردت أن أوصل له رسالتين: فسخ خطوبتنا وجهله في المنطق ليس كعلم فقط ولكن أيضا كمنطق في الحياة. “أنتَ - والآن حان دوري أن أستخدم أنتَ- أنتَ لا تستطيع الجمع بين الضدين. أن تجمع بين النور والظلام، النهار والليل. نحن ضدين. هذه المرة وضعتُ العصا في عجلة حديثه المشروخ وألقمتهُ حجرا جيريا. سأمتُ كيل الاتهامات المعلبة الجاهزة التي يستخدمها معي للقفز للأمام

نظرَ إليها شزرا. أربد وأزبد وأرعد. أصمّتْ سمعها فلم تميز ما قاله. أسدلتْ الغطاء الأسود على وجهها. غادرتْ المطعم الذي شهد احتفالهما الأول والأخير بخطوبتهما. صحيح أن أسرتها ستلومها وبالخصوص أبوها لأنه أختاره لها فهو عريس من أسرة غنية تتاجر في الذهب لكن حريتها هي الغِنى الذي تنشده فقط. رمقت باحتقار سيارته المرسديس البيضاء الواقفة باختيال أمام المطعم. مشت طويلا حتى وصلتْ البيت. ألقت بقلبها المنهك على الوسادة وقطعت حبل الأمل بسكين حادة لكي تفصُلُهُ عما تبقى من روحها

 

كتابة ورسم: نجاة الشافعي

٢٠ مايو ٢٠١٩م

المرأة ُ المنفلوطية

أحبها بعمق إلى حد الجنون لكنها لم تعلم بحبه لها لمدة ثلاثين عاما عجافا. تزوجت صديقه الذي تقدم لخطبتها فأختفى من حياتهما وتلاشت أخباره. سمعت في سنة من السنوات بالصدفة إنه هاجر إلى بلد بعيد لكن لم تسمع عنه بعد ذلك شيئا. زوجها لم يذكره أبدا رغم صداقتهما الوثيقة. عندما توفي زوجها بعد صراع طويل مع السرطان حزنت حزنا شديدا أثرّ عليها فازدادت نحولا وغارت عيناها وبرزت عظام خديها ورقبتها . أفتقدته كثيرا. أحست بثقب كبير ينخرُ قلبها وأنها صارت جنازة تمشي على قدمين. كانت علاقتهما مميزة رغم المشاكل التي عصفت بهما. يغمرها بالحب والهدايا ويحاول أن يرضيها بعد كل خلاف بينهما. لديهما ابن واحد سافر للخارج لدراسة الهندسة وعاد لمدة أسبوع فقط لحضور عزاء والده ثم رجع ليكمل مسار حياته العلمية بعيدا عنها. فكرت بالرحيل معه بعد وفاة زوجها لكن صرفت النظر في اللحظات الأخيرة بعد أن أعدّت العدة وحزمت أمتعتها . ثمة مغناطيس هائل يجذبها لموطنها. هل هو زوجها وذكراه في البيت الذي عاشا سوية فيه مع ابنهما الوحيد! لم تكن متأكدة سوى أنها سمكة لا تتنفس خارج بحر الوطن. نخلة وفية للأرض التي نشأت وتربت فيها

بعد عدة شهور من الوفاة كانت تجمع ملابسه وأشيائه في صناديق مخصصة لذلك. فتحت أحد الألبومات ونظرت للصور. الصورة الأخيرة كانت لزوجها وصديقه يأكلان معا ويضحكان في منتزه عام تحيط بهما مجموعة من الأصدقاء. تفحصت صديقه والذي نست ملامحه بمرور السنين. “صادق” يمتاز بسمرته الشديدة وشعره خفيف مجعد. عيناه عسليتان ثاقبتان وحاجباه معقوفان وأسنانه الأمامية متفرقة. أخرجت الصورة لتتفحصها عن قرب من الألبوم لضعف نظرها من شدة البكاء المتواصل. سقطت ورقة صغيرة مخبأة خلفها. انتابها الفضول ففتحتها وقرأتها. إنه خط المرحوم زوجها

صديقي وحبيبي الغالي صادق

أكتب لك اعتذار من صميم القلب لأني قطفت الوردة التي أردتَ أن تقطفها قبلي. لم أعتمد أن أجرحك أو أذيتك، عندما سبقتك وتقدمت لخطبتها. أتمنى أن تفهمني. لم تكن لي لدي الجرأة لأصارحك بحبي لها. لقد أحببتها حبا جما حتى قبل أن تخبرني أنت بمدى تعلقك بها، وأنك تفكر فيها ليلا نهارا ولا تستطيع الأكل أو النوم بسبب ذلك. لمَحْتُّ لك أكثر من مرة أن علاقتي بها مختلفة. قلت لك أننا منذ الطفولة نلعب ونمرح معا وأن أهلنا سَمُونَّا لبعض. كانوا دائما يكررون على مسامعنا منذ صغر سننا: منى لعادل وعادل لمنى. كنت في فترة المراهقة أكتب لها الرسائل وأرسلها لها عن طريق أختي الصغيرة. لقد منحتني الوردة حبها في مكالمات هاتفية بيننا ورسائل ما زلت محتفظا بها. حسبتك ستفهم وتبتعد لأنك صديقي الصدوق. أمنحني فرصة أوضح لك كل شيء. لماذا لا ترد على اتصالاتي ولا تجيبني. وعندما أطرق بابكم دائما يقول لي أخوك الصغير أنك غير موجود. صادق صديقي، يجب أن نتحدث وتخبرني عن مكنونات قلبك وأشرح لك موقفي. لا تقاطعني هكذا. أنا لا أطيق ضياع صداقتنا من أجل امرأة حتى وإن كانت منى زوجتي. لقد درسنا منذ الابتدائية معا وكنا أقرب الزملاء لبعض. صادق، اتذكر عندما اعرتني كتابك وتعرضت لضرب المدرس. أتذكر عندما كنت احضر الطعام من منزلي ونتقاسمه سوية. أتذكر لعبنا لكرة القدم في الطرقات. أتذكر ضحكنا عندما نعد المقالب للمدرسين والطلاب. أرجوك لا تسيء فهمي. أنت جزء لا يتجزأ من تاريخي وقطعة من قلبي. أتمنى أن تجيب على اتصالاتي. أتمنى أن أجدك لأحدثك بدل أن أحاول أن أرسل لك هذه الرسالة. وأتمنى أن تسامحني. صديقي أعاهدك بأني سأعاملها بحب ولن أفرط فيها أبدا.

صديقك المخلص أبداً: عادل

three+children.jpg

من شدة الصدمة التي باغتتها سقطت الورقة والصورة من يديها، وأغرقت عبراتها وجهها ورقبتها وابتلت ياقة ثوبها الأسود. لماذا لم يخبرني أحد! كان لي الحق أن أعرف! كان لي الحق أن أختار من أريد! لماذا كذب كليهما علي وأخفيا الحقيقة طوال هذا الوقت! لماذا يكذب زوجها ويقول أنها صارحته بحبه في مكالمات ورسائل وهي لم تفعل ذلك لشدة خجلها. الآن فقط وجدتْ التفسير لما حيرها سابقا من تجاهله لصديقه وتجنبه الحديث عنه. شعرت بخيبة الأمل تصفع وجهها بقوة. بدأ القهر يتغلغل في صميم قلبها. ما أعجب الحياة! في هذا الوقت الذي تود أن تحتفظ فيه بذكرى جميلة عن زوجها يفاجئها القدر بهذه القسوة فتتسلل نُذر الشك إلى عقلها. كيف تُصلح مرآة عواطفها التي كُسرت بعد أن قرأت الرسالة. مزقت الرسالة غاضبة ثم الصورة وألقتهما في القمامة. تريد أن تمحو ما قرأته من ذاكرتها متظاهرة بأنها لم تطلع على هذا السر الكبير الذي زعزع كيانها، ربما كان كل ذلك من محض خيالها فلا إثبات له بعد أن أزالت آثاره: الصورة والرسالة. غريب أمره لماذا لم يتخلص من الرسالة بعد كل هذه السنوات! هل نسى أم أنه تعمد أن تطلع على هذا السر ملتمسا منهما الصفح والغفران

من ضمن عيوبها الفادحة أنها دائما ترى النصف المملوء من الكأس. تنظر للناس بمثالية ثم تصيبها الصدمة إذا اكتشفت النقيض من ذلك. ما ساهم في مثاليتها المفرطة ما قرأته وهي مراهقة من كتب المنفلوطي: العبرات والنظرات وماجدولين والشاعر. فلقد فرضت مدرسة اللغة العربية العراقية على طالبات الصف الأول المتوسط أن يقرأن كتب المنفلوطي لتحسين أسلوبهن في الكتابة، أما هي فلم يتطور أسلوبها كثيرا لكنها تأثرت تأثرا شديدا بالشخصيات المثالية الافلاطونية التي يعرضها المنفلوطي لقيم كالحب والوفاء والتضحية والإيثار والفداء. لذلك زوجها كان يمثل لها قمة فريدة في الحب والإخلاص. لم تكن تعلم أن قمة الجبل قامت على أرض طينية متحركة. وإنه ذو وجهين. هل سيفاجئها القدر بأمور أخرى عنه، من يدري! لكن لو وضعت نفسها محله هل من الممكن أن تفعل مثله! أي لو أحبت شخصا وصديقتها أحبته أيضا بالتأكيد سوف تتقرب منه ولا تبالي بها. لا! إنها ليست كذلك! أنها تحمل في قلبها جذوة من القيم الأفلاطونية المنفلوطية. ستقاوم شيطانها وستؤثر صديقتها على نفسها، فالرجل يمكن العثور عليه أما الصداقة فكنز من الصعب الحصول عليه

بعدها حاولت اقتصاء أثره فوجدته قد تزوج أجنبية وأنجب خمسة أطفال، وعاد قبل عام للوطن. كان في السابق يرسم لكنه الآن كما علمت من ابنة عمه أنه أصبح أشهر من نار على علم. إذاً، ربما تسنح الفُرصة أن تقابله بدون أن تحرج نفسها في معرض من معارضه الفنية. هل سيعرفها وهي تغيرت كثيرا من فتاة جذابة ممتلئة شبابا وحيوية إلى خمسينية أرهقتها سنوات العناية بزوجها في مرضه وكسر جناحها ما اكتشفته أخيرا عنه. تندمت أنه في ذلك الوقت قبل زواجها لم تقرأ ما بين السطور. لم تشم رائحة الحب من خلال كلام صادق ونظراته إليها. كيف لم تشعر كأنثى بذلك، تذكر أنه كان يخالجها إحساس غريب كلما صادفته في الشارع لأنه ينذهل ويتجمد في مكانه ينظر للأسفل متجنبا النظر المباشر إليها لكي لا يشي بسره. يتلعثم ملقيا التحية عليها على عجالة. ألهذا السبب تقدم زوجها سريعا لخطبتها وأصر أن الزواج يكون بعد أسبوع فقط من الخطوبة خوفا أن تتطور العلاقة بينهما ولقطع الطريق عليه بلا عودة. فهمت الآن ما كان يتمتم به زوجها في غيبوبته: سامحني، سامحني، صديقي سرقتها منك... قطفت الوردة

تلك الليلة كانت ثقيلة كصخرة جثمت على قلبها. أتشحت بالسواد من قمة رأسها حتى أخمص قدميها. خرجت من العِدَّة لكن ما زالت ترتدي السواد وفاء لزوجها ولا تقرب الزينة والعطور . دخلت المعرض في يوم الافتتاح الذي يحضره غالبا الفنان قبل إغلاقه بنصف ساعة. كان هناك قليل من رواد المعرض يتجولون فيه ويتأملون اللوحات بصمت. بحثت عنه لكنه لم يكن موجودا في المعرض. معظم لوحاته بها امرأة غير واضحة المعالم لكنها تشبهها كثيرا في ملامحها وحركاتها وسكناتها. فجأة فُتح باب جانبي وظهر صادق. تساقط معظم شعره لكن حاجبيه زادا تقطيبا وتغضنت جبهته وصار يرتدي نظارة سميكة. رآها من بعيد فاقترب قليلا ورفع نظارته يمسح عدستيها كأنه غير مصدق نفسه. اقترب بفضول قائلا: كم تشبهين قريبة عرفتها! تردد أن يقول حبيبة فلا يليق به ذلك مع امرأة قابلها للتو. بادرها بالسؤال: كيف ترين لوحاتي؟ يهمني جدا رأي المتلقي! أجابتْ: جميلة جدا ومميزة. عندما تكلمت انتفض وبدأت دقات قلبه تتسارع: صوتكِ، صوتكِ، مألووف. أنتِ.. أنتِ مُنى. وسكت وتأمل وجهها وابتعد قليلا وأدار رأسه ينظر حولها يبحث عنه. تماسك وقال بلباقة: أختي منى تشرفت بحضورك المعرض. أين عادل؟ هل، هل ينتظرك في السيارة؟ أطلبي منه الدخول أو، أو سأخرج لأراه وهمّ بالحركة باتجاه الباب الرئيسي. أوقفته قائلة بصوت حزين خرج من بئر عميق: لقد أعطاك عمره. ارتعدت مفاصله وارتبك ونظر إلى البعيد وغالب دموعا صامتة تألقت في عينيه. قال غير مصدق ما سمعه: كيف، ما الذي حدث؟ ما زال شابا! لا أصدق! الله يعظم أجرك ويرحمه ويتغمده في واسع جنانه. آسف، آسف جدا! لم أعرف! انقطعت أخباركم عني لأني هاجرت للخارج وعدت مؤخرا. كم كنت أتمنى أن أراه! في غربتي كنت أفكر فيه دائما وأتحدث عنه وعن صداقتنا المميزة مع زوجتي وابنائي. لكن الأمر لله. إنا لله وإنا إليه راجعون

حزمتْ أمرها على المواربة، وقالت له: عادل في لحظاته الأخيرة كان يردد سامحني صديقي صادق وأنا لا أعلم ما هو السبب. ورغم معرفتها بما حدث من خلال الرسالة التي صدمتها أنكرت علمها لتحافظ على كرامة زوجها وهو ميت كم لو كان حيا. لم تجرأ روحها الشفافة أن تكيل له الاتهامات في غيبته ولم تستسيغ أن تنحدر في مشاعرها وتسأل صادق: هل أحببتني فعلاً، هل نسيتني، هل ما زلت تحبني، هل لوحاتك عني؟ تابعت الكلام: فأرجو رجاء حارا مهما كان موضوع الخلاف بينكما أن تسامحه من أجل العشرة والأوقات الجميلة التي قضيتماها معا. أجابها متلعثما ومجاريا لها: آه، مسكين عادل. كان.. كان خلافا بسيطا. هو أراد أن يشتري سيارة وأنا.. أنا أيضا رغبت في نفس السيارة لكنه سبقني واشتراها ولم يخبرني. زعلت في البداية لكني سامحته منذ زمن بعيد. كم هو رقيق أن يتذكر هذا ويحّز في نفسه! هو أيضا تصرف بنبل وحافظ على سمعة رفيقه بيضاء ناصعة فلم يبح لها بالسر. صمتا عن الكلام برهة ونظرا للوحات المصطفة أمامهما والتي تضج بالحياة. أحست بأن النساء اللاتي في اللوحات تنظر وتنصت لهما باهتمام

ثم باغتها: منى، أنت أيضا سامحيني! تسألت: لماذا؟ رد عليها بصوت حانٍ رقيق: لأنني لم أعلم بمرضه ولم أكن معه لأخفف عنه في لحظاته الأخيرة، ولم أقف بجانبك في ذلك الوقت العصيب. منى، سامحيني لم يكن بيدي! الظروف حتمت عليّ البعد، وهذا حال الدنيا لقاء وفراق. أجابت: لا داع للأسف. أشكرك، الآن عادل سيكون مرتاحا لصفحك عنه. شكرا جزيلا. شعرت بالراحة والرضا لحديثهما لأنها لم تلمه ولم يلم هو زوجها. كلاهما حافظا على ذكرى زوجها نقية. أنتهى لقائهما بأن أهداها لوحة من لوحاته . ترددت في قبولها لكنه أصر عليها. أخبرها بأنها من أعز لوحاته على قلبه، فقد رسمها عندما غادر البلد قبل ثلاثين سنه واسماها أمل. شكرته واحتضنت اللوحة التي بها امرأة كأنها توأم لها تقف بشموخ عند النافذة تحمل مظلة وتنظر للسماء الملبدة بالسحب السمراء

نص ورسم: نجاة الشافعي

١٩ مايو ٢٠١٩م

امرأة على الصامت

انتقدَ شرائها له فوطة خضراء مرصعة ببطات صفراء، وفانيلة زرقاء حجمها أصغر من قوامه الممتلئ، كما أحتجَّ على تعليقها لرسومها في الصالة قائلا: هناك الكثير من الرسوم والقليل من الفن! تحتاجي أن تدرسي أصول الرسم وفروعه قبل أن ترسمي! حرام عليكِ تشوهي الجدران بما تسميه الفن الحديث! صمتتْ كالمعتاد وحملقتْ في الفراغ بعيون انحبس فيها القهر والألم. وأستمر المارد الذي انطلق لسانه من القمقم يثرثر ويكرر العديد من القصص والمواقف بصوت عال، وهي تتظاهر بأنها تنصتُ له حتى فرغت معدته

 

suffering.jpg

بعدها جلس يزدرد الأكل بشراهة الذئب وهي ترمق قميصه الرمادي بطرف عينيها. وضعت لقيمات قليلة في طبقها لتسد رمقها. أما طبقه فجبل شامخ من كبسة الأرز باللحم. أخبرها أن نفسه مسدودة هذه الأيام وفقط يأكل وجبة واحدة في اليوم. ثم قال: انظري، انظري! مشيرا إلى طبقه، هل هذا طعام يكفي أن يأكله رجل! انبرت ابتسامة مغتصبة على شفتيها وهي تقارن بين الطبقين الخالي الوفاض والممتلئ حتى الثمالة. قالتْ باقتضاب: يمكن لديك فقر دم؟ رد هازّا رأسه: لا، لا! أجريت فحوصات وكل تحاليلي سليمة، الحمد لله. قالت: وحبوب الضغط؟ أجاب: نعم مستمر عليها. اليوم اعطاني الطبيب نوعين منها وكذلك حبوب للسكر زاد جرعتها. أصلاً، في هذا العصر مَنْ مِن الناس بدون ضغط أو سكر

 منذ تزوجت ابن عمها بناء على رغبة والدها وهما على طرفي نقيض. هو بركانٌ مُشتعل دائم التبرم والانتقاد، لا يسلم من آفات لسانه الصغير أو الكبير، وهي هادئة باردة كالثلج. عالمه مليء بالضجيج الذي لا تطيقه بالخصوص حين يرفع صوت هاتفه ليشاهد مسلسلاته وأفلامه المفضلة على اليوتيوب أو عندما يحدث أصدقائه بنبرة حادة تخترق الجدران. كانت في البدء تستهويه المسلسلات المكسيكية المدبلجة ثم هجرها وتعلق بالتركية أما الآن فأدمن الكورية. يكره كل الدراما الخليجية ماعدا طاش ما طاش والذي يزيد ويعيد في اجتراره ضاحكا بهستيريا كلما شاهده. ولديه الكثير من الأصدقاء يسهر معهم في المقاهي والاستراحات إلى ساعات الفجر الأولى. جربتْ مرارا أن تناقشه أو تطرح وجهة نظر مختلفة لكنه عنيد يصر على رأيه ويغضب ويقاطعها أياما، ثم تشم رائحة عطور نسائية رخيصة مختلطة بالسجائر عندما يلج الفراش، لذلك لتتعايش معه تلوذ بالصمت والصبر كما نصحتها والدتها

أما هي فتعيش مع الرسم وللرسم. فمنذ تفتح عينيها عند الفجر إلى أن تغلقهما بعد منتصف الليل ترسم وترسم، ما عدا وقت الطبخ والأعمال المنزلية، وعندها أيضا تفكر فيما سوف ترسمه أو تكملهُ في لوحاتها. جربّت الصديقات وسأمت من اهتماماتهن الفارغة وأحاديثهن المستهلكة عن الأطفال والأزواج والطبخ والموضة والأزياء والرشاقة فاعتزلتهن. كان منقذها الرسم. تتذكر كتاب مترجم لشريعتي قرأته في أوج شبابها: الفن المنقذ المنتظر. وها هو الرسم يأخذ بيديها إلى عالم الفن والجمال. ترسم أي شيء وفي أي وقت. لم تدرس المدارس الفنية في الرسم أو تحضر دورات، لكن كلما انتابتها الرغبة الجامحة في الهروب من الفقر في المشاعر الذي يحيط بها، تحمل الفرشاة وتمزج الألوان وتلطخ اللوحات بما تجود به نفسها من الألوان فتجد ذاتها في ذلك المكان البعيد. عادة تبدأ بالألوان الدافئة أحمر وأصفر وبرتقالي وعندما ينحسر وجعها تفتح الباب للألوان الباردة على مصراعيه. تبدأ بالبنفسجي المحمر ثم البنفسجي الفاتح الذي يميل للأزرق، يليه اللون الأخضر المصفر ثم الأخضر الداكن ثم اللون الفيروزي الذي تعشقه ويتربع عرش قلبها ويحضر في سائر لوحاتها. اللون الفيروزي فريد من نوعه كونه يجمع بين اخضرار الأشجار وزرقة السماء لذلك تشعر أنها معلقة في أقصى نقطة في الغلاف الجوي تلامس قدميها الأرض الخضراء وعندما ترفع رأسها تتطاير خصلات شعرها مع الغيوم. كم تمنت لو أنه بدل أن يختار الأبيض لطلاء الصالة أن تكون قطعة فيروز. تكره الألوان المحايدة وتعتبرها خيانة لونية. فالأبيض يسرق من الألوان بهائها والأسود يغرقها في غيبوبة بصرية والرمادي يجمع بين الخيانة والغيبوبة. كذلك تستخدم كافة أنواع الألوان: الزيتية والمائية والاكرليك واقلام الفحم والحبر الصيني وأحيانا تمزج فيما بينها بطرق قد لا تعجب باقي الرسامين لا يهمها ذلك. إنه الإحساس الذي يقودها عندما تحمل الفرشاة وعندها تقرر ما الذي ستستعمله في تلك اللحظة المصيرية من عمر اللوحة

عندما ترسم تتحرر من أصفاد الواقع المنحدر. تحلق في سماء سابعة في تجربة روحية خصبة. تتعالى على كل الألم والحزن والاستبداد لتشعر بحب متدفق يفيض على الكون والبشر والحياة، . في عالم الرسم سحر خلاب لا يدركه إلا من غرق في يَمْ الفن وتوحد مع الفضاءات اللونية المدهشة. هناك تنسى كل ما يحيط بها وتبحر في لذة الاكتشاف والخلق الجديد. تصبح قادرة مهيمنة بيدها عجينة لونية تخلق منها ما تشاء من عوالم وكيفما تشاء. حيوات قد تكون حالمة أو مرعبة أو واقعية أو رومانسية أو نرجسية أو مثالية. قد تضاهي الواقع في بعض جزئياته أو لا تماثله على الإطلاق. في الفنتازيا التي تُطلقها في لوحاتها تجمح مخيلتها فترسم طيور بأيدي ونساء بأجنحة وأطفال بعجلات وخيام طائرة وفراشات منتحرة وعناقيد على النخل وصحراء ملونة وخليج من تراب ورجال مفقأة عيونهم

حتى أثناء نومه تهجر مخدعهما وتسهر مع اللون. أخفت بعض اللوحات في المخزن والتي صورت فيها وجوه بشعة وأبدان مقززة وهياكل عظيمة، بينما علقت الورود والزهور والحدائق والطيور وأطفال يرقصون كالفراشات والنساء الجميلات في الصالة وغرفة النوم والمكتب. ورغم تهديده ووعيده ظلت صامدة هي وفنها في وجهه. هو يعرف أنه مهما تمادى في غيه أن لوحاتها مقدسة لديها وهي الخط الأحمر الذي لو تجاوزه لا يضمن صبرها على حياتهما التعيسة وعدم تمكنه من الإنجاب، لذلك ينتقد رسومها في أوقات متباعدة ولا يمتلك الجرأة أن يضع يده على أي من ألوانها أو فراشيها أو لوحاتها

 

يُطلق عليها العديد من الألقاب مثل: بيكاسو الخبل، الموناليزيا المجنونة، أُمْ فرشاة، أُمْ الرسم. وأحيانا يناديها مستخدما فقط الضمير: أنتِ. يوما قال: هيه، أنتِ! قومي أحضري لي بيبسي! أجابتْ: والله نسيت لم أشتريه، سامحني! قال: ماذا! ماذا! كم مرة قلت لك أهم شيء لدي البيبسي، وليس الدايت بيبسي لأنك أحيانا تحضرين الدايت وأنت تعلمين أني أكرهه. أجابتْ: أخاف على صحتك. قال: لا! من قال لك ذلك! ما دخله بالصحة! السكري ليس مهم. أنا عندما ينخفض لدي السكر أرفعه عندما أشرب البيبسي وخاصة بعد الأكل. لكني اُبتليت ببقرة لا تفهم. يالله روحي اشتري واحد. اعترضتْ: لكن الوقت متأخر الآن! صرخَ: حرام عليكِ، أنا متعب وضغطي نازل وسكري منخفض. أسرعي، سوف أموت! واضطرتْ لتلبية طلبه خوفا عليه وعلى نفسها من موجة غضب عارمة قد يكسّر فيها آنية جديدة

 

ومؤخرا يبدو أنه نسى كل التسميات السابقة وصار يستهزأ بها ويناديها معظم الوقت: يا جوال على الصامت تعالي، على الصامت روحي. على الصامت ردّي. على الصامت أريد شايا بالنعناع. أحبت هذا اللقب بالذات دون باقي الألقاب السابقة. لم تكن تشعر بأية إهانة حين يناديها به. واستمرت مطبقة شفتيها معظم الوقت. ما الفائدة من الكلام! لن يتغير شيء، فقط ستزداد رقعة الخلاف بينهما. ثم ما الفائدة إن تركته، سوف تستبدله بآخر مثله. أمها قالت كلهم هكذا، مثل فردة الحذاء التي تُكمل الأخرى. أما مشاعر الأمومة فلا تستهويها لأن لديها لوحاتها والتي تشعر بها كأبنائها وبناتها، فلماذا تمنح حياتها لأطفال يمتصون رحيقها. لماذا تنجب رجلا كزوجها أو امرأة مثلها! هل العالم ينقصه المزيد من الشقاء! يكفي ويزيد ما فيه من أطفال أيتام وأسر مشردة. حاولت مع زوجها أن تقنعه أن يتبنيان طفلا لكنه رفض رفضا قاطعا: أولا، حرام وثانيا ماذا يقول عني الناس! اسكتي ولا تكرري هذا الكلام وإلا طلقتك بالثلاث. نادرا ما يهدد بالطلاق لذلك أغلقت باب التبني وكرهت الأطفال والحديث عنهم

في تلك الفترة تمادت في الرسم، فهجرت الأكل والنوم إلا القليل. صارت مغرمة برسم الأطفال الرضع. ترسم أجنّة بأجنحة وأطفالا تغني وأطفالا تغرد وأطفالا تتحدث وأطفال تزحف وأطفالا تركض وتقهقه. تخفيهم في المخزن لئلا يسمعهم فيؤذيهم. العالم الفني الذي تحيا فيه تمتد فيه حقول فيروزية شاسعة وتجرى بها أنهار كلون قزح، وفي ظل نخلة مونقة تجلس امرأة شقراء ترتدي جلبابا قرنفليا تحتضن طفلا رضيعا أسمرا في لوحة معلقة على الجدار

 

كتابة ورسم: نجاة الشافعي 

١٧ مايو ٢٠١٩ م

وردة الوتسب اليتيمة

design.jpg

في عيد ميلاده الثامن والخمسين الذي يصفه بعيد ميلاده الخامس والخمسين

وكأن مفارقة منتصف الخمسينات بالنسبة له معضلة عظمى

سلبه المرض بعض قواه وما يزال متعجرفا مصرا أنه أقوى وأصغر لا سيما بعد أن صار يصبغ شعره باللون الأسود بينما لحيته مصطبغة بالبياض في مفارقة عجيبة 

أهديتهُ جوال فضي غالٍ نزل للتو في الأسواق لأتصل به عندما أريد لأن جواله الآخر دائما خطه مشغول

فرح بهديتي وخبأه في جيبه

حدثتهُ طويلا عن الورد أشكاله وأصنافه ورائحته وافتتاني باطواق الفل تزين رقبتي القصيرة أو الياسمين اتوج بها رأسي الصغير علّه يهديني باقة حتى لو كانت بلاستيكية لا مانع لدي لكن لم يجدي كل ما سطّرته ونمقته من كلمات

أبديت إمتعاضي بأنه إذا لم يمكنه الاتصال أو كتابة مسج، على الأقل يمكنه بضغطه زر لا تستغرق ثانية ولا تكلف شيئا أن يرسل وردة على تطبيق الوتسب الذي قليلا ما نتحدث فيه

وعلى مضض صار يرسل لي وردة على تطبيق الوتسب من فينة لأخرى

إن كان مزاجه رائقا ونادرا ما يكون يرسل ثلاثة ورود حمراء لكن معظم الأحيان يكتفي بوردة واحدة فقط

في يوم ذبلت وردة الوتسب اليتيمة

وكان خط الجوال الفضي الذي منحته له دائما مشغولا

ثم صار الخط مغلقا طوال الوقت

سائني ذلك فألغيتُ حسابي في تطبيق الوتسب

وصرتُ أرسم الورود الصفراء على الورق

كتابة ورسم

نجاة الشافعي

١٢ مايو ٢٠١٩ م

 

 

 

الزهرةُ والمريخ

لحظات الأكتشاف الأولى كانت تُسكرنا حتى الثمالة

كالسحب الداكنة المعلقة في جيد السماء تُبشر بموسم الأمطار

لها رائحة العشب الندي الذي امتزج بأنفاس البحر

تحلق بنا في فضاءات قزحية بدون أجنحة

أنا لوني المفضل الأحمر  

أنت لونك الرمادي  

أنا أعشق الربيع  

أنت تعشق الشتاء  

أنا أحب النوارس  

أنت تحب الحمائم  

أنا برجي الأسد  

أنت برجك العقرب 

أنا  أقرأ كثيرا

أنت  تسافر كثيرا

أنا أعبر بالكتابة 

أنت تعبر بالحديث

أنا دائرة  

أنت ملتوي

أنا من الزهرة 

أنت من المريخ 

في تضادنا كان الجذب 

والكيمياء التي أحالت حتى الصحراء ذهبا

 

لكن كلما توغلنا في الحُلم فَقَدَ شغفه

أنا متدفقة

لكنك متصحر  

موطني القلب  

بينما وطنك الحُفر

أنت جبل من الأنانية

لكني بحر من العطاء

أنا لا أهرب منك

لكنك هارب حتى من ذاتك

أطبقت الكتابة شفاهها

وأسقانا الساقي

صحوا لا حُلم بعده

ولا نهاية له

رسم وكتابة نجاة الشافعي  

١٢ مايو ٢٠١٩ م 

upload.jpg

 رسم نجاة الشافعي 

١٠ مايو ٢٠١٩ م 

مزرعةُ الحِمْلان

تصوير نجاة الشافعي لندن ٢٠١٦م

تصوير نجاة الشافعي لندن ٢٠١٦م

في كل مرة تنقض عليهم الذئاب وتفترس بعض الحملان الصغيرة  في ليلة دهماء

وفي كل مرة باقي الحملان إما لم يسمعوا بما حدث أو يصموا آذانهم وقرا أو لا يكترثوا لأنهم شاربين آكلين نائمين في صفاء

بعضهم يضع اللوم على الحملان الوادعة التي حَلُمت بالسفر إلى مرعى آخر في ليلة قمراء

يأكلون التين والزيتون في حدائق غناء

حقل شرايينه تسيل شلالات لبن وماء

ناصع الخضرة يقطفون باقات ورد حمراء

تغني في الفجر بلابل شهباء

.تتدلى من الكروم ضفائر شقراء

هذه المرة تسرب خبر أزعج الحملان

الراعي الخائن هو من أدخل الذئاب

ليفترسوهم لقمة سائغة عند العشاء

بعد أن منحوه رتبة راعي الرعاة

.وأهدوه تسعة أبقار حلوب سوداء

 

أشتد خوف الحملان وازداد الثغاء

عويلهم أشبه بالبكاء كل يغني على ليلاه

فقد أُكلوا يوم أُكلت الحِمْلان البيضاء

التصقوا ببعضهم كالظلال الميتة الخرساء

صار جميعهم يحلُم بالهجرة للمرعى الآخر حين المساء

أما السلاحف فتقوقعت في أصدافها الإسمنتية الحدباء

.لكن  النوارس هاجرت بعيدا خلف السحاب وتركت الغوغاء

كتابة وتصوير

نجاة الشافعي

٥ رمضان ١٤٤٠ هـ

!آه يا ليل

آه يا ليل

في قلبي حجر

وفي كأسي نيازكٍ هوت من لُجة السماء

فأشعلت نيرانها في وليمة عشائنا الأخير

.ورفاقي لم يحضروا حفل عرسي الجنائزي

 

آه يا ليل

في فمي

مرارة بحر صوفي غرق قبل الطوفان

هجرته شواطئه السمراء

مراسي سفن صدئة تمخر عباب الرمل

نشيج بحارة شربوا ماء البحر فأنهكههم الظمأ

بهجة أطفالي لمرأى أقرانهم يعيثون عبثاً

عنفوان أمواج يداعبها صخب النسيم

دفق زخات مطر خريف حارقة

.حبور فراشات ربيع النهايات

 

آه يا ليل

رأسي سمكة عالقة

بريشة نورس مهاجر إلى الشمال

.وجناح المساء يغويني بالرحيل

 

آه يا ليل

ضباب كثيف يخنق عينييّ

تسقط أهدابي أشواكاً

في أحضان أشجار الصنوبر

أحدق في عتمة سرمدية

تسرق وهج القمر

وملامح نجوم تائهة

.في غربة ليلية لا تتوقف

 

آه يا ليل

أكاد لا أراها

نبتت في ضلوعها المنكسرة

شظايا زجاج الشوق

حصدت عشقها سكينة غدر

.وراء الباب

 

آه يا ليل

لو تجمع ما في صدري

من أصداف اليتم

لسقيتك عطشاً من نهر الفرات

.حتى تثمل

 

آه يا ليل

لو تسمع ما يشدو في أذني

لأطربك شجن ترنيمة غزل عراقية

.أنشدها لأطفالي لينامون

 

آه يا ليل

أبنائي عشرة     

مسافرون بدون حقائب

أسافر معهم في أحلامهم كل ليلة

أقبل صورهم كل صباح

أمسح وجوههم المتوهجة حزناُ

.أضم وسائدهم الباردة إلى نحري

 

آه يا ليل

أهواهم

لست أنساهم

أَعِد لي صدى ضحكاتهم

أَعِد لي شهقاتهم الملهوفة

أَعِد لي رائحة البحر

أمنحني فقط نظرة أخيرة

أنسجها في خيوط اللقاء

ترن في ناموس ذاكرتي

ألتصق بها بحميمية

قبل

أثناء

بعد

.الفراق

 

آه يا ليل

لن أرحل قبل أن أراهم

سأنتظرهم حتى يعودون

.سأنتظرهم حتى يسأم مني الانتظار

 

نجاة الشافعي

لا حياة في الحب


وكلما قلت إنّي ارتويتُ من الحب لا أرتوي

وكلما قلت سأنتهي من العشق لا أنتهي

وكلما قلت سأتوب عن البوح لا أنثني

   وكلما قلت هو فنائي أعود إلى النار أرتمي

وكلما قلت هذه آخر كأس أتجرعها لا أكتفي

أنا بذرة وهو التراب والماء والهواء وأنا إليه أنتمي

 .القتل في الحب عادتي فالمحب لا يرعوي

 ‏

!لا أكتب

!لا أكتب 

لأن الفضاء إستباحه غربان وغرباء  

غزاة القصائد

وصائدوا المعاني 

يلتقطون ما تساقط من حروف  

ما تهشم من عبق المشاعر 

ما تناثر من عقود القوافي

يطلونها بأحمر شفاه فاقع 

بائعوا الرقيق ينعقون 

يسيل العسل المر من أنيابهم 

. كلمات مخملية كالسراب يعانقها الضباب الكثيف 

 

لا أقرأ

إلا ما لم تخطه أناملهم

إلا ما لم تمسسه أطيافهم

إلا ما لم تدمره لوثتهم

فللقراءة  بريق 

لا يبهت 

لا يخفت

حتى في الخريف 

.بين أطلال الحروف

 

bleedingheart

لا أرى 

ما يبصرونه

لا أرى 

إلا 

شمعة هزيلة 

واقفة في شموخ العتمة

تأسرني فأحوم حولها

.فراشة تهوى الإنتحار

 

لا أسمع

إلا  عويل الأرامل

بكاء الأطفال

كل ما يدسونه خلسة داخل البئر

تلتقطه أذني

.فأبكي على وسادتي طوال الليل

 

 

ولن أتكلم

فحيح كلمات 

كانت في ما مضى تغرد خلف القضبان

أما الآن فصارت 

لا تحمل رائحة أو طعم 

فقط ألوان صاخبة مبهرجة

.تمتهن الغواية

 

١٢ رمضان ١٤٣٧هـ

2016/6/18

 

 

 

القهوة وتوابعها

للحرية طعم الليمون

في صيف يعج بالبهار

أدمِنُ القهوة وتوابعها

 الرواية الأنيقة والقلم المراوغ

 حبات العنب المالحة

 .بعد شتاء ثقيل الظل

 

ينعتق ضوء الفجر

يسرق أحلامي

من الزوايا المكسوة بالرماد

أوراقي تكتحل بقطرات الندى

.فتتوهج وجناتها

 

للراحلين بعيداً مذاق خاص

 كرشفة العسل الأولى

كقطرة زيت زيتون بكر بسيقان طويلة 

تتجلى بهجة مورقة 

.في صميم الروح

 

فتاة عربية 

لا تجيد صنع القهوة العربية

أحيانا تزيد الماء فتصير خفيفة تطير في الهواء

وأحيانا ثقيلة تترسب في قعر الفنجان كحجر

 أو فاترة بدون طعم 

 .ولا رائحة

 

 الزعفران يأتي من قلب الشرق الأخضر

تقطفه أنامل السجاد المنهكة

.يطلي القهوة المرة بأنفاس المطر

 

البعض يحب القهوة التركية

يقرأون الفنجان والصحيفة

قهوة على الريحة

 سادة أو سكر زيادة

.حسب مزاجهم المشاكس

 

أما المستحدثون والحضاريون

فيترشفون الكابتشينو

يلتهمون الكرواسان والشيزكيك

يقهقهون عالياً

.يتحَدون الصمت 

 

فتاة عربية

تعد النسكافيه الساخنة

القهوة الحامضة بالنعناع

الشاي الأسود بالزغفران

.تمزجها صاخبة في محبرة الألوان

 

 يا متشظية من حمى البراكين

أسقيني القهوة الدافئة كما تحبين

أرسمي قدري في رائحة قهوتك

أيقظي الصيف الخامد في دمائي

رشيني بماء الفنجان

.عله يروي ذكرياتي المتصابية

 

نجاة الشافعي