امرأة على الصامت
انتقدَ شرائها له فوطة خضراء مرصعة ببطات صفراء، وفانيلة زرقاء حجمها أصغر من قوامه الممتلئ، كما أحتجَّ على تعليقها لرسومها في الصالة قائلا: هناك الكثير من الرسوم والقليل من الفن! تحتاجي أن تدرسي أصول الرسم وفروعه قبل أن ترسمي! حرام عليكِ تشوهي الجدران بما تسميه الفن الحديث! صمتتْ كالمعتاد وحملقتْ في الفراغ بعيون انحبس فيها القهر والألم. وأستمر المارد الذي انطلق لسانه من القمقم يثرثر ويكرر العديد من القصص والمواقف بصوت عال، وهي تتظاهر بأنها تنصتُ له حتى فرغت معدته
بعدها جلس يزدرد الأكل بشراهة الذئب وهي ترمق قميصه الرمادي بطرف عينيها. وضعت لقيمات قليلة في طبقها لتسد رمقها. أما طبقه فجبل شامخ من كبسة الأرز باللحم. أخبرها أن نفسه مسدودة هذه الأيام وفقط يأكل وجبة واحدة في اليوم. ثم قال: انظري، انظري! مشيرا إلى طبقه، هل هذا طعام يكفي أن يأكله رجل! انبرت ابتسامة مغتصبة على شفتيها وهي تقارن بين الطبقين الخالي الوفاض والممتلئ حتى الثمالة. قالتْ باقتضاب: يمكن لديك فقر دم؟ رد هازّا رأسه: لا، لا! أجريت فحوصات وكل تحاليلي سليمة، الحمد لله. قالت: وحبوب الضغط؟ أجاب: نعم مستمر عليها. اليوم اعطاني الطبيب نوعين منها وكذلك حبوب للسكر زاد جرعتها. أصلاً، في هذا العصر مَنْ مِن الناس بدون ضغط أو سكر
منذ تزوجت ابن عمها بناء على رغبة والدها وهما على طرفي نقيض. هو بركانٌ مُشتعل دائم التبرم والانتقاد، لا يسلم من آفات لسانه الصغير أو الكبير، وهي هادئة باردة كالثلج. عالمه مليء بالضجيج الذي لا تطيقه بالخصوص حين يرفع صوت هاتفه ليشاهد مسلسلاته وأفلامه المفضلة على اليوتيوب أو عندما يحدث أصدقائه بنبرة حادة تخترق الجدران. كانت في البدء تستهويه المسلسلات المكسيكية المدبلجة ثم هجرها وتعلق بالتركية أما الآن فأدمن الكورية. يكره كل الدراما الخليجية ماعدا طاش ما طاش والذي يزيد ويعيد في اجتراره ضاحكا بهستيريا كلما شاهده. ولديه الكثير من الأصدقاء يسهر معهم في المقاهي والاستراحات إلى ساعات الفجر الأولى. جربتْ مرارا أن تناقشه أو تطرح وجهة نظر مختلفة لكنه عنيد يصر على رأيه ويغضب ويقاطعها أياما، ثم تشم رائحة عطور نسائية رخيصة مختلطة بالسجائر عندما يلج الفراش، لذلك لتتعايش معه تلوذ بالصمت والصبر كما نصحتها والدتها
أما هي فتعيش مع الرسم وللرسم. فمنذ تفتح عينيها عند الفجر إلى أن تغلقهما بعد منتصف الليل ترسم وترسم، ما عدا وقت الطبخ والأعمال المنزلية، وعندها أيضا تفكر فيما سوف ترسمه أو تكملهُ في لوحاتها. جربّت الصديقات وسأمت من اهتماماتهن الفارغة وأحاديثهن المستهلكة عن الأطفال والأزواج والطبخ والموضة والأزياء والرشاقة فاعتزلتهن. كان منقذها الرسم. تتذكر كتاب مترجم لشريعتي قرأته في أوج شبابها: الفن المنقذ المنتظر. وها هو الرسم يأخذ بيديها إلى عالم الفن والجمال. ترسم أي شيء وفي أي وقت. لم تدرس المدارس الفنية في الرسم أو تحضر دورات، لكن كلما انتابتها الرغبة الجامحة في الهروب من الفقر في المشاعر الذي يحيط بها، تحمل الفرشاة وتمزج الألوان وتلطخ اللوحات بما تجود به نفسها من الألوان فتجد ذاتها في ذلك المكان البعيد. عادة تبدأ بالألوان الدافئة أحمر وأصفر وبرتقالي وعندما ينحسر وجعها تفتح الباب للألوان الباردة على مصراعيه. تبدأ بالبنفسجي المحمر ثم البنفسجي الفاتح الذي يميل للأزرق، يليه اللون الأخضر المصفر ثم الأخضر الداكن ثم اللون الفيروزي الذي تعشقه ويتربع عرش قلبها ويحضر في سائر لوحاتها. اللون الفيروزي فريد من نوعه كونه يجمع بين اخضرار الأشجار وزرقة السماء لذلك تشعر أنها معلقة في أقصى نقطة في الغلاف الجوي تلامس قدميها الأرض الخضراء وعندما ترفع رأسها تتطاير خصلات شعرها مع الغيوم. كم تمنت لو أنه بدل أن يختار الأبيض لطلاء الصالة أن تكون قطعة فيروز. تكره الألوان المحايدة وتعتبرها خيانة لونية. فالأبيض يسرق من الألوان بهائها والأسود يغرقها في غيبوبة بصرية والرمادي يجمع بين الخيانة والغيبوبة. كذلك تستخدم كافة أنواع الألوان: الزيتية والمائية والاكرليك واقلام الفحم والحبر الصيني وأحيانا تمزج فيما بينها بطرق قد لا تعجب باقي الرسامين لا يهمها ذلك. إنه الإحساس الذي يقودها عندما تحمل الفرشاة وعندها تقرر ما الذي ستستعمله في تلك اللحظة المصيرية من عمر اللوحة
عندما ترسم تتحرر من أصفاد الواقع المنحدر. تحلق في سماء سابعة في تجربة روحية خصبة. تتعالى على كل الألم والحزن والاستبداد لتشعر بحب متدفق يفيض على الكون والبشر والحياة، . في عالم الرسم سحر خلاب لا يدركه إلا من غرق في يَمْ الفن وتوحد مع الفضاءات اللونية المدهشة. هناك تنسى كل ما يحيط بها وتبحر في لذة الاكتشاف والخلق الجديد. تصبح قادرة مهيمنة بيدها عجينة لونية تخلق منها ما تشاء من عوالم وكيفما تشاء. حيوات قد تكون حالمة أو مرعبة أو واقعية أو رومانسية أو نرجسية أو مثالية. قد تضاهي الواقع في بعض جزئياته أو لا تماثله على الإطلاق. في الفنتازيا التي تُطلقها في لوحاتها تجمح مخيلتها فترسم طيور بأيدي ونساء بأجنحة وأطفال بعجلات وخيام طائرة وفراشات منتحرة وعناقيد على النخل وصحراء ملونة وخليج من تراب ورجال مفقأة عيونهم
حتى أثناء نومه تهجر مخدعهما وتسهر مع اللون. أخفت بعض اللوحات في المخزن والتي صورت فيها وجوه بشعة وأبدان مقززة وهياكل عظيمة، بينما علقت الورود والزهور والحدائق والطيور وأطفال يرقصون كالفراشات والنساء الجميلات في الصالة وغرفة النوم والمكتب. ورغم تهديده ووعيده ظلت صامدة هي وفنها في وجهه. هو يعرف أنه مهما تمادى في غيه أن لوحاتها مقدسة لديها وهي الخط الأحمر الذي لو تجاوزه لا يضمن صبرها على حياتهما التعيسة وعدم تمكنه من الإنجاب، لذلك ينتقد رسومها في أوقات متباعدة ولا يمتلك الجرأة أن يضع يده على أي من ألوانها أو فراشيها أو لوحاتها
يُطلق عليها العديد من الألقاب مثل: بيكاسو الخبل، الموناليزيا المجنونة، أُمْ فرشاة، أُمْ الرسم. وأحيانا يناديها مستخدما فقط الضمير: أنتِ. يوما قال: هيه، أنتِ! قومي أحضري لي بيبسي! أجابتْ: والله نسيت لم أشتريه، سامحني! قال: ماذا! ماذا! كم مرة قلت لك أهم شيء لدي البيبسي، وليس الدايت بيبسي لأنك أحيانا تحضرين الدايت وأنت تعلمين أني أكرهه. أجابتْ: أخاف على صحتك. قال: لا! من قال لك ذلك! ما دخله بالصحة! السكري ليس مهم. أنا عندما ينخفض لدي السكر أرفعه عندما أشرب البيبسي وخاصة بعد الأكل. لكني اُبتليت ببقرة لا تفهم. يالله روحي اشتري واحد. اعترضتْ: لكن الوقت متأخر الآن! صرخَ: حرام عليكِ، أنا متعب وضغطي نازل وسكري منخفض. أسرعي، سوف أموت! واضطرتْ لتلبية طلبه خوفا عليه وعلى نفسها من موجة غضب عارمة قد يكسّر فيها آنية جديدة
ومؤخرا يبدو أنه نسى كل التسميات السابقة وصار يستهزأ بها ويناديها معظم الوقت: يا جوال على الصامت تعالي، على الصامت روحي. على الصامت ردّي. على الصامت أريد شايا بالنعناع. أحبت هذا اللقب بالذات دون باقي الألقاب السابقة. لم تكن تشعر بأية إهانة حين يناديها به. واستمرت مطبقة شفتيها معظم الوقت. ما الفائدة من الكلام! لن يتغير شيء، فقط ستزداد رقعة الخلاف بينهما. ثم ما الفائدة إن تركته، سوف تستبدله بآخر مثله. أمها قالت كلهم هكذا، مثل فردة الحذاء التي تُكمل الأخرى. أما مشاعر الأمومة فلا تستهويها لأن لديها لوحاتها والتي تشعر بها كأبنائها وبناتها، فلماذا تمنح حياتها لأطفال يمتصون رحيقها. لماذا تنجب رجلا كزوجها أو امرأة مثلها! هل العالم ينقصه المزيد من الشقاء! يكفي ويزيد ما فيه من أطفال أيتام وأسر مشردة. حاولت مع زوجها أن تقنعه أن يتبنيان طفلا لكنه رفض رفضا قاطعا: أولا، حرام وثانيا ماذا يقول عني الناس! اسكتي ولا تكرري هذا الكلام وإلا طلقتك بالثلاث. نادرا ما يهدد بالطلاق لذلك أغلقت باب التبني وكرهت الأطفال والحديث عنهم
في تلك الفترة تمادت في الرسم، فهجرت الأكل والنوم إلا القليل. صارت مغرمة برسم الأطفال الرضع. ترسم أجنّة بأجنحة وأطفالا تغني وأطفالا تغرد وأطفالا تتحدث وأطفال تزحف وأطفالا تركض وتقهقه. تخفيهم في المخزن لئلا يسمعهم فيؤذيهم. العالم الفني الذي تحيا فيه تمتد فيه حقول فيروزية شاسعة وتجرى بها أنهار كلون قزح، وفي ظل نخلة مونقة تجلس امرأة شقراء ترتدي جلبابا قرنفليا تحتضن طفلا رضيعا أسمرا في لوحة معلقة على الجدار
كتابة ورسم: نجاة الشافعي
١٧ مايو ٢٠١٩ م