امرأة على الصامت

انتقدَ شرائها له فوطة خضراء مرصعة ببطات صفراء، وفانيلة زرقاء حجمها أصغر من قوامه الممتلئ، كما أحتجَّ على تعليقها لرسومها في الصالة قائلا: هناك الكثير من الرسوم والقليل من الفن! تحتاجي أن تدرسي أصول الرسم وفروعه قبل أن ترسمي! حرام عليكِ تشوهي الجدران بما تسميه الفن الحديث! صمتتْ كالمعتاد وحملقتْ في الفراغ بعيون انحبس فيها القهر والألم. وأستمر المارد الذي انطلق لسانه من القمقم يثرثر ويكرر العديد من القصص والمواقف بصوت عال، وهي تتظاهر بأنها تنصتُ له حتى فرغت معدته

 

suffering.jpg

بعدها جلس يزدرد الأكل بشراهة الذئب وهي ترمق قميصه الرمادي بطرف عينيها. وضعت لقيمات قليلة في طبقها لتسد رمقها. أما طبقه فجبل شامخ من كبسة الأرز باللحم. أخبرها أن نفسه مسدودة هذه الأيام وفقط يأكل وجبة واحدة في اليوم. ثم قال: انظري، انظري! مشيرا إلى طبقه، هل هذا طعام يكفي أن يأكله رجل! انبرت ابتسامة مغتصبة على شفتيها وهي تقارن بين الطبقين الخالي الوفاض والممتلئ حتى الثمالة. قالتْ باقتضاب: يمكن لديك فقر دم؟ رد هازّا رأسه: لا، لا! أجريت فحوصات وكل تحاليلي سليمة، الحمد لله. قالت: وحبوب الضغط؟ أجاب: نعم مستمر عليها. اليوم اعطاني الطبيب نوعين منها وكذلك حبوب للسكر زاد جرعتها. أصلاً، في هذا العصر مَنْ مِن الناس بدون ضغط أو سكر

 منذ تزوجت ابن عمها بناء على رغبة والدها وهما على طرفي نقيض. هو بركانٌ مُشتعل دائم التبرم والانتقاد، لا يسلم من آفات لسانه الصغير أو الكبير، وهي هادئة باردة كالثلج. عالمه مليء بالضجيج الذي لا تطيقه بالخصوص حين يرفع صوت هاتفه ليشاهد مسلسلاته وأفلامه المفضلة على اليوتيوب أو عندما يحدث أصدقائه بنبرة حادة تخترق الجدران. كانت في البدء تستهويه المسلسلات المكسيكية المدبلجة ثم هجرها وتعلق بالتركية أما الآن فأدمن الكورية. يكره كل الدراما الخليجية ماعدا طاش ما طاش والذي يزيد ويعيد في اجتراره ضاحكا بهستيريا كلما شاهده. ولديه الكثير من الأصدقاء يسهر معهم في المقاهي والاستراحات إلى ساعات الفجر الأولى. جربتْ مرارا أن تناقشه أو تطرح وجهة نظر مختلفة لكنه عنيد يصر على رأيه ويغضب ويقاطعها أياما، ثم تشم رائحة عطور نسائية رخيصة مختلطة بالسجائر عندما يلج الفراش، لذلك لتتعايش معه تلوذ بالصمت والصبر كما نصحتها والدتها

أما هي فتعيش مع الرسم وللرسم. فمنذ تفتح عينيها عند الفجر إلى أن تغلقهما بعد منتصف الليل ترسم وترسم، ما عدا وقت الطبخ والأعمال المنزلية، وعندها أيضا تفكر فيما سوف ترسمه أو تكملهُ في لوحاتها. جربّت الصديقات وسأمت من اهتماماتهن الفارغة وأحاديثهن المستهلكة عن الأطفال والأزواج والطبخ والموضة والأزياء والرشاقة فاعتزلتهن. كان منقذها الرسم. تتذكر كتاب مترجم لشريعتي قرأته في أوج شبابها: الفن المنقذ المنتظر. وها هو الرسم يأخذ بيديها إلى عالم الفن والجمال. ترسم أي شيء وفي أي وقت. لم تدرس المدارس الفنية في الرسم أو تحضر دورات، لكن كلما انتابتها الرغبة الجامحة في الهروب من الفقر في المشاعر الذي يحيط بها، تحمل الفرشاة وتمزج الألوان وتلطخ اللوحات بما تجود به نفسها من الألوان فتجد ذاتها في ذلك المكان البعيد. عادة تبدأ بالألوان الدافئة أحمر وأصفر وبرتقالي وعندما ينحسر وجعها تفتح الباب للألوان الباردة على مصراعيه. تبدأ بالبنفسجي المحمر ثم البنفسجي الفاتح الذي يميل للأزرق، يليه اللون الأخضر المصفر ثم الأخضر الداكن ثم اللون الفيروزي الذي تعشقه ويتربع عرش قلبها ويحضر في سائر لوحاتها. اللون الفيروزي فريد من نوعه كونه يجمع بين اخضرار الأشجار وزرقة السماء لذلك تشعر أنها معلقة في أقصى نقطة في الغلاف الجوي تلامس قدميها الأرض الخضراء وعندما ترفع رأسها تتطاير خصلات شعرها مع الغيوم. كم تمنت لو أنه بدل أن يختار الأبيض لطلاء الصالة أن تكون قطعة فيروز. تكره الألوان المحايدة وتعتبرها خيانة لونية. فالأبيض يسرق من الألوان بهائها والأسود يغرقها في غيبوبة بصرية والرمادي يجمع بين الخيانة والغيبوبة. كذلك تستخدم كافة أنواع الألوان: الزيتية والمائية والاكرليك واقلام الفحم والحبر الصيني وأحيانا تمزج فيما بينها بطرق قد لا تعجب باقي الرسامين لا يهمها ذلك. إنه الإحساس الذي يقودها عندما تحمل الفرشاة وعندها تقرر ما الذي ستستعمله في تلك اللحظة المصيرية من عمر اللوحة

عندما ترسم تتحرر من أصفاد الواقع المنحدر. تحلق في سماء سابعة في تجربة روحية خصبة. تتعالى على كل الألم والحزن والاستبداد لتشعر بحب متدفق يفيض على الكون والبشر والحياة، . في عالم الرسم سحر خلاب لا يدركه إلا من غرق في يَمْ الفن وتوحد مع الفضاءات اللونية المدهشة. هناك تنسى كل ما يحيط بها وتبحر في لذة الاكتشاف والخلق الجديد. تصبح قادرة مهيمنة بيدها عجينة لونية تخلق منها ما تشاء من عوالم وكيفما تشاء. حيوات قد تكون حالمة أو مرعبة أو واقعية أو رومانسية أو نرجسية أو مثالية. قد تضاهي الواقع في بعض جزئياته أو لا تماثله على الإطلاق. في الفنتازيا التي تُطلقها في لوحاتها تجمح مخيلتها فترسم طيور بأيدي ونساء بأجنحة وأطفال بعجلات وخيام طائرة وفراشات منتحرة وعناقيد على النخل وصحراء ملونة وخليج من تراب ورجال مفقأة عيونهم

حتى أثناء نومه تهجر مخدعهما وتسهر مع اللون. أخفت بعض اللوحات في المخزن والتي صورت فيها وجوه بشعة وأبدان مقززة وهياكل عظيمة، بينما علقت الورود والزهور والحدائق والطيور وأطفال يرقصون كالفراشات والنساء الجميلات في الصالة وغرفة النوم والمكتب. ورغم تهديده ووعيده ظلت صامدة هي وفنها في وجهه. هو يعرف أنه مهما تمادى في غيه أن لوحاتها مقدسة لديها وهي الخط الأحمر الذي لو تجاوزه لا يضمن صبرها على حياتهما التعيسة وعدم تمكنه من الإنجاب، لذلك ينتقد رسومها في أوقات متباعدة ولا يمتلك الجرأة أن يضع يده على أي من ألوانها أو فراشيها أو لوحاتها

 

يُطلق عليها العديد من الألقاب مثل: بيكاسو الخبل، الموناليزيا المجنونة، أُمْ فرشاة، أُمْ الرسم. وأحيانا يناديها مستخدما فقط الضمير: أنتِ. يوما قال: هيه، أنتِ! قومي أحضري لي بيبسي! أجابتْ: والله نسيت لم أشتريه، سامحني! قال: ماذا! ماذا! كم مرة قلت لك أهم شيء لدي البيبسي، وليس الدايت بيبسي لأنك أحيانا تحضرين الدايت وأنت تعلمين أني أكرهه. أجابتْ: أخاف على صحتك. قال: لا! من قال لك ذلك! ما دخله بالصحة! السكري ليس مهم. أنا عندما ينخفض لدي السكر أرفعه عندما أشرب البيبسي وخاصة بعد الأكل. لكني اُبتليت ببقرة لا تفهم. يالله روحي اشتري واحد. اعترضتْ: لكن الوقت متأخر الآن! صرخَ: حرام عليكِ، أنا متعب وضغطي نازل وسكري منخفض. أسرعي، سوف أموت! واضطرتْ لتلبية طلبه خوفا عليه وعلى نفسها من موجة غضب عارمة قد يكسّر فيها آنية جديدة

 

ومؤخرا يبدو أنه نسى كل التسميات السابقة وصار يستهزأ بها ويناديها معظم الوقت: يا جوال على الصامت تعالي، على الصامت روحي. على الصامت ردّي. على الصامت أريد شايا بالنعناع. أحبت هذا اللقب بالذات دون باقي الألقاب السابقة. لم تكن تشعر بأية إهانة حين يناديها به. واستمرت مطبقة شفتيها معظم الوقت. ما الفائدة من الكلام! لن يتغير شيء، فقط ستزداد رقعة الخلاف بينهما. ثم ما الفائدة إن تركته، سوف تستبدله بآخر مثله. أمها قالت كلهم هكذا، مثل فردة الحذاء التي تُكمل الأخرى. أما مشاعر الأمومة فلا تستهويها لأن لديها لوحاتها والتي تشعر بها كأبنائها وبناتها، فلماذا تمنح حياتها لأطفال يمتصون رحيقها. لماذا تنجب رجلا كزوجها أو امرأة مثلها! هل العالم ينقصه المزيد من الشقاء! يكفي ويزيد ما فيه من أطفال أيتام وأسر مشردة. حاولت مع زوجها أن تقنعه أن يتبنيان طفلا لكنه رفض رفضا قاطعا: أولا، حرام وثانيا ماذا يقول عني الناس! اسكتي ولا تكرري هذا الكلام وإلا طلقتك بالثلاث. نادرا ما يهدد بالطلاق لذلك أغلقت باب التبني وكرهت الأطفال والحديث عنهم

في تلك الفترة تمادت في الرسم، فهجرت الأكل والنوم إلا القليل. صارت مغرمة برسم الأطفال الرضع. ترسم أجنّة بأجنحة وأطفالا تغني وأطفالا تغرد وأطفالا تتحدث وأطفال تزحف وأطفالا تركض وتقهقه. تخفيهم في المخزن لئلا يسمعهم فيؤذيهم. العالم الفني الذي تحيا فيه تمتد فيه حقول فيروزية شاسعة وتجرى بها أنهار كلون قزح، وفي ظل نخلة مونقة تجلس امرأة شقراء ترتدي جلبابا قرنفليا تحتضن طفلا رضيعا أسمرا في لوحة معلقة على الجدار

 

كتابة ورسم: نجاة الشافعي 

١٧ مايو ٢٠١٩ م

وردة الوتسب اليتيمة

design.jpg

في عيد ميلاده الثامن والخمسين الذي يصفه بعيد ميلاده الخامس والخمسين

وكأن مفارقة منتصف الخمسينات بالنسبة له معضلة عظمى

سلبه المرض بعض قواه وما يزال متعجرفا مصرا أنه أقوى وأصغر لا سيما بعد أن صار يصبغ شعره باللون الأسود بينما لحيته مصطبغة بالبياض في مفارقة عجيبة 

أهديتهُ جوال فضي غالٍ نزل للتو في الأسواق لأتصل به عندما أريد لأن جواله الآخر دائما خطه مشغول

فرح بهديتي وخبأه في جيبه

حدثتهُ طويلا عن الورد أشكاله وأصنافه ورائحته وافتتاني باطواق الفل تزين رقبتي القصيرة أو الياسمين اتوج بها رأسي الصغير علّه يهديني باقة حتى لو كانت بلاستيكية لا مانع لدي لكن لم يجدي كل ما سطّرته ونمقته من كلمات

أبديت إمتعاضي بأنه إذا لم يمكنه الاتصال أو كتابة مسج، على الأقل يمكنه بضغطه زر لا تستغرق ثانية ولا تكلف شيئا أن يرسل وردة على تطبيق الوتسب الذي قليلا ما نتحدث فيه

وعلى مضض صار يرسل لي وردة على تطبيق الوتسب من فينة لأخرى

إن كان مزاجه رائقا ونادرا ما يكون يرسل ثلاثة ورود حمراء لكن معظم الأحيان يكتفي بوردة واحدة فقط

في يوم ذبلت وردة الوتسب اليتيمة

وكان خط الجوال الفضي الذي منحته له دائما مشغولا

ثم صار الخط مغلقا طوال الوقت

سائني ذلك فألغيتُ حسابي في تطبيق الوتسب

وصرتُ أرسم الورود الصفراء على الورق

كتابة ورسم

نجاة الشافعي

١٢ مايو ٢٠١٩ م

 

 

 

الزهرةُ والمريخ

لحظات الأكتشاف الأولى كانت تُسكرنا حتى الثمالة

كالسحب الداكنة المعلقة في جيد السماء تُبشر بموسم الأمطار

لها رائحة العشب الندي الذي امتزج بأنفاس البحر

تحلق بنا في فضاءات قزحية بدون أجنحة

أنا لوني المفضل الأحمر  

أنت لونك الرمادي  

أنا أعشق الربيع  

أنت تعشق الشتاء  

أنا أحب النوارس  

أنت تحب الحمائم  

أنا برجي الأسد  

أنت برجك العقرب 

أنا  أقرأ كثيرا

أنت  تسافر كثيرا

أنا أعبر بالكتابة 

أنت تعبر بالحديث

أنا دائرة  

أنت ملتوي

أنا من الزهرة 

أنت من المريخ 

في تضادنا كان الجذب 

والكيمياء التي أحالت حتى الصحراء ذهبا

 

لكن كلما توغلنا في الحُلم فَقَدَ شغفه

أنا متدفقة

لكنك متصحر  

موطني القلب  

بينما وطنك الحُفر

أنت جبل من الأنانية

لكني بحر من العطاء

أنا لا أهرب منك

لكنك هارب حتى من ذاتك

أطبقت الكتابة شفاهها

وأسقانا الساقي

صحوا لا حُلم بعده

ولا نهاية له

رسم وكتابة نجاة الشافعي  

١٢ مايو ٢٠١٩ م 

upload.jpg

 رسم نجاة الشافعي 

١٠ مايو ٢٠١٩ م 

مزرعةُ الحِمْلان

تصوير نجاة الشافعي لندن ٢٠١٦م

تصوير نجاة الشافعي لندن ٢٠١٦م

في كل مرة تنقض عليهم الذئاب وتفترس بعض الحملان الصغيرة  في ليلة دهماء

وفي كل مرة باقي الحملان إما لم يسمعوا بما حدث أو يصموا آذانهم وقرا أو لا يكترثوا لأنهم شاربين آكلين نائمين في صفاء

بعضهم يضع اللوم على الحملان الوادعة التي حَلُمت بالسفر إلى مرعى آخر في ليلة قمراء

يأكلون التين والزيتون في حدائق غناء

حقل شرايينه تسيل شلالات لبن وماء

ناصع الخضرة يقطفون باقات ورد حمراء

تغني في الفجر بلابل شهباء

.تتدلى من الكروم ضفائر شقراء

هذه المرة تسرب خبر أزعج الحملان

الراعي الخائن هو من أدخل الذئاب

ليفترسوهم لقمة سائغة عند العشاء

بعد أن منحوه رتبة راعي الرعاة

.وأهدوه تسعة أبقار حلوب سوداء

 

أشتد خوف الحملان وازداد الثغاء

عويلهم أشبه بالبكاء كل يغني على ليلاه

فقد أُكلوا يوم أُكلت الحِمْلان البيضاء

التصقوا ببعضهم كالظلال الميتة الخرساء

صار جميعهم يحلُم بالهجرة للمرعى الآخر حين المساء

أما السلاحف فتقوقعت في أصدافها الإسمنتية الحدباء

.لكن  النوارس هاجرت بعيدا خلف السحاب وتركت الغوغاء

كتابة وتصوير

نجاة الشافعي

٥ رمضان ١٤٤٠ هـ

!آه يا ليل

آه يا ليل

في قلبي حجر

وفي كأسي نيازكٍ هوت من لُجة السماء

فأشعلت نيرانها في وليمة عشائنا الأخير

.ورفاقي لم يحضروا حفل عرسي الجنائزي

 

آه يا ليل

في فمي

مرارة بحر صوفي غرق قبل الطوفان

هجرته شواطئه السمراء

مراسي سفن صدئة تمخر عباب الرمل

نشيج بحارة شربوا ماء البحر فأنهكههم الظمأ

بهجة أطفالي لمرأى أقرانهم يعيثون عبثاً

عنفوان أمواج يداعبها صخب النسيم

دفق زخات مطر خريف حارقة

.حبور فراشات ربيع النهايات

 

آه يا ليل

رأسي سمكة عالقة

بريشة نورس مهاجر إلى الشمال

.وجناح المساء يغويني بالرحيل

 

آه يا ليل

ضباب كثيف يخنق عينييّ

تسقط أهدابي أشواكاً

في أحضان أشجار الصنوبر

أحدق في عتمة سرمدية

تسرق وهج القمر

وملامح نجوم تائهة

.في غربة ليلية لا تتوقف

 

آه يا ليل

أكاد لا أراها

نبتت في ضلوعها المنكسرة

شظايا زجاج الشوق

حصدت عشقها سكينة غدر

.وراء الباب

 

آه يا ليل

لو تجمع ما في صدري

من أصداف اليتم

لسقيتك عطشاً من نهر الفرات

.حتى تثمل

 

آه يا ليل

لو تسمع ما يشدو في أذني

لأطربك شجن ترنيمة غزل عراقية

.أنشدها لأطفالي لينامون

 

آه يا ليل

أبنائي عشرة     

مسافرون بدون حقائب

أسافر معهم في أحلامهم كل ليلة

أقبل صورهم كل صباح

أمسح وجوههم المتوهجة حزناُ

.أضم وسائدهم الباردة إلى نحري

 

آه يا ليل

أهواهم

لست أنساهم

أَعِد لي صدى ضحكاتهم

أَعِد لي شهقاتهم الملهوفة

أَعِد لي رائحة البحر

أمنحني فقط نظرة أخيرة

أنسجها في خيوط اللقاء

ترن في ناموس ذاكرتي

ألتصق بها بحميمية

قبل

أثناء

بعد

.الفراق

 

آه يا ليل

لن أرحل قبل أن أراهم

سأنتظرهم حتى يعودون

.سأنتظرهم حتى يسأم مني الانتظار

 

نجاة الشافعي

لا حياة في الحب


وكلما قلت إنّي ارتويتُ من الحب لا أرتوي

وكلما قلت سأنتهي من العشق لا أنتهي

وكلما قلت سأتوب عن البوح لا أنثني

   وكلما قلت هو فنائي أعود إلى النار أرتمي

وكلما قلت هذه آخر كأس أتجرعها لا أكتفي

أنا بذرة وهو التراب والماء والهواء وأنا إليه أنتمي

 .القتل في الحب عادتي فالمحب لا يرعوي

 ‏

!لا أكتب

!لا أكتب 

لأن الفضاء إستباحه غربان وغرباء  

غزاة القصائد

وصائدوا المعاني 

يلتقطون ما تساقط من حروف  

ما تهشم من عبق المشاعر 

ما تناثر من عقود القوافي

يطلونها بأحمر شفاه فاقع 

بائعوا الرقيق ينعقون 

يسيل العسل المر من أنيابهم 

. كلمات مخملية كالسراب يعانقها الضباب الكثيف 

 

لا أقرأ

إلا ما لم تخطه أناملهم

إلا ما لم تمسسه أطيافهم

إلا ما لم تدمره لوثتهم

فللقراءة  بريق 

لا يبهت 

لا يخفت

حتى في الخريف 

.بين أطلال الحروف

 

bleedingheart

لا أرى 

ما يبصرونه

لا أرى 

إلا 

شمعة هزيلة 

واقفة في شموخ العتمة

تأسرني فأحوم حولها

.فراشة تهوى الإنتحار

 

لا أسمع

إلا  عويل الأرامل

بكاء الأطفال

كل ما يدسونه خلسة داخل البئر

تلتقطه أذني

.فأبكي على وسادتي طوال الليل

 

 

ولن أتكلم

فحيح كلمات 

كانت في ما مضى تغرد خلف القضبان

أما الآن فصارت 

لا تحمل رائحة أو طعم 

فقط ألوان صاخبة مبهرجة

.تمتهن الغواية

 

١٢ رمضان ١٤٣٧هـ

2016/6/18

 

 

 

القهوة وتوابعها

للحرية طعم الليمون

في صيف يعج بالبهار

أدمِنُ القهوة وتوابعها

 الرواية الأنيقة والقلم المراوغ

 حبات العنب المالحة

 .بعد شتاء ثقيل الظل

 

ينعتق ضوء الفجر

يسرق أحلامي

من الزوايا المكسوة بالرماد

أوراقي تكتحل بقطرات الندى

.فتتوهج وجناتها

 

للراحلين بعيداً مذاق خاص

 كرشفة العسل الأولى

كقطرة زيت زيتون بكر بسيقان طويلة 

تتجلى بهجة مورقة 

.في صميم الروح

 

فتاة عربية 

لا تجيد صنع القهوة العربية

أحيانا تزيد الماء فتصير خفيفة تطير في الهواء

وأحيانا ثقيلة تترسب في قعر الفنجان كحجر

 أو فاترة بدون طعم 

 .ولا رائحة

 

 الزعفران يأتي من قلب الشرق الأخضر

تقطفه أنامل السجاد المنهكة

.يطلي القهوة المرة بأنفاس المطر

 

البعض يحب القهوة التركية

يقرأون الفنجان والصحيفة

قهوة على الريحة

 سادة أو سكر زيادة

.حسب مزاجهم المشاكس

 

أما المستحدثون والحضاريون

فيترشفون الكابتشينو

يلتهمون الكرواسان والشيزكيك

يقهقهون عالياً

.يتحَدون الصمت 

 

فتاة عربية

تعد النسكافيه الساخنة

القهوة الحامضة بالنعناع

الشاي الأسود بالزغفران

.تمزجها صاخبة في محبرة الألوان

 

 يا متشظية من حمى البراكين

أسقيني القهوة الدافئة كما تحبين

أرسمي قدري في رائحة قهوتك

أيقظي الصيف الخامد في دمائي

رشيني بماء الفنجان

.عله يروي ذكرياتي المتصابية

 

نجاة الشافعي

على قائمة الانتظار

 

ارتشفتا القهوة الأمريكية وأكلتا شيزكيك في مقهى ستاربوكس عند الكورنيش. هدى ومنى مدرستان وصديقتان حميمتان منذ التقيتا في الغربة في مدرسة القرية التي تبعد عن مدينتهما ١٢ ساعة بالسيارة. ثم نُقلتا لحسن الحظ إلى المدينة بعد سنوات عجاف من المعاناة والسفر الطويل والمصاعب

 .تحدثتا بصوت خافت لئلا تلتقطه آذان الفضوليات والفضوليين في المقهى المكتظ 

“هدى، سأمت من حياتي! هل تتصورين أنه يضعني على قائمة الانتظار” 

“!ماذا تقصدين؟ كيف انتظار” 

كلما أحاول الاتصال به يخبرني أنه مشغول وسيحدثني عندما يفرغ ثم أنتظر ولا يتصل. ونفس الشيء عندما أبعث له رسالة لا  يرد. أشعر بالإهانة والغضب والحزن الشديد لقسوته وجفاءه. لم أتوقع منه بالذات هذه المعاملة. أحببته حبا جما لكنه لا يستحق  محبتي. أشعر بأنه لا مكان لي في حياته. يعاملني كشيء إضافي متى ما شاء حدثني حتى في الأوقات الغير مناسبة لي، أما إذا لم يرغب يتجاهلني تماما. دائما لا حظّ لي في الحياة. أود أن أموت 

قرّعتها هدى بشدة: “منى، كم مرة قلت لك من قبل أنت من أخترت هذه الحياة. دائما تكررين أنك لا تودين أن تشعري بالوحدة، وأنا أفهم شعورك لكنك بالنتيجة تدفعين الثمن أضعافا مضاعفة. نعم أنت وعديدات مثلك على قائمة الانتظار، وهم يحومون كالفراشات حول الزهور متى ما شاءوا! الإخلاص غير موجود في عالمنا، فقط أنانية وخيانة وغش تسود علاقتنا الإنسانية للأسف.  أنظري إلي على سبيل المثال. الحمد لله لا أحتاج رجلا في حياتي. لدي الكثير مما أفعله: أعمال خيرية وأنشطة ثقافية والكثير من الرفيقات أقضي معهن الوقت مستمتعات مبتهجات. جربت مرة واحدة فقط ثم قررت ألا أكون ضحية وتطلقت من زوجي. عاهدت نفسي ألا أنتظر شخص يضعني على قائمة الانتظار. نصيحتي تخلصي منه قبل أن يتخلص منك فالنهاية قد تكون قريبة

أجابتها وهي تهز رأسها: لا! لا! أنت دائما تشائمية، ترين فقط النصف الفارغ من الكأس بينما أنا أنظر إلى الجزء الممتلىء منه وسترين أنها فقط مشاغل وسيعود مثل الطائر، يطير ويعود إلى عشه بعد العناء والتعب 

قطع حديثها رنين جوالها بنغمة خاصة، أجابت بابتسامة عريضة والدنيا لا تسعها فرحا: “هلا ومرحبا! أنت! لم أتوقع تتصل الآن حبيبي ! من زمان لم تتصل! ثم ابتلعت ريقها واحمرت أوداجها وسالت دموعها: “ماذا! لماذا؟ كيف كل شيء أنتهى بيننا!!أعطني فرصة أخيرة! دعنا نلتقي وجها لوجه ونناقش الموضوع. أنا أحبك، أنا أعشقك، أنت روحي. لا أستطيع أن أعيش بدونك! ألو! ألو! ألو. وانحدرت دموعها سيولا جارفة على خديها

صديقتها هدى قدمت لها منديلا ثم قالت: “منى، ألم أقل لك! كفي عن البكاء! تستاهلين أحسن منه. ثم أطرقت برأسها ونظرت لأرضية المطعم المتسخة. كادت نظراتها تفضحها وابتسمت في داخلها، فهي العش الجديد الذي حط فيه الطائر 

كتابة ورسم: نجاة الشافعي

٨ مايو ٢٠١٩م

العصفورُ و السجّان

Shadow+of+Flowers.jpg

أحبُ سعف النخل تشدو فوقه قوافل النحل

الورد الجوري يغني في الحقل

أهازيجَ متيمة بتراتيل الوسنان

 

أتوق إلى لمسة طفل يداعب ريشي

تُلهمني براءة عينيه أملاً في انعتاقي

يشنّف أذني ضِحكُهُ الرنان

 

أحلمُ كل صبح بأعمدة النور

تنسلّ من عباءة الليل

أسمعُ شهيق الصبح متدفقا 

أبحرُ في مآقي الشطآن

  

أحلق نسرا مرجانيا

من دفة الشجن أطير

 إلى أشرعة السفن الصدئة

أحوم حول شقائق النعمان

 

إن القمني القهر حجرا أو حبا سيان

 أمد جناحي الصغير إليه مصافحا بحنان

أحنو برقة على ضفائر الأقحوان

 

أُشعلُ منقاري قنديلا في البحر

أروم وصلا بفراشات المطر

قلبي تبرعمت فيه السنابل كالدرر

ما بيني وبين عشي آلاف الخِلجان

 

أعيدوا لي رفاقي

أحضروا لي قميص أمي

نبض روحي المسلوبة مني

ذكرياتٌ غدر بها الزمان   

 

ما أشد قيود الروح

تشد عنقي للقاع

لا حلم يذكرني أو حبيب

جنازتي تسير خلسة بين الأحياء

غبارٌ يلفنِي في مرايا النسيان

 

 قيح أغلالي  

أشواك غربتي 

كآبة قفصي النحاسي

طعناتهم في ظهري

توهجت في سماء العرش كزهر الرمان

 

تُصلبُ حريتي غيلة

تُسلب أحلامي عنوة 

لكن ها قد أسفرت عناقيد فجر قرمزية

قطافها قد حان

 

عند رحيل البلابل

تنزلت في قفصي نوارس تتلو القرآن

أسرَّ خامسهم في أذني

فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ 

لقد آن الأوان

 

كَسَّرْتُ جدران الصمت مغردا

للعصفورِ مثلي حياةُ السوسن

تخفقُ نوراً عندما يرتفع الآذان 

٢٩ شعبان ١٤٤٠ هـ 

المرأةُ المُعَنَّفَة

 

المرأة المُعَنَفَة حدثتني على الجوال وهي تنتحب كمن يحتضر، بصوت يعلو تارة ويخفت أخرى وعندما تشتد نوبة البكاء وتشهق لا أكاد أميز ما تقول. ثم تماسكت قليلا بعد طوفان البكاء قائلة: هدى، أنتِ صديقتي الوحيدة وسوف أصارحك بسري فأدفنيه في بئر الصمت. خلاص,، زوجي انتهيت منه، سوف أطلقه هذه المرة، ولن أعود ولن أنظر إلى الوراء، احترقت كل جسور الود بيننا، لن أنسى كل ما فعله، مستحيل أغفر له خيانته، سأمت حياتي معه وأكاد أُجَن، وكلما ضاقت بي الدنيا صرت أشرب القهوة بشراهة وأدخن ليلا ونهارا وأصرخ وأضرب أطفالي وأحيانا أضرب حتى نفسي، صدري حتى يحمر ورأسي حتى يفترسني الصداع. وأكثر من مرة فكرت بالانتحار والهروب من المنزل. أعطيته فرص عديدة ولم يغير أسلوبه أو معاملته لي

صدقتها وتعاطفت معها فنحن جيران منذ أبصرنا الدنيا ودرسنا معا في المدرسة وتزوجنا في نفس السنة. قدمت لها العديد من النصائح على طبق من ذهب: توقفي عن هذه العادات السامة التي تقتلك ببطء فمن لأبنائك غيرك. عبري عن مشاعرك بالحديث لمختصة نفسية ولا تكتميها لأنها كالقنابل قد تنفجر في داخلك وخارجها. اتصلي بأحد من أهله لكي توضحي لهم ما حدث بينكما ولكي إما يصلح ما بينكما أو حتى ينهي الأمور العالقة في المستقبل. اكتبي كل ما يزعجك منه في ورقة وحسناته.

فقاطعتني متهكمة: حسناته؟ ماذا؟ هو شيطان رجيم يلبس لبس حمل وديع، مخادع منافق كذاب. أنا من أوقفته على رجليه وصرفت عليه من جهدي ووقتي وكل ما أملك ولكن لم يثمر الجميل وعض اليد التي امتدت إليه. إنه إمعة ناكر للجميل. وآخر الدواء الكي. أجبتها: إن كنتِ متأكدة هذه المرة فتحدثي لوالدك لينهي الموضوع وليحاول أن يحصل لك على حضانة أبنائك إن أثبتم أنه ليس بكفء لرعايتهم.

 صرنا نتقابل ونتصل ببعض على مدى أسبوع كامل، ثم حدثتها في اليوم الثامن لاطمأن عليها فقالت: عادت المياه إلى مجاريها وأرتجف صوتها، أطفالي لأجلهم سامحته، لكن منذ رجع للمنزل لم أنظر في عينيه ولا أود أن أناقش شيئاً معك الآن.

أقفلتُ سماعة الجوال غير متفاجئة. هي كما هي لم تتغير. تقف على حافة الجبل الشاهق وتنظر للأسفل فترى العالم صغيرا كدمية، ثم تنزل من الجبل وترى ما رأته ضخما كبيرا. خالجني شعور أنها سوف تحدثني بعد فترة ليست بعيدة.  

 

نجاة الشافعي

٢٢ ابريل ٢٠١٩م

Circles and Lines .JPG