سالبة بانتفاء الموضوع  

في فترة الخطوبة كان يحدثني لساعات طويلة ويزورني باستمرار. نخرج سوية للمطاعم والمنتزهات والأسواق في كل أسبوع، فيمر علينا الوقت بدون أن نشعر لشدة سعادتنا. لكن بعد عدة شهور انقلبت الأمور وكأن بركاناً خامداً نهض فجأة واجتاح كل ما في طريقه من حب واهتمام. صار يحدثني لعدة دقائق ويزورني فيما ندر ولا نخرج إلا حوالي مرة أو مرتين في الشهر. وعندها نسير مكتئبين على رأسينا الطير أو نتحدث باقتضاب. كلما لـُمـته تدبّ الحياة في علاقتنا المريضة، ثم يعود الثلج ونستمر بين مد وجزر. عندما رأيتُ لوحة ممدة على الأريكة في شقته لرسامة مغمورة شممت رائحة نفاذة زكمت أنفي. سألته عن اللوحة وصاحبتها فأنكر أنها تخصه. قال بانزعاج لتحقيقي معه بأنها لأحد أصدقائه أحضرها ونساها عنده. أليس لديكِ ثقة فيني! أنتِ شكّاكة! وعلا صراخه ووعيده

the mask.jpeg

  في كل مرة يُلقي الكرة في ملعبي: أنتِ لا تحاولي لإنجاح علاقتنا. أنتِ دائما مستعجلة في الحكم على الناس. أنتِ لا تصبري. أنتِ قذيفة مشاعر سرعان ما تنفجر. أنتِ دوما تظنين ظن السوء بدون مبرر. أنتِ نار تحرق الأخضر واليابس. في عيد خطوبتنا الثاني باغتته وأنا أغالب دموعي: “لا داعي لأن نستمر. لا داعي أن نخدع أنفسنا ومن حولنا. فأصلاً لا توجد علاقة إذا لم يوجد تواصل فعلي بيننا واتصال عاطفي فيما بين روحينا. علاقتنا سالبة بانتفاء الموضوع”. هكذا يقال في علم المنطق. أردت أن أوصل له رسالتين: فسخ خطوبتنا وجهله في المنطق ليس كعلم فقط ولكن أيضا كمنطق في الحياة. “أنتَ - والآن حان دوري أن أستخدم أنتَ- أنتَ لا تستطيع الجمع بين الضدين. أن تجمع بين النور والظلام، النهار والليل. نحن ضدين. هذه المرة وضعتُ العصا في عجلة حديثه المشروخ وألقمتهُ حجرا جيريا. سأمتُ كيل الاتهامات المعلبة الجاهزة التي يستخدمها معي للقفز للأمام

نظرَ إليها شزرا. أربد وأزبد وأرعد. أصمّتْ سمعها فلم تميز ما قاله. أسدلتْ الغطاء الأسود على وجهها. غادرتْ المطعم الذي شهد احتفالهما الأول والأخير بخطوبتهما. صحيح أن أسرتها ستلومها وبالخصوص أبوها لأنه أختاره لها فهو عريس من أسرة غنية تتاجر في الذهب لكن حريتها هي الغِنى الذي تنشده فقط. رمقت باحتقار سيارته المرسديس البيضاء الواقفة باختيال أمام المطعم. مشت طويلا حتى وصلتْ البيت. ألقت بقلبها المنهك على الوسادة وقطعت حبل الأمل بسكين حادة لكي تفصُلُهُ عما تبقى من روحها

 

كتابة ورسم: نجاة الشافعي

٢٠ مايو ٢٠١٩م

المرأة ُ المنفلوطية

أحبها بعمق إلى حد الجنون لكنها لم تعلم بحبه لها لمدة ثلاثين عاما عجافا. تزوجت صديقه الذي تقدم لخطبتها فأختفى من حياتهما وتلاشت أخباره. سمعت في سنة من السنوات بالصدفة إنه هاجر إلى بلد بعيد لكن لم تسمع عنه بعد ذلك شيئا. زوجها لم يذكره أبدا رغم صداقتهما الوثيقة. عندما توفي زوجها بعد صراع طويل مع السرطان حزنت حزنا شديدا أثرّ عليها فازدادت نحولا وغارت عيناها وبرزت عظام خديها ورقبتها . أفتقدته كثيرا. أحست بثقب كبير ينخرُ قلبها وأنها صارت جنازة تمشي على قدمين. كانت علاقتهما مميزة رغم المشاكل التي عصفت بهما. يغمرها بالحب والهدايا ويحاول أن يرضيها بعد كل خلاف بينهما. لديهما ابن واحد سافر للخارج لدراسة الهندسة وعاد لمدة أسبوع فقط لحضور عزاء والده ثم رجع ليكمل مسار حياته العلمية بعيدا عنها. فكرت بالرحيل معه بعد وفاة زوجها لكن صرفت النظر في اللحظات الأخيرة بعد أن أعدّت العدة وحزمت أمتعتها . ثمة مغناطيس هائل يجذبها لموطنها. هل هو زوجها وذكراه في البيت الذي عاشا سوية فيه مع ابنهما الوحيد! لم تكن متأكدة سوى أنها سمكة لا تتنفس خارج بحر الوطن. نخلة وفية للأرض التي نشأت وتربت فيها

بعد عدة شهور من الوفاة كانت تجمع ملابسه وأشيائه في صناديق مخصصة لذلك. فتحت أحد الألبومات ونظرت للصور. الصورة الأخيرة كانت لزوجها وصديقه يأكلان معا ويضحكان في منتزه عام تحيط بهما مجموعة من الأصدقاء. تفحصت صديقه والذي نست ملامحه بمرور السنين. “صادق” يمتاز بسمرته الشديدة وشعره خفيف مجعد. عيناه عسليتان ثاقبتان وحاجباه معقوفان وأسنانه الأمامية متفرقة. أخرجت الصورة لتتفحصها عن قرب من الألبوم لضعف نظرها من شدة البكاء المتواصل. سقطت ورقة صغيرة مخبأة خلفها. انتابها الفضول ففتحتها وقرأتها. إنه خط المرحوم زوجها

صديقي وحبيبي الغالي صادق

أكتب لك اعتذار من صميم القلب لأني قطفت الوردة التي أردتَ أن تقطفها قبلي. لم أعتمد أن أجرحك أو أذيتك، عندما سبقتك وتقدمت لخطبتها. أتمنى أن تفهمني. لم تكن لي لدي الجرأة لأصارحك بحبي لها. لقد أحببتها حبا جما حتى قبل أن تخبرني أنت بمدى تعلقك بها، وأنك تفكر فيها ليلا نهارا ولا تستطيع الأكل أو النوم بسبب ذلك. لمَحْتُّ لك أكثر من مرة أن علاقتي بها مختلفة. قلت لك أننا منذ الطفولة نلعب ونمرح معا وأن أهلنا سَمُونَّا لبعض. كانوا دائما يكررون على مسامعنا منذ صغر سننا: منى لعادل وعادل لمنى. كنت في فترة المراهقة أكتب لها الرسائل وأرسلها لها عن طريق أختي الصغيرة. لقد منحتني الوردة حبها في مكالمات هاتفية بيننا ورسائل ما زلت محتفظا بها. حسبتك ستفهم وتبتعد لأنك صديقي الصدوق. أمنحني فرصة أوضح لك كل شيء. لماذا لا ترد على اتصالاتي ولا تجيبني. وعندما أطرق بابكم دائما يقول لي أخوك الصغير أنك غير موجود. صادق صديقي، يجب أن نتحدث وتخبرني عن مكنونات قلبك وأشرح لك موقفي. لا تقاطعني هكذا. أنا لا أطيق ضياع صداقتنا من أجل امرأة حتى وإن كانت منى زوجتي. لقد درسنا منذ الابتدائية معا وكنا أقرب الزملاء لبعض. صادق، اتذكر عندما اعرتني كتابك وتعرضت لضرب المدرس. أتذكر عندما كنت احضر الطعام من منزلي ونتقاسمه سوية. أتذكر لعبنا لكرة القدم في الطرقات. أتذكر ضحكنا عندما نعد المقالب للمدرسين والطلاب. أرجوك لا تسيء فهمي. أنت جزء لا يتجزأ من تاريخي وقطعة من قلبي. أتمنى أن تجيب على اتصالاتي. أتمنى أن أجدك لأحدثك بدل أن أحاول أن أرسل لك هذه الرسالة. وأتمنى أن تسامحني. صديقي أعاهدك بأني سأعاملها بحب ولن أفرط فيها أبدا.

صديقك المخلص أبداً: عادل

three+children.jpg

من شدة الصدمة التي باغتتها سقطت الورقة والصورة من يديها، وأغرقت عبراتها وجهها ورقبتها وابتلت ياقة ثوبها الأسود. لماذا لم يخبرني أحد! كان لي الحق أن أعرف! كان لي الحق أن أختار من أريد! لماذا كذب كليهما علي وأخفيا الحقيقة طوال هذا الوقت! لماذا يكذب زوجها ويقول أنها صارحته بحبه في مكالمات ورسائل وهي لم تفعل ذلك لشدة خجلها. الآن فقط وجدتْ التفسير لما حيرها سابقا من تجاهله لصديقه وتجنبه الحديث عنه. شعرت بخيبة الأمل تصفع وجهها بقوة. بدأ القهر يتغلغل في صميم قلبها. ما أعجب الحياة! في هذا الوقت الذي تود أن تحتفظ فيه بذكرى جميلة عن زوجها يفاجئها القدر بهذه القسوة فتتسلل نُذر الشك إلى عقلها. كيف تُصلح مرآة عواطفها التي كُسرت بعد أن قرأت الرسالة. مزقت الرسالة غاضبة ثم الصورة وألقتهما في القمامة. تريد أن تمحو ما قرأته من ذاكرتها متظاهرة بأنها لم تطلع على هذا السر الكبير الذي زعزع كيانها، ربما كان كل ذلك من محض خيالها فلا إثبات له بعد أن أزالت آثاره: الصورة والرسالة. غريب أمره لماذا لم يتخلص من الرسالة بعد كل هذه السنوات! هل نسى أم أنه تعمد أن تطلع على هذا السر ملتمسا منهما الصفح والغفران

من ضمن عيوبها الفادحة أنها دائما ترى النصف المملوء من الكأس. تنظر للناس بمثالية ثم تصيبها الصدمة إذا اكتشفت النقيض من ذلك. ما ساهم في مثاليتها المفرطة ما قرأته وهي مراهقة من كتب المنفلوطي: العبرات والنظرات وماجدولين والشاعر. فلقد فرضت مدرسة اللغة العربية العراقية على طالبات الصف الأول المتوسط أن يقرأن كتب المنفلوطي لتحسين أسلوبهن في الكتابة، أما هي فلم يتطور أسلوبها كثيرا لكنها تأثرت تأثرا شديدا بالشخصيات المثالية الافلاطونية التي يعرضها المنفلوطي لقيم كالحب والوفاء والتضحية والإيثار والفداء. لذلك زوجها كان يمثل لها قمة فريدة في الحب والإخلاص. لم تكن تعلم أن قمة الجبل قامت على أرض طينية متحركة. وإنه ذو وجهين. هل سيفاجئها القدر بأمور أخرى عنه، من يدري! لكن لو وضعت نفسها محله هل من الممكن أن تفعل مثله! أي لو أحبت شخصا وصديقتها أحبته أيضا بالتأكيد سوف تتقرب منه ولا تبالي بها. لا! إنها ليست كذلك! أنها تحمل في قلبها جذوة من القيم الأفلاطونية المنفلوطية. ستقاوم شيطانها وستؤثر صديقتها على نفسها، فالرجل يمكن العثور عليه أما الصداقة فكنز من الصعب الحصول عليه

بعدها حاولت اقتصاء أثره فوجدته قد تزوج أجنبية وأنجب خمسة أطفال، وعاد قبل عام للوطن. كان في السابق يرسم لكنه الآن كما علمت من ابنة عمه أنه أصبح أشهر من نار على علم. إذاً، ربما تسنح الفُرصة أن تقابله بدون أن تحرج نفسها في معرض من معارضه الفنية. هل سيعرفها وهي تغيرت كثيرا من فتاة جذابة ممتلئة شبابا وحيوية إلى خمسينية أرهقتها سنوات العناية بزوجها في مرضه وكسر جناحها ما اكتشفته أخيرا عنه. تندمت أنه في ذلك الوقت قبل زواجها لم تقرأ ما بين السطور. لم تشم رائحة الحب من خلال كلام صادق ونظراته إليها. كيف لم تشعر كأنثى بذلك، تذكر أنه كان يخالجها إحساس غريب كلما صادفته في الشارع لأنه ينذهل ويتجمد في مكانه ينظر للأسفل متجنبا النظر المباشر إليها لكي لا يشي بسره. يتلعثم ملقيا التحية عليها على عجالة. ألهذا السبب تقدم زوجها سريعا لخطبتها وأصر أن الزواج يكون بعد أسبوع فقط من الخطوبة خوفا أن تتطور العلاقة بينهما ولقطع الطريق عليه بلا عودة. فهمت الآن ما كان يتمتم به زوجها في غيبوبته: سامحني، سامحني، صديقي سرقتها منك... قطفت الوردة

تلك الليلة كانت ثقيلة كصخرة جثمت على قلبها. أتشحت بالسواد من قمة رأسها حتى أخمص قدميها. خرجت من العِدَّة لكن ما زالت ترتدي السواد وفاء لزوجها ولا تقرب الزينة والعطور . دخلت المعرض في يوم الافتتاح الذي يحضره غالبا الفنان قبل إغلاقه بنصف ساعة. كان هناك قليل من رواد المعرض يتجولون فيه ويتأملون اللوحات بصمت. بحثت عنه لكنه لم يكن موجودا في المعرض. معظم لوحاته بها امرأة غير واضحة المعالم لكنها تشبهها كثيرا في ملامحها وحركاتها وسكناتها. فجأة فُتح باب جانبي وظهر صادق. تساقط معظم شعره لكن حاجبيه زادا تقطيبا وتغضنت جبهته وصار يرتدي نظارة سميكة. رآها من بعيد فاقترب قليلا ورفع نظارته يمسح عدستيها كأنه غير مصدق نفسه. اقترب بفضول قائلا: كم تشبهين قريبة عرفتها! تردد أن يقول حبيبة فلا يليق به ذلك مع امرأة قابلها للتو. بادرها بالسؤال: كيف ترين لوحاتي؟ يهمني جدا رأي المتلقي! أجابتْ: جميلة جدا ومميزة. عندما تكلمت انتفض وبدأت دقات قلبه تتسارع: صوتكِ، صوتكِ، مألووف. أنتِ.. أنتِ مُنى. وسكت وتأمل وجهها وابتعد قليلا وأدار رأسه ينظر حولها يبحث عنه. تماسك وقال بلباقة: أختي منى تشرفت بحضورك المعرض. أين عادل؟ هل، هل ينتظرك في السيارة؟ أطلبي منه الدخول أو، أو سأخرج لأراه وهمّ بالحركة باتجاه الباب الرئيسي. أوقفته قائلة بصوت حزين خرج من بئر عميق: لقد أعطاك عمره. ارتعدت مفاصله وارتبك ونظر إلى البعيد وغالب دموعا صامتة تألقت في عينيه. قال غير مصدق ما سمعه: كيف، ما الذي حدث؟ ما زال شابا! لا أصدق! الله يعظم أجرك ويرحمه ويتغمده في واسع جنانه. آسف، آسف جدا! لم أعرف! انقطعت أخباركم عني لأني هاجرت للخارج وعدت مؤخرا. كم كنت أتمنى أن أراه! في غربتي كنت أفكر فيه دائما وأتحدث عنه وعن صداقتنا المميزة مع زوجتي وابنائي. لكن الأمر لله. إنا لله وإنا إليه راجعون

حزمتْ أمرها على المواربة، وقالت له: عادل في لحظاته الأخيرة كان يردد سامحني صديقي صادق وأنا لا أعلم ما هو السبب. ورغم معرفتها بما حدث من خلال الرسالة التي صدمتها أنكرت علمها لتحافظ على كرامة زوجها وهو ميت كم لو كان حيا. لم تجرأ روحها الشفافة أن تكيل له الاتهامات في غيبته ولم تستسيغ أن تنحدر في مشاعرها وتسأل صادق: هل أحببتني فعلاً، هل نسيتني، هل ما زلت تحبني، هل لوحاتك عني؟ تابعت الكلام: فأرجو رجاء حارا مهما كان موضوع الخلاف بينكما أن تسامحه من أجل العشرة والأوقات الجميلة التي قضيتماها معا. أجابها متلعثما ومجاريا لها: آه، مسكين عادل. كان.. كان خلافا بسيطا. هو أراد أن يشتري سيارة وأنا.. أنا أيضا رغبت في نفس السيارة لكنه سبقني واشتراها ولم يخبرني. زعلت في البداية لكني سامحته منذ زمن بعيد. كم هو رقيق أن يتذكر هذا ويحّز في نفسه! هو أيضا تصرف بنبل وحافظ على سمعة رفيقه بيضاء ناصعة فلم يبح لها بالسر. صمتا عن الكلام برهة ونظرا للوحات المصطفة أمامهما والتي تضج بالحياة. أحست بأن النساء اللاتي في اللوحات تنظر وتنصت لهما باهتمام

ثم باغتها: منى، أنت أيضا سامحيني! تسألت: لماذا؟ رد عليها بصوت حانٍ رقيق: لأنني لم أعلم بمرضه ولم أكن معه لأخفف عنه في لحظاته الأخيرة، ولم أقف بجانبك في ذلك الوقت العصيب. منى، سامحيني لم يكن بيدي! الظروف حتمت عليّ البعد، وهذا حال الدنيا لقاء وفراق. أجابت: لا داع للأسف. أشكرك، الآن عادل سيكون مرتاحا لصفحك عنه. شكرا جزيلا. شعرت بالراحة والرضا لحديثهما لأنها لم تلمه ولم يلم هو زوجها. كلاهما حافظا على ذكرى زوجها نقية. أنتهى لقائهما بأن أهداها لوحة من لوحاته . ترددت في قبولها لكنه أصر عليها. أخبرها بأنها من أعز لوحاته على قلبه، فقد رسمها عندما غادر البلد قبل ثلاثين سنه واسماها أمل. شكرته واحتضنت اللوحة التي بها امرأة كأنها توأم لها تقف بشموخ عند النافذة تحمل مظلة وتنظر للسماء الملبدة بالسحب السمراء

نص ورسم: نجاة الشافعي

١٩ مايو ٢٠١٩م

امرأة على الصامت

انتقدَ شرائها له فوطة خضراء مرصعة ببطات صفراء، وفانيلة زرقاء حجمها أصغر من قوامه الممتلئ، كما أحتجَّ على تعليقها لرسومها في الصالة قائلا: هناك الكثير من الرسوم والقليل من الفن! تحتاجي أن تدرسي أصول الرسم وفروعه قبل أن ترسمي! حرام عليكِ تشوهي الجدران بما تسميه الفن الحديث! صمتتْ كالمعتاد وحملقتْ في الفراغ بعيون انحبس فيها القهر والألم. وأستمر المارد الذي انطلق لسانه من القمقم يثرثر ويكرر العديد من القصص والمواقف بصوت عال، وهي تتظاهر بأنها تنصتُ له حتى فرغت معدته

 

suffering.jpg

بعدها جلس يزدرد الأكل بشراهة الذئب وهي ترمق قميصه الرمادي بطرف عينيها. وضعت لقيمات قليلة في طبقها لتسد رمقها. أما طبقه فجبل شامخ من كبسة الأرز باللحم. أخبرها أن نفسه مسدودة هذه الأيام وفقط يأكل وجبة واحدة في اليوم. ثم قال: انظري، انظري! مشيرا إلى طبقه، هل هذا طعام يكفي أن يأكله رجل! انبرت ابتسامة مغتصبة على شفتيها وهي تقارن بين الطبقين الخالي الوفاض والممتلئ حتى الثمالة. قالتْ باقتضاب: يمكن لديك فقر دم؟ رد هازّا رأسه: لا، لا! أجريت فحوصات وكل تحاليلي سليمة، الحمد لله. قالت: وحبوب الضغط؟ أجاب: نعم مستمر عليها. اليوم اعطاني الطبيب نوعين منها وكذلك حبوب للسكر زاد جرعتها. أصلاً، في هذا العصر مَنْ مِن الناس بدون ضغط أو سكر

 منذ تزوجت ابن عمها بناء على رغبة والدها وهما على طرفي نقيض. هو بركانٌ مُشتعل دائم التبرم والانتقاد، لا يسلم من آفات لسانه الصغير أو الكبير، وهي هادئة باردة كالثلج. عالمه مليء بالضجيج الذي لا تطيقه بالخصوص حين يرفع صوت هاتفه ليشاهد مسلسلاته وأفلامه المفضلة على اليوتيوب أو عندما يحدث أصدقائه بنبرة حادة تخترق الجدران. كانت في البدء تستهويه المسلسلات المكسيكية المدبلجة ثم هجرها وتعلق بالتركية أما الآن فأدمن الكورية. يكره كل الدراما الخليجية ماعدا طاش ما طاش والذي يزيد ويعيد في اجتراره ضاحكا بهستيريا كلما شاهده. ولديه الكثير من الأصدقاء يسهر معهم في المقاهي والاستراحات إلى ساعات الفجر الأولى. جربتْ مرارا أن تناقشه أو تطرح وجهة نظر مختلفة لكنه عنيد يصر على رأيه ويغضب ويقاطعها أياما، ثم تشم رائحة عطور نسائية رخيصة مختلطة بالسجائر عندما يلج الفراش، لذلك لتتعايش معه تلوذ بالصمت والصبر كما نصحتها والدتها

أما هي فتعيش مع الرسم وللرسم. فمنذ تفتح عينيها عند الفجر إلى أن تغلقهما بعد منتصف الليل ترسم وترسم، ما عدا وقت الطبخ والأعمال المنزلية، وعندها أيضا تفكر فيما سوف ترسمه أو تكملهُ في لوحاتها. جربّت الصديقات وسأمت من اهتماماتهن الفارغة وأحاديثهن المستهلكة عن الأطفال والأزواج والطبخ والموضة والأزياء والرشاقة فاعتزلتهن. كان منقذها الرسم. تتذكر كتاب مترجم لشريعتي قرأته في أوج شبابها: الفن المنقذ المنتظر. وها هو الرسم يأخذ بيديها إلى عالم الفن والجمال. ترسم أي شيء وفي أي وقت. لم تدرس المدارس الفنية في الرسم أو تحضر دورات، لكن كلما انتابتها الرغبة الجامحة في الهروب من الفقر في المشاعر الذي يحيط بها، تحمل الفرشاة وتمزج الألوان وتلطخ اللوحات بما تجود به نفسها من الألوان فتجد ذاتها في ذلك المكان البعيد. عادة تبدأ بالألوان الدافئة أحمر وأصفر وبرتقالي وعندما ينحسر وجعها تفتح الباب للألوان الباردة على مصراعيه. تبدأ بالبنفسجي المحمر ثم البنفسجي الفاتح الذي يميل للأزرق، يليه اللون الأخضر المصفر ثم الأخضر الداكن ثم اللون الفيروزي الذي تعشقه ويتربع عرش قلبها ويحضر في سائر لوحاتها. اللون الفيروزي فريد من نوعه كونه يجمع بين اخضرار الأشجار وزرقة السماء لذلك تشعر أنها معلقة في أقصى نقطة في الغلاف الجوي تلامس قدميها الأرض الخضراء وعندما ترفع رأسها تتطاير خصلات شعرها مع الغيوم. كم تمنت لو أنه بدل أن يختار الأبيض لطلاء الصالة أن تكون قطعة فيروز. تكره الألوان المحايدة وتعتبرها خيانة لونية. فالأبيض يسرق من الألوان بهائها والأسود يغرقها في غيبوبة بصرية والرمادي يجمع بين الخيانة والغيبوبة. كذلك تستخدم كافة أنواع الألوان: الزيتية والمائية والاكرليك واقلام الفحم والحبر الصيني وأحيانا تمزج فيما بينها بطرق قد لا تعجب باقي الرسامين لا يهمها ذلك. إنه الإحساس الذي يقودها عندما تحمل الفرشاة وعندها تقرر ما الذي ستستعمله في تلك اللحظة المصيرية من عمر اللوحة

عندما ترسم تتحرر من أصفاد الواقع المنحدر. تحلق في سماء سابعة في تجربة روحية خصبة. تتعالى على كل الألم والحزن والاستبداد لتشعر بحب متدفق يفيض على الكون والبشر والحياة، . في عالم الرسم سحر خلاب لا يدركه إلا من غرق في يَمْ الفن وتوحد مع الفضاءات اللونية المدهشة. هناك تنسى كل ما يحيط بها وتبحر في لذة الاكتشاف والخلق الجديد. تصبح قادرة مهيمنة بيدها عجينة لونية تخلق منها ما تشاء من عوالم وكيفما تشاء. حيوات قد تكون حالمة أو مرعبة أو واقعية أو رومانسية أو نرجسية أو مثالية. قد تضاهي الواقع في بعض جزئياته أو لا تماثله على الإطلاق. في الفنتازيا التي تُطلقها في لوحاتها تجمح مخيلتها فترسم طيور بأيدي ونساء بأجنحة وأطفال بعجلات وخيام طائرة وفراشات منتحرة وعناقيد على النخل وصحراء ملونة وخليج من تراب ورجال مفقأة عيونهم

حتى أثناء نومه تهجر مخدعهما وتسهر مع اللون. أخفت بعض اللوحات في المخزن والتي صورت فيها وجوه بشعة وأبدان مقززة وهياكل عظيمة، بينما علقت الورود والزهور والحدائق والطيور وأطفال يرقصون كالفراشات والنساء الجميلات في الصالة وغرفة النوم والمكتب. ورغم تهديده ووعيده ظلت صامدة هي وفنها في وجهه. هو يعرف أنه مهما تمادى في غيه أن لوحاتها مقدسة لديها وهي الخط الأحمر الذي لو تجاوزه لا يضمن صبرها على حياتهما التعيسة وعدم تمكنه من الإنجاب، لذلك ينتقد رسومها في أوقات متباعدة ولا يمتلك الجرأة أن يضع يده على أي من ألوانها أو فراشيها أو لوحاتها

 

يُطلق عليها العديد من الألقاب مثل: بيكاسو الخبل، الموناليزيا المجنونة، أُمْ فرشاة، أُمْ الرسم. وأحيانا يناديها مستخدما فقط الضمير: أنتِ. يوما قال: هيه، أنتِ! قومي أحضري لي بيبسي! أجابتْ: والله نسيت لم أشتريه، سامحني! قال: ماذا! ماذا! كم مرة قلت لك أهم شيء لدي البيبسي، وليس الدايت بيبسي لأنك أحيانا تحضرين الدايت وأنت تعلمين أني أكرهه. أجابتْ: أخاف على صحتك. قال: لا! من قال لك ذلك! ما دخله بالصحة! السكري ليس مهم. أنا عندما ينخفض لدي السكر أرفعه عندما أشرب البيبسي وخاصة بعد الأكل. لكني اُبتليت ببقرة لا تفهم. يالله روحي اشتري واحد. اعترضتْ: لكن الوقت متأخر الآن! صرخَ: حرام عليكِ، أنا متعب وضغطي نازل وسكري منخفض. أسرعي، سوف أموت! واضطرتْ لتلبية طلبه خوفا عليه وعلى نفسها من موجة غضب عارمة قد يكسّر فيها آنية جديدة

 

ومؤخرا يبدو أنه نسى كل التسميات السابقة وصار يستهزأ بها ويناديها معظم الوقت: يا جوال على الصامت تعالي، على الصامت روحي. على الصامت ردّي. على الصامت أريد شايا بالنعناع. أحبت هذا اللقب بالذات دون باقي الألقاب السابقة. لم تكن تشعر بأية إهانة حين يناديها به. واستمرت مطبقة شفتيها معظم الوقت. ما الفائدة من الكلام! لن يتغير شيء، فقط ستزداد رقعة الخلاف بينهما. ثم ما الفائدة إن تركته، سوف تستبدله بآخر مثله. أمها قالت كلهم هكذا، مثل فردة الحذاء التي تُكمل الأخرى. أما مشاعر الأمومة فلا تستهويها لأن لديها لوحاتها والتي تشعر بها كأبنائها وبناتها، فلماذا تمنح حياتها لأطفال يمتصون رحيقها. لماذا تنجب رجلا كزوجها أو امرأة مثلها! هل العالم ينقصه المزيد من الشقاء! يكفي ويزيد ما فيه من أطفال أيتام وأسر مشردة. حاولت مع زوجها أن تقنعه أن يتبنيان طفلا لكنه رفض رفضا قاطعا: أولا، حرام وثانيا ماذا يقول عني الناس! اسكتي ولا تكرري هذا الكلام وإلا طلقتك بالثلاث. نادرا ما يهدد بالطلاق لذلك أغلقت باب التبني وكرهت الأطفال والحديث عنهم

في تلك الفترة تمادت في الرسم، فهجرت الأكل والنوم إلا القليل. صارت مغرمة برسم الأطفال الرضع. ترسم أجنّة بأجنحة وأطفالا تغني وأطفالا تغرد وأطفالا تتحدث وأطفال تزحف وأطفالا تركض وتقهقه. تخفيهم في المخزن لئلا يسمعهم فيؤذيهم. العالم الفني الذي تحيا فيه تمتد فيه حقول فيروزية شاسعة وتجرى بها أنهار كلون قزح، وفي ظل نخلة مونقة تجلس امرأة شقراء ترتدي جلبابا قرنفليا تحتضن طفلا رضيعا أسمرا في لوحة معلقة على الجدار

 

كتابة ورسم: نجاة الشافعي 

١٧ مايو ٢٠١٩ م

وردة الوتسب اليتيمة

design.jpg

في عيد ميلاده الثامن والخمسين الذي يصفه بعيد ميلاده الخامس والخمسين

وكأن مفارقة منتصف الخمسينات بالنسبة له معضلة عظمى

سلبه المرض بعض قواه وما يزال متعجرفا مصرا أنه أقوى وأصغر لا سيما بعد أن صار يصبغ شعره باللون الأسود بينما لحيته مصطبغة بالبياض في مفارقة عجيبة 

أهديتهُ جوال فضي غالٍ نزل للتو في الأسواق لأتصل به عندما أريد لأن جواله الآخر دائما خطه مشغول

فرح بهديتي وخبأه في جيبه

حدثتهُ طويلا عن الورد أشكاله وأصنافه ورائحته وافتتاني باطواق الفل تزين رقبتي القصيرة أو الياسمين اتوج بها رأسي الصغير علّه يهديني باقة حتى لو كانت بلاستيكية لا مانع لدي لكن لم يجدي كل ما سطّرته ونمقته من كلمات

أبديت إمتعاضي بأنه إذا لم يمكنه الاتصال أو كتابة مسج، على الأقل يمكنه بضغطه زر لا تستغرق ثانية ولا تكلف شيئا أن يرسل وردة على تطبيق الوتسب الذي قليلا ما نتحدث فيه

وعلى مضض صار يرسل لي وردة على تطبيق الوتسب من فينة لأخرى

إن كان مزاجه رائقا ونادرا ما يكون يرسل ثلاثة ورود حمراء لكن معظم الأحيان يكتفي بوردة واحدة فقط

في يوم ذبلت وردة الوتسب اليتيمة

وكان خط الجوال الفضي الذي منحته له دائما مشغولا

ثم صار الخط مغلقا طوال الوقت

سائني ذلك فألغيتُ حسابي في تطبيق الوتسب

وصرتُ أرسم الورود الصفراء على الورق

كتابة ورسم

نجاة الشافعي

١٢ مايو ٢٠١٩ م

 

 

 

الزهرةُ والمريخ

لحظات الأكتشاف الأولى كانت تُسكرنا حتى الثمالة

كالسحب الداكنة المعلقة في جيد السماء تُبشر بموسم الأمطار

لها رائحة العشب الندي الذي امتزج بأنفاس البحر

تحلق بنا في فضاءات قزحية بدون أجنحة

أنا لوني المفضل الأحمر  

أنت لونك الرمادي  

أنا أعشق الربيع  

أنت تعشق الشتاء  

أنا أحب النوارس  

أنت تحب الحمائم  

أنا برجي الأسد  

أنت برجك العقرب 

أنا  أقرأ كثيرا

أنت  تسافر كثيرا

أنا أعبر بالكتابة 

أنت تعبر بالحديث

أنا دائرة  

أنت ملتوي

أنا من الزهرة 

أنت من المريخ 

في تضادنا كان الجذب 

والكيمياء التي أحالت حتى الصحراء ذهبا

 

لكن كلما توغلنا في الحُلم فَقَدَ شغفه

أنا متدفقة

لكنك متصحر  

موطني القلب  

بينما وطنك الحُفر

أنت جبل من الأنانية

لكني بحر من العطاء

أنا لا أهرب منك

لكنك هارب حتى من ذاتك

أطبقت الكتابة شفاهها

وأسقانا الساقي

صحوا لا حُلم بعده

ولا نهاية له

رسم وكتابة نجاة الشافعي  

١٢ مايو ٢٠١٩ م 

upload.jpg

 رسم نجاة الشافعي 

١٠ مايو ٢٠١٩ م 

مزرعةُ الحِمْلان

تصوير نجاة الشافعي لندن ٢٠١٦م

تصوير نجاة الشافعي لندن ٢٠١٦م

في كل مرة تنقض عليهم الذئاب وتفترس بعض الحملان الصغيرة  في ليلة دهماء

وفي كل مرة باقي الحملان إما لم يسمعوا بما حدث أو يصموا آذانهم وقرا أو لا يكترثوا لأنهم شاربين آكلين نائمين في صفاء

بعضهم يضع اللوم على الحملان الوادعة التي حَلُمت بالسفر إلى مرعى آخر في ليلة قمراء

يأكلون التين والزيتون في حدائق غناء

حقل شرايينه تسيل شلالات لبن وماء

ناصع الخضرة يقطفون باقات ورد حمراء

تغني في الفجر بلابل شهباء

.تتدلى من الكروم ضفائر شقراء

هذه المرة تسرب خبر أزعج الحملان

الراعي الخائن هو من أدخل الذئاب

ليفترسوهم لقمة سائغة عند العشاء

بعد أن منحوه رتبة راعي الرعاة

.وأهدوه تسعة أبقار حلوب سوداء

 

أشتد خوف الحملان وازداد الثغاء

عويلهم أشبه بالبكاء كل يغني على ليلاه

فقد أُكلوا يوم أُكلت الحِمْلان البيضاء

التصقوا ببعضهم كالظلال الميتة الخرساء

صار جميعهم يحلُم بالهجرة للمرعى الآخر حين المساء

أما السلاحف فتقوقعت في أصدافها الإسمنتية الحدباء

.لكن  النوارس هاجرت بعيدا خلف السحاب وتركت الغوغاء

كتابة وتصوير

نجاة الشافعي

٥ رمضان ١٤٤٠ هـ

على قائمة الانتظار

 

ارتشفتا القهوة الأمريكية وأكلتا شيزكيك في مقهى ستاربوكس عند الكورنيش. هدى ومنى مدرستان وصديقتان حميمتان منذ التقيتا في الغربة في مدرسة القرية التي تبعد عن مدينتهما ١٢ ساعة بالسيارة. ثم نُقلتا لحسن الحظ إلى المدينة بعد سنوات عجاف من المعاناة والسفر الطويل والمصاعب

 .تحدثتا بصوت خافت لئلا تلتقطه آذان الفضوليات والفضوليين في المقهى المكتظ 

“هدى، سأمت من حياتي! هل تتصورين أنه يضعني على قائمة الانتظار” 

“!ماذا تقصدين؟ كيف انتظار” 

كلما أحاول الاتصال به يخبرني أنه مشغول وسيحدثني عندما يفرغ ثم أنتظر ولا يتصل. ونفس الشيء عندما أبعث له رسالة لا  يرد. أشعر بالإهانة والغضب والحزن الشديد لقسوته وجفاءه. لم أتوقع منه بالذات هذه المعاملة. أحببته حبا جما لكنه لا يستحق  محبتي. أشعر بأنه لا مكان لي في حياته. يعاملني كشيء إضافي متى ما شاء حدثني حتى في الأوقات الغير مناسبة لي، أما إذا لم يرغب يتجاهلني تماما. دائما لا حظّ لي في الحياة. أود أن أموت 

قرّعتها هدى بشدة: “منى، كم مرة قلت لك من قبل أنت من أخترت هذه الحياة. دائما تكررين أنك لا تودين أن تشعري بالوحدة، وأنا أفهم شعورك لكنك بالنتيجة تدفعين الثمن أضعافا مضاعفة. نعم أنت وعديدات مثلك على قائمة الانتظار، وهم يحومون كالفراشات حول الزهور متى ما شاءوا! الإخلاص غير موجود في عالمنا، فقط أنانية وخيانة وغش تسود علاقتنا الإنسانية للأسف.  أنظري إلي على سبيل المثال. الحمد لله لا أحتاج رجلا في حياتي. لدي الكثير مما أفعله: أعمال خيرية وأنشطة ثقافية والكثير من الرفيقات أقضي معهن الوقت مستمتعات مبتهجات. جربت مرة واحدة فقط ثم قررت ألا أكون ضحية وتطلقت من زوجي. عاهدت نفسي ألا أنتظر شخص يضعني على قائمة الانتظار. نصيحتي تخلصي منه قبل أن يتخلص منك فالنهاية قد تكون قريبة

أجابتها وهي تهز رأسها: لا! لا! أنت دائما تشائمية، ترين فقط النصف الفارغ من الكأس بينما أنا أنظر إلى الجزء الممتلىء منه وسترين أنها فقط مشاغل وسيعود مثل الطائر، يطير ويعود إلى عشه بعد العناء والتعب 

قطع حديثها رنين جوالها بنغمة خاصة، أجابت بابتسامة عريضة والدنيا لا تسعها فرحا: “هلا ومرحبا! أنت! لم أتوقع تتصل الآن حبيبي ! من زمان لم تتصل! ثم ابتلعت ريقها واحمرت أوداجها وسالت دموعها: “ماذا! لماذا؟ كيف كل شيء أنتهى بيننا!!أعطني فرصة أخيرة! دعنا نلتقي وجها لوجه ونناقش الموضوع. أنا أحبك، أنا أعشقك، أنت روحي. لا أستطيع أن أعيش بدونك! ألو! ألو! ألو. وانحدرت دموعها سيولا جارفة على خديها

صديقتها هدى قدمت لها منديلا ثم قالت: “منى، ألم أقل لك! كفي عن البكاء! تستاهلين أحسن منه. ثم أطرقت برأسها ونظرت لأرضية المطعم المتسخة. كادت نظراتها تفضحها وابتسمت في داخلها، فهي العش الجديد الذي حط فيه الطائر 

كتابة ورسم: نجاة الشافعي

٨ مايو ٢٠١٩م

المرأةُ المُعَنَّفَة

 

المرأة المُعَنَفَة حدثتني على الجوال وهي تنتحب كمن يحتضر، بصوت يعلو تارة ويخفت أخرى وعندما تشتد نوبة البكاء وتشهق لا أكاد أميز ما تقول. ثم تماسكت قليلا بعد طوفان البكاء قائلة: هدى، أنتِ صديقتي الوحيدة وسوف أصارحك بسري فأدفنيه في بئر الصمت. خلاص,، زوجي انتهيت منه، سوف أطلقه هذه المرة، ولن أعود ولن أنظر إلى الوراء، احترقت كل جسور الود بيننا، لن أنسى كل ما فعله، مستحيل أغفر له خيانته، سأمت حياتي معه وأكاد أُجَن، وكلما ضاقت بي الدنيا صرت أشرب القهوة بشراهة وأدخن ليلا ونهارا وأصرخ وأضرب أطفالي وأحيانا أضرب حتى نفسي، صدري حتى يحمر ورأسي حتى يفترسني الصداع. وأكثر من مرة فكرت بالانتحار والهروب من المنزل. أعطيته فرص عديدة ولم يغير أسلوبه أو معاملته لي

صدقتها وتعاطفت معها فنحن جيران منذ أبصرنا الدنيا ودرسنا معا في المدرسة وتزوجنا في نفس السنة. قدمت لها العديد من النصائح على طبق من ذهب: توقفي عن هذه العادات السامة التي تقتلك ببطء فمن لأبنائك غيرك. عبري عن مشاعرك بالحديث لمختصة نفسية ولا تكتميها لأنها كالقنابل قد تنفجر في داخلك وخارجها. اتصلي بأحد من أهله لكي توضحي لهم ما حدث بينكما ولكي إما يصلح ما بينكما أو حتى ينهي الأمور العالقة في المستقبل. اكتبي كل ما يزعجك منه في ورقة وحسناته.

فقاطعتني متهكمة: حسناته؟ ماذا؟ هو شيطان رجيم يلبس لبس حمل وديع، مخادع منافق كذاب. أنا من أوقفته على رجليه وصرفت عليه من جهدي ووقتي وكل ما أملك ولكن لم يثمر الجميل وعض اليد التي امتدت إليه. إنه إمعة ناكر للجميل. وآخر الدواء الكي. أجبتها: إن كنتِ متأكدة هذه المرة فتحدثي لوالدك لينهي الموضوع وليحاول أن يحصل لك على حضانة أبنائك إن أثبتم أنه ليس بكفء لرعايتهم.

 صرنا نتقابل ونتصل ببعض على مدى أسبوع كامل، ثم حدثتها في اليوم الثامن لاطمأن عليها فقالت: عادت المياه إلى مجاريها وأرتجف صوتها، أطفالي لأجلهم سامحته، لكن منذ رجع للمنزل لم أنظر في عينيه ولا أود أن أناقش شيئاً معك الآن.

أقفلتُ سماعة الجوال غير متفاجئة. هي كما هي لم تتغير. تقف على حافة الجبل الشاهق وتنظر للأسفل فترى العالم صغيرا كدمية، ثم تنزل من الجبل وترى ما رأته ضخما كبيرا. خالجني شعور أنها سوف تحدثني بعد فترة ليست بعيدة.  

 

نجاة الشافعي

٢٢ ابريل ٢٠١٩م

Circles and Lines .JPG

كيف صِرْتُ طَيْرَاً؟

كان قدري طيرا محبوسا في قارورة مغلقة بسدادة صدئة 

إن حاولتُ إخراجه بكسر الزجاجة يموت العصفور سريعاً 

وإن لم أحاول يختنق العصفور ويموت ببطء 

.ما بين شفير الحياة والموت يرقص قدري ضاحكا بسخرية لاذعة

I Became a Bird Painting

.كان قدري أن أُدفن حية في عرف وعادات جاهلية حديثة نسجتها لحى الرجال الكثيفة.كان قدري أن اسمي عورة، وجهي عورة، صوتي عورة، حديثي عورة، جلوسي عورة، وقوفي عورة، كلي عورة في عورة 

.كان قدري أن أُمنع من المشي على الأرض حرة طليقة لأن قدماي تُدنسها كلما سرت لوحدي بدون محرم أو قّدتُ مركبة

.كان قدري أن جسدي عيب وحرام يجب تغليفه وتعليبه في صندوق أسود لطائرة تحطمت في صحراء شاسعة سقطت أشلائها فوق خيمة مفقودة

 .كان قدري أن أصبر ثم أصبر ثم أصبر ولا أعترض ببنت شفة حتى يمِلُ مني الصبر وتلطمني غربتي على وجهي وقفاي

.وإن سولت لي نفسي وصدرت كلمة صريحة مني أو سؤال جريء أو ضحكة عالية أو حتى إبتسامة بريئة وجهوا لي أصابع الإتهام بقلة الحياء والإسترجال

كان قدري أن تُخنق طفولتي وتنعدم البراءة في صدري الغض المقبل على الحياة بشراهة، فالطفولة ملك للأولاد فقط. يلعبون في الطرقات الكرة. يتسلقون الأشجار ويقطفون الزهور ويداعبون العشب الندي. يعلقون صورهم ويتباهون بأسمائهم ويفتلون عضلاتهم وشواربهم. يلهون ويمرحون كما يشاؤون بدون حسيب أو رقيب  أما أنا فكل العيون ترصدني

أما الفتيات فتضمهن البيوت خلف الجدران ينظرن من ثقب بالباب أو من خلف ستائر الشبابيك للشارع المحرومات منه. يغسلن الصحون ويطبخن وينظفن ويكنزن أحلامهن كل صيف في إنتظار إستوائها عند الربيع. ويدرسن في المدرسة مناهج مختلفة عن الأولاد، مخصصة فقط للنساء لتحفظ كرامتهن وخصوصيتهن وقائمة المحرمات طويلة لا تنتهي: الأحذية الملونة والكعوب العالية وأطواق الشعر والقلائد وكل زينة وحتى المِرآة محرم إحضارها للمدرسة الخ.. بقي أن يحرِّموا الهواء الذي نتنفسه لأنه يختلط بالرئة والماء الذي نشربه لأنه يداعب الشفاه في طريقه إلى الحلق

كنت أختنق، أبكي، أتشظى حسرة وحزناً، وأتشنج وأشعر بالغثيان كلما أشتد الطوق حول رقبتي وحزها وكلما رغبت في تحدي العرف والمألوف. لكن بدء الداء يستشري لقد صدقتهم وكلنا صدقناهم. شعرنا كنساء بالفعل بالدونية، بالحقارة، بالضعف وبالإحتياج الدائم لهم. فهم المُنقِذون ونحن المُستَنقذون. إسترقاق بذخي لا يليق إلا بالعصر الجاهلي الحديث

الإعتراف سيد الأدلة وفضيلة من الفضائل. حقيقة الأمر أني ساهمت وغيري من النساء وشجعنا ذبحنا بسكين باردة في كل مناسبة. لا بل رقصنا على أشلائنا. لم اجرأ ولم أمتلك الشجاعة الكافية لفضح زيفهم. كنت ريشة ضعيفة مقابل طوفان البوم التي تنعق. لم أفتح فمي بالصراخ والرد عليهم وعلى إتهاماتهم المشرعة في وجوهنا ليلا ونهارا. كان منطقهم علكة يلوكونها بين أسنانهم الصفراء يمتصونها ثم يبصقونها في الشارع أو يلصقونها على الحائط. كنت مخطئة جدا. لم أستنكر أو أشجب. لم أقول لهم بصوت مزبد مرعد: كفى! كفاكم نفاقا! كفاكم ما تفعلون بنا! لسنا ضعيفات! لماذا تنظرون لنا بعين واحدة وتغمضون الأخرى! نحن مثلكم تماما لا فرق بيننا على الإطلاق

الكلام والحوار يدور في رأسي يترسب كالحجر في قاع حنجرتي ولا يخرج، أسمع بوضوح فحيح ردهم وتقريعهم كالطاعون الأسود وسيل من التهم المعلبة الجاهزة لكل من أرتد عن لوثتهم. لا منطق لديهم سوى الضجيج والهجوم الشرس. فقاعات صابون تنتفخ وتنتفخ ثم تنفجر بهواء فارغ

اتسأل بيني وبين نفسي لماذا لا أتخفى بزي أخي لأقود الدراجة، للعب بالكرة في صدر الطريق أو لمشاهدة مبارة لكرة القدم أشجع بها أبطالي الكرويين المفضلين. سرقت أحد أثوابه القديمة بدون أن يشعر وأبقيته في دولابي مع طاقيتة وغترته وعقاله. وعندما نام الجميع أوصدت باب غرفتي بالمفتاح. ربطت بقطعة قماش بيضاء صدري لكي يلتصق بظهري وأرتديت ثوبه. رائحته ملتصقة بالثوب منفرة قليلاً لكن بعد قليل أعتدتها وتوقفت حاسة الشم لدي. ثم رفعت شعري الأسود الفاحم بمشابك سوداء وإعتمرت الطاقية ثم الغترة الحمراء الملطخة بالبياض وأخيرا العقال الأسود .نظرت في المرآة المتسخة: "يا الله! لقد أصبحت أشبه أخي كثيرا!" لم أدرك ضخامة الشبه بيننا حتى تلك اللحظة. أبتسمت وضحكت كمن أكتشف سرا لذيذا. قلدت أيضا مشيته وسلوكه فأجدتها. وددت لو أوقظ أختي الكبرى في الغرفة المجاورة لأريها لكنني خفت أن تبوح بسري لأمي وأمي كعادتها الدائمة ستخبر أبي. فهي الكبرى  العاقلة وكل ما تخبرهم عني أنا الطائشة سوف يصدقونها بدون أدنى ريبة. وأخيرا رسمت شاربا أسودا بقلم الكحل ونظرت للمرأة: “نعم! أنا الآن رجل مثلهم!“ لقد أجدت التنكر. شعرت بالفخر وصفقت لنفسي. لماذا ننتظر الآخرون يصفقون لنا! وأطلقت على نفسي إسما. سميت نفسي وليد السعيد لأني ولدت من جديد وأشعر بالسعادة تغمر كياني تخرق روحي أطير حتى السماء السابعة

عزمت أن أخرج للشارع لأرى الأسفلت مبللا بالمطر في منتصف الليل. أراه بدون غطاء على وجهي. أمشي وأركض وألهو في غفلة منهم بدون أن أخدش حيائي أو أخدش حيائهم. أشم رائحة العشب والمطر والأرصفة والبيوت والناس. دق قلبي كمطرقة أسمع صوتها جليا. إزدادت سرعة تنفسي. شعرت بالإختناق. لا أستطيع إلتقاط أنفاسي. باغتني مغص شديد. إنها نفس الأعراض التي تنتابني عندما أدخل قاعة الإمتحان. لم أقدر على الخروج أو التحرك خطوة للأمام بل عدت للوراء وخر جسمي ممتقعا، مصفرا وجهي على كرسي منحني في غرفتي. شدتني القيود التي أعتدتها والأساور الذهبية للتسمر في مكاني تجللني الحيرة والخيبة والقلق. ماذا لو علموا بما أفكر فيه، بما يدور في رأسي ويقض مضجعي؟ كيف سأتصرف حينها؟ سأدعي أنني أسير وأنا نائمة لعلهم يغفرون لي مجرد التفكير بخرق قوانينهم الفولاذية

بدل أن أواجههم أو أخرج كسّرتُ تلك الليلة كل الدمى التي كان يجمح خيالي بها بعيدا فأمثل بها حكاية سندريلا وبيضاء الثلج وليلى الحمراء وزنوبيا وكليبوترا وبلقيس وأخيط لها الملابس المطرزة التي تليق بملكات وأدللها وأعتني بها، لويت أذرعتها جميعها ثم فصلت رؤوسها عن أجسادها، رميت بها على السجادة ودستها بقدمي، ووجوه النساء في الجرائد والمجلات رسمت لها كلها شوارب ولحى وفقأت أعينها. ابتلعت عبارات السب والشتائم القاذعة التي راودتني ودفنتها في مقبرة داخل رأسي. تمنيت لو أستطيع أن أطلقها كلها وشحن الغضب المترسبة في شراييني لتدمر نفاقهم وتفضح رجولته التي تستقوي على النساء فقط ولا تتجرأ أن تنتقد الواقع المر بكل تفاصيله المتناقضة لكني تعودت أن لا أشتم ولا أتذمر لأنني فتاة مهذبة جداً وعاقلة جدا

حددوا لي إطار المساحة التي أعيشها ضمنها، صندوق مجوهرات أزين بها جسداً شاءوا أن يكون رهينة منفراً أو مغرياً في زمن ومكان يختارونه، وعلبة مساحيق ألطخ بها وجهي وأُجَمِّلُ بها تشويه روحي، وأطلي قيودي بألوان ذهبية لكي أخدع نفسي وأقول أنها حلي أُهديت لي لتحفظني من الغواية، ودولاب ملابس تتصارع فيه ملابس فضفاضة تمحو خارطة الجسد وملابس ضيقة شفافة تسلط الضوء على كل النتوءات والتفاصيل، تبين أكثر مما تخفي، وكعوب عالية أتسلقها عندما نمثل كوميديا الحب السوداء

لكنني كنتُ دائما أشعر بأنياب القهر تمزق عقلي لأني في قرارة نفسي أعرف أني طاهرة منذ ولدتني أمي وأن لي إسم ووجه وعنوان وجسدي ليس عارا بل شمس دافئة، وأن لي حق في الحياة وممارستها مثلهم. شعرت بالغبن لأن الوطن يتسع للجميع ولا يتسع لأقدام وجسد أنثى! أصلا نحن النساء الوطن بأجمل تجلياته، بسهوله، بجباله، ببحره، بعشقه الناري، برمانه وعنبه، بزهرة مسكه، بفراشاته ونخله

في كل ليلة عندما أنام يخف جسدي من ثقله وكأن الجاذبية تنعدم شيئا فشيئا تتلاشى، وأعلو..أطير.. أطير.. أحلق عالياً. في البدء أشعر بالرهبة مخافة السقوط ثم أشعر بمتعة الطيران فالهواء يداعب ضفائري والسماء مبتهجة ترحب بي والسحب تسقيني رحيق المطر والنجوم تناديني لألعب معها الكرة.  تعمدت أن أنام طويلا كلما شعرت بالغبن والاحباط ليسكرني النوم ويأخذني إلى عالم يغمره النور والحرية كنت أتمنى أن لا أستيقظ لكن كنت أصحو من أحلامي مرة بعد أخرى والواقع كما هو بل أشد سوادا. لاحظت كلما زادت فترات نومي وهروبي من الواقع أشتدت مشاعري السلبية العدائية لكنها لم تتنفس بل كبتت واستحالت إلى إعصار داخلي يكتسح كل ثنايا الروح. تغيبت كثيرا عن المدرسة حتى فصلت منها لم أعد أهتم بشيء أو أطيق شيء حتى حبيبي السري الذي يحادثني متلصصا على الهاتف صرت أكرهه لأنه يذكرني بقمعهم وبترهم لأعضائي وأحلامي

 لا بل في مرة عندما أرتفع مستوى القهر في رأسي والكآبة في قلبي حاولت الانتحار لأغادر الزيف بدون عودة. ابتلعت أقراص علبة دواء كاملة لكن لسوء حظي أختي رأت العلبة فارغة وأخبرت أمي التي جاءت تصرخ وتندب: يا مجنونة! ماذا فعلتي بنفسك؟ لماذا هذه الفعلة الشنيعة؟ إن كنتِ تحبين أحدا أخبريني أكلم والدك ليتقدم لخطوبتك؟ لقد شوهتي سمعتنا بهذا الفعل السيء. الكل سيعلم ما فعلتِ وسينتشر الخبر على الملأ. لكنها لم تكن تعلم ولم أخبرها لأنها لن تفهم بأني كنت لا أحب أحدا ولكن أحب نفسي ونرجسيتي وأود أن أفقد حياتي لأني لا أطيق حياة الإماء. للأسف أخذوني سريعا للمستشفى وعالجوني. أعطوني محاليل اجبرتني على التقيء المستمر حتى آلمتني معدتي وضلوعي ورأسي وتجرح بلعومي من حموضه السائل اللزج المقزز الذى إندفع من داخلي. عندما عدت للمنزل رفض أبي التحدث إلي وأخي الأكبر عقابا لي لأني سودت وجههم أما أمي فصارت تبكي ليلا نهارا وتبتلع دموعها عندما تراني لتحدق بي بألم أما أنا فغدوت هيكلا عظميا وأمتنعت عن تناول الطعام والشراب بملء إرادتي

بعد أسبوع من تلك الحادثة واليأس يدب ويسري إلى عقلي. شعرت ببرودة نسيم هب من الشرق. بدأ يكسوني ريش نورس أبيض براق. أولاً شعرت بالعجب وتملكني الخوف الشديد. ماذا سأفعل وأنا مكسوة بالريش؟ سوف أنكشف وستسوء معاملتهم لي لأنني طير ضعيف لا حول له ولا قوة. فقد يذبحوني ويلتذون بأكل لحمي ويلقون بباقي أعضائي أو ربما يضعوني في قفص للفرجة والترفيه عن أنفسهم يسمعون زقزقتي ليطربون أو قد يجعلوني أرقص في حفلاتهم الماجنة وينظرون لريشي الملون كقوس قزح لتسعد غرائزهم المتهيجة

حسبته حلما لكنه لم يكن كذلك. أولا ذراعي اليمنى صارت جناحا أخفيتها بإرتداء ثياب فضفاضة بيضاء وأستخدمت يدي اليسرى للشرب والأكل والرسم. ثم عندما تحولت ذراعي اليسرى إلى جناح صار صعب جداً علي الإمساك بأي شيء فكلما أمسكت بملعقة أو قلم أو فرشاة سقطت فأبكي وأنتحب. وبعد محاولات فاشلة عديدة نجحت وشعرت بالفخر. بعد أسبوع تجاوزت المحنة الأولى لكن شعرت بحرارة حارقة في بلعومي. تحولت شفتاي، بدأتا تتصلبان وتتحدبان، نظرت في المرآة فرأيت منقارا صغيرا لبلبل جبلي قد ظهر لي. حاولت الكلام لكن لم أسمع سوى زقزقة جميلة آخاذة. سكتت لئلا يفتضح أمري. كيف سوف أتحدث وأجيب نداء أمي عندما تصرخ: “تعالي سريعا للمطبخ ساعديني! أو قومي حلي واجباتك! ثم مرت سبعة أيام أخر وعندها أختفت رجلاي وقدماي وظهر لي ذيل طاووس. ظهر لي ريش كثيف مثل لحاهم لكنه على عكسها جميل أملس ناعم براق طويل أزرق كالسماء وأخضر كالأشجار ومئات الألوان الفاقعة والدافئة والباردة. شعرت بالزهو ونفخت صدري لأني كنت أفتقدت رعشة اللون. أما أصابعي فصارت مخالب نسر قوية معقوفة تستطيع أن تلتقط طيرا صغيرا أو كبيرا وتصعد به إلى قمم الجبال الشاهقة لتسد رمقها وتطعم أطفالها

!أقتحمت النافذة بقوة. أخيرا حان وقت الطيران. صرت طيرا؟ صرت طيرا! صرت طيرا. لا أصدق نفسي لكنها الحقيقة

تحقق ما تمنيته خلال حياتي كلها. صرت امرأة ذات منقار بلبل جبلي وريش نورس بحري وذيل طاووس معجب بحسنه ومخالب نسر صحراوي. صارت تكسو جسدي الضئيل ألف ريشة وريشة. أملك مخالب حادة أدافع بها عن نفسي وأهاجم بها إن شئت. لدي عينا يمامة زرقاء تنفذ في أعماق البحار وتصعد إلى سقف الغيمات الماطرات. تستشعر أجنحتي الحب حتى من بعيد ولا تنفذ إليها سهام الكره والحقد والظلم. أهبط في الموانيء البعيدة على أشرعة السفن الغارقة، وأحيانا أحط في متاع عابرين يستسقون الماء وسنابل القمح فأسرقها منهم بدون أن يشعروا. نعمت بحياة هانئة لكن قصيرة جداً مثل شمعة أحترقت لتهدي روحها للآخر أو زهرة ذبلت وهي تمنح الحياة لمن أيتمها وهي طفلة. في موسم الخريف الماضي أشتد بي الحنين إلى الأرض لأني لم أعتد الحياة طويلا في السماء وبدت أهزل وأضعف، يتساقط ريشي، يتناثر، يحمله الهواء إلى مسافات بعيدة، تلتقطه أيدي الحالمين مثلي. وتنمو لي أصابع وأسنان وشفتان ويدان ورجلان وحنجرة. لم أستطع أن أهاجر إلى الجنوب مع بقية النوارس. فأغرقني الثلج وصقيع اليتم وحنظل الوحدة

.تحقق حلمي، صرت طيرا وحلقت بعيداً لكن لفترة قصيرة ثم نفقتُ عندما ضعفت قواي وتخلفتُ عن السرب

 في مقبرة الطيور أنا سعيدة أغني أحلامي وأمارس حريتي بين النوارس وعلى ذيل طاووس لم يهاجر. سأعود في قميص إمرأة أخرى. أحمل الشمس في يد والقمر في يد أخرى ومن شَعْرِي تنبثق كل ألوان الحياة. من مسته  النار سيذيب جليد المدن الممسوخة. من ذاق الخمرة لن يشرب الماء

نص ورسم: نجاة الشافعي

20/8/2015

النص من وحي لوحتي أعلاه "صِرتُ طَيراً “ وأيضاً من وحي النص النقدي الذي كتبه الناقد محمد العباس بعنوان قراءة في مجموعة "صدود" للشاعرة هيلينا بوبيرغ

 

ربما للحب زمن آخر

 

مكالمة مغتصبة. عانق صمتها صخبه بمودة. علقت خيوط شرنقتها الحريرية بشباكه. دعاها لمقابلة ضيوفه على عجل. أجابته باقتضاب بأنها تعبة ولن تستطيع أن تحضر. طلب منها أن تدعو الأخريات. أجابت بأنها مشغولة. خضب التوتر معالم صوته: "كما تشائين. سوف أتصل بك قريبا! باي!"  وقرَ نشيج البرد آذان حفله السفلي

أدركت أن وتراً ما قد أنقطع. شعرت بأن روحها هاجرت شمالاً فضلت طريقها إلى العش. انساب صوت أمها بعذوبة: "يا ابنتي اللي انكسر ما يتصلح! " تشظى قدرها فسيفساء كبتلات زهور القرنفل الجافة. مازالت باقات الزهور التي أهداها لها بمناسبة اسماها: (عيد الجنون) تحدق بها مليا

وصلتها منه رسالة الكترونية بعد شهر من الصوم. فضتها بتوق جناحي نحلة لهالات النور وسمرة الحقول لكن الأبجدية نفثت كل سمومها في صدرها. صفعها عرض شرائح سمج: ( فن التعامل مع الناس

انغرست بوصلة سفينة غارقة في راحة يدها وتدلت من أصابعها عقارب ساعة تآكل زمنها. داعبت ثمرة بطنها الناتئة برقة. مسحت شرايينها التي قفزت نافرة تحت جلدها المتغضن. يبدو أنها قد استوت قبل الأوان. أمطرها وابل من سكينة. دثرتها عنقاء الثلج بجناحيها. ربما للحب زمن آخر؟

أجمل باذنجانة زرقاء غريقة في العالم

إلى كل العراقيات والعراقيين في ذكرى الاحتلال الرابعة،

إلى كل من تسري في عروقها ويسرى في عروقه هوى العراق وعشق كل ذرة من ترابه الطاهر.

قبِض عليه قبل ثوان قليلة من تفجيره للقنبلة في المكتب البيضاوي بالمبنى الرئاسي. ذو الشعر الأشقر القصير والعيون الزرقاء البراقة يحل كل عقدة ولا يصل متأخرا أبداً. ينشد حبل “الأكشن” الرفيع حول عنق المشاهد. ينخلع قلبه من محجره. تنقسم الشاشة مرة أخرى إلى أربعة إطارات. يدور في كل منها حدث يتزامن مع الأخرى. سيارة مصفحة تحت حراسة مشددة تنقله للسجن. طائرة عسكرية خاصة تقل القيصر إلى خارج العاصمة. غرفة إدارة العمليات في حالة استنفار تام. باذنجانة زرقاء جميلة تفر إلى البحر.

مسلسل أربعة وعشرون ساعة تدور طاحونته في رأسها المتعب. تغفو قليلا ثم تستيقظ. يشتد الألم في أسفل ظهرها. تدير زر الكمادة الكهربائية لتسخن أكثر. تحاول أن تنام. تتقلب ذات اليمين وذات الشمال. تتصبب عرقاً. تنزلق إلى الأسفل. تهوي. تغرق. تغزو جوفها المياه المالحة. تتقاذفها الأمواج. يلفظها البحر. تتمدد على الشاطئ بدون حراك. تتفحصها عينان فضوليتان. ترتدي نظارات سميكة سوداء. تعتمر قبعة من القش. ربما تحسبها ماردة انطلقت من قمقم أو عروس بحر أغواها القدر. تصبح بطلة روايتها القادمة: “أجمل باذنجانة زرقاء غريقة في العالم” . تترجم لكل اللغات. يكرمون الكاتبة ثم يحرقونها ويذرون رمادها في البحر.

تحب الباذنجان كثيرا لا بل تعشقه. تعده بطريقة شهية جدا. تستمتع بطهيه كما تتلذذ برائحته وطعمه الرائع. المتبل والمسقعة ومحشي الباذنجان وشيخ المحشي والدولمة والمقلوبة ومرقة الباذنجان والباذنجان بالصلصة البيضاء ومكدوس الباذنجان وطرشي الباذنجان والباذنجان على الطريقة اليونانية ومربى الباذنجان وسندويتشات الباذنجان المقلية كلها أطباقها المفضلة وضيوف مائدتها الدائمين. طالما تمنت لو كان لديها رأسمال كافٍ لتفتح مطعما يعد وجبات شعبية فقط بالباذنجان لكن ما باليد حيلة فزوجها قد وظف كل مدخراتهم في سوق الأسهم وخسرها. موردهم الوحيد الآن هو مرتبه الحكومي الذي ينقرض عند منتصف كل شهر. تواجهها في المنزل مشكلة معقدة. أبنها الأصغر يكره الباذنجان بينما الأكبر يعشقه مثلها ويكرر دائماً: “ماما أموت في الباذنجان.” الأصغر يأكله على مضض. ضبطته ذات مرة يلتهم اللحم المفروم ويلقي بالباذنجان. الأكبر يصر على أن تعد لهم الباذنجان على الغذاء أو العشاء أما الأصغر فيبكي بحرقة ويصرخ محتجا: “لا! لا! أبغى بتاتس ودزاز” –يقصد بطاطس ودجاج.

في غرفة التحقيق كبلوه بالسلاسل. مرت أربع وعشرين ساعة متواصلة. حرموه من الطعام والشراب. لم يذق طعم الراحة. هريكليز ينهال عليه بالضرب المبرح. يتوقف لبرهة. يلتقط أنفاسه. ينظر إليه شزرا. المترجم يتحدث بعربية ركيكة:”ستندم على ما فألته مستر سبارتوكوس”. يتواصل السب والضرب. يريه شريط فيديو حيث يجلس أولاده الأربعة على الأرض مقيدي الأيدي. يحيط بهم جند مدججين بالأسلحة. يعلو صوت نحيبهم. “من أرسلك؟ من مأك؟ أين سنأتم الكنابل؟ أين الباكي؟ تكلم أم نكتلهم أمام أينك واهد واهد!” ثم يرقق أسلوبه ويغريه بنعومة: “تكلم أشان تسير شاهد ولن نكتلك راه نأتيك حك لجوء سياسي وجنسية ونجيب ولاد وزوجة.” أخيرا ينهار: “لا! لا! أتوسل إليكم لا تقتلوهم! ليس لهم أي ذنب! أنهم مجرد أطفال!” واصل اعترافاته الخطيرة. خرج هركليز من الغرفة المعتمة. تنفس الصعداء. قهقه بصوت عالٍ: “الغبي لقد انطلت عليه الحيلة!” حدث زميله ساخرا. “الفيلم مفبرك. أخرجه فرانكشتين، أفضل مخرجي أفلام الأكشين في هوليود.” سقطت الشبكة في قبضة العدالة الحديدية وسيقت الخفافيش زمراً لغرف الإعدام.

أحب أن أنعم بقيلولة قصيرة بعد الغذاء. يتسمر أطفالي حول التلفاز لمشاهدة الرسوم المتحركة في محطة سبيستوون. أتسلل خلسة على أطراف أصابعي لغرفة النوم. أغلق الباب بالمفتاح. أغفو. مسلسل أربع وعشرون ساعة عالق في ذهني. أربعة مشاهد تطاردني. تستحوذ على مشاعري. هريكليز يقهقه بعد أن أنتصر على الشر. زوجي ينام على الأريكة في غرفة المكتب. الصالة حيث يشاهد أطفالي الأربعة التلفاز. باذنجانة زرقاء يغالبها النعاس. تتسارع دفة الأحداث. ينتهي مسلسل توم وجيري. يكتشفون غيابي. يندفعون إلى غرفة النوم. يطرقون الباب. يتزايد طرقهم شدة وإلحاحا. يواصلون الطرق. يركلون الباب بأقدامهم. يدفعونه بأيديهم وأجسادهم. يعلو عوائهم. أمقتهم. أكره نفسي. أسارع بالنهوض لأن الباب على وشك السقوط. حتماً سيستيقظ والدهم من قيلولته وسيوبخني كعادته.

قمت رغماً عن أنفي. سأقوم بتحفيظهم دروسهم وحل واجباتهم. كان أمر العشاء يقلقني أيضا. “يا ترى ماذا سأطعمهم؟” تذكرت لدي في الثلاجة كيلو باذنجان أسود لذلك سأعد لهم متبلا للعشاء فهو لا يستغرق وقتا طويلا وسأقلي بعض البطاطس إرضاء لابني الصغير. أما والدهم فسيتعشى في الخارج كعادته. يبقى أن أحممهم ثم أقرأ لهم قصتهم المفضلة غرايندايزر. حين ينامون سأستمتع بمشاهدة مسلسلي المفضل وحدي ثم أخلد للنوم.

19 مارس 2007 م

في الذكرى الرابعة لاحتلال العراق