معلمات تافهات

هن مربيات صانعات الأجيال. تخرجت على أيديهن الطبيبة والممرضة والمهندسة والرسامة والكاتبة والمعلمة وربة المنزل، يعلمن النشء بكل جد وتفان وإخلاص. يخلقن أجيالا مبدعة تتطلع نحو السمو والعلم والازدهار. مجموعة من خمس معلمات يسكن نفس الحي الذي تقع فيه المَدرسة. لكن المديرة تسميهن: "المعلمات التافهات" وشاعت هذه التسمية بين الجميع

Read More

اسمها زائدة


اسكتتها أمها عن الكلام: زائدة كفي عن الثرثرة وقتل الوقت! اقرأي القصة التي اشتريتها لك قبل شهر ولم تنتهي منها. أمسكتْ بالكتاب وتظاهرتْ بالقراءة. في غفلة من والدتها وضعت الجوال في وسط الكتاب. بدأت رحلتها من صفحة إلى صفحة في العالم الافتراضي.

Read More

حِداداً على الزمن

:قالت على حين غرة

يبدو أني مكتئبة حتى النخاع

يمزقني السكون إلى زوايا حادة

أمقت غربتي الطويلة

.تقطع أوصالي كالسكين

تصوير: نجاة الشافعيالشمال الغربي البريطاني ٢٠١٥ م

تصوير: نجاة الشافعي

الشمال الغربي البريطاني ٢٠١٥ م

أين أنا

من أنا

ولماذا اسأل مثل هذه الأسئلة الوجودية

وأنا في آخر الطريق

هل كنت نائمة

نادمة

أم ميتة كنتُ

أم بُعثت  من جديد

في ريش النوارس

.ورحيق الياسمين

 

:أجبتُها

من يهجر الاسئلة

سوى من به لوثة اليقين

المرتد بعد الشك

.في صراط النادمين

أبدا لا تهجعي

وإن دارت السنين

على الصبار نسير

غادين رائحين

.في رفقة الوجع يعتصرنا الحنين

في الدالية

الساقي والكروم

.وكؤوس تدلت لتسقي العابرين

نجاة الشافعي

٢٤ مايو ٢٠١٩ م

بابُ الغياب

..كم مرة تطرق الباب ولا تجد الجواب

..طرقت ألف بابٍ وباب

..لا تصدق أن البيداء خالية من السحاب

.وأن ما تراه غواية السراب

هناك نخلة عتيقة في حديقتها

لكن الخريطة تائهة منذ أربعين حولا

والاتجاهات أذابتها كثبان الهجر

.وذاكرتها لا ينخرها التراب

وكلما قتلها السقم

أو طرحها أرضا

طرقت باب الغياب

وفي البئر تبحث عن أبجدية

.تنضدها قصائد العتاب

الحبل السري تدلى من قمة النخلة المائلة

ألتف حول جيدها ذيل

طاووسٌ نرجسيٌ يختال في صدرها

.أيلتذ هجيرٌ مثلها بأطياف العذاب

لقد أسمعت لو ناديت حبيبا

لو علتك داواها طبيبا

.ولكن لا صوت لمن يبترهُ الغياب

نجاة الشافعي

٢٤ مايو ٢٠١٩م

Separation+Jan+2015+To+Lake+District.jpg

تصوير: نجاة الشافعي

الشمال الغربي البريطاني ٢٠١٥ م

الكاتبة الشبح

لندن بريطانيا ٢٠١٦ م                          تصوير: نجاة الشافعي

لندن بريطانيا ٢٠١٦ م تصوير: نجاة الشافعي

الكاتبة الشبح 

هناك آذان تسمعك وعيون ترقُب كل حركة تقوم بها. وآخرون لا تعلمهم يعّدون دقات قلبك. يحصون أنفاسك وآهاتك وهمساتك وضحكاتك. موجودون في كل مكان: في الطريق، في عملك، في الحديقة، في محل البقالة، في بيتك، في السوشيال ميديا. مزروعة وسائل تنصتهم عليك بطريقة ذكية مع أهلك وأصدقائك وزملائك وحتى عندما تضطجع في فراشك يعلمون بذلك. أنتَ لست وحدكَ كما تحسب، فأعمِل بصرك واشحذ بصيرتك لتكتشف ما يحيط بك من مكائد ومؤامرات

 

نشرتها في الفيسبوك في المساء وفي التويتر في الصباح لتحذر الناس السذج الذين يفصحون عن مكنوناتهم وتفاصيل حياتهم على وسائل التواصل الاجتماعي. يضعون صورهم الشخصية وصور عوائلهم ويستعرضون كافة أنشطتهم: ما أكلوه، ما شربوه، ما ابتاعوه، أين ذهبوا، من قابلوا، وماذا فعلوا. هؤلاء مغرر بهم يروجون لنمط استهلاكي مادي يعزز ثقافة البوح ومشاركة حياتهم مع الآخرين. مما أدى إلى أن تسلق هرم الشهرة كل ناعق. عليها أن ترشدهم فضحايا العالم الافتراضي سهلّوا المهمة للعيون المتلصصة وغدا كل واحد منهم دون كيشوت الفارس النبيل يحسب أنه قد صرع الفرسان الأشاوس بشجاعته وبراعته وتفوقه بينما كانت حربه مع الطواحين الهوائية. حصدت حوالي مائة تعليق بين المؤيد والمعارض وقلوب ووجوه مبتسمة وغاضبة  

المؤلف الشبح مثل دون كيشوت متضخم الأنا، قصير نظر لا يرى أبعد من أرنبة أنفه، غارق في الخيال. الشبح يعتقد بأنه لوى عنق النجاح بأن كتب سيرة شخصية وأحيانا أعمالا أدبية لشخص مشهور في المجتمع. يحسب نفسه يحسن صنعا بينما هو مجرد سراب. يؤجر قلمه لغيره فيظهر ذلك الآخر بصورة جذابة شيقة منمقة بينما المؤلف الحقيقي يدس رأسه بين السطور كنعامة. المؤلف الشبح أُمٌ بديلة تؤجر رحمها لتنبت فيه جنينا لغيرها تضخ فيه عروقه الحياة لمدة تسعة أشهر لكن عندما يكتمل البدر ويمد رأسه للخروج سرعان ما تلتقطه يد امرأة أخرى تُدعى أمه. رغم رواج الكتابة الشبحية مؤخرا في الغرب ثم الشرق ما زالت تعتبرها فن مطور من فنون السرقة الأدبية حيث يوافق المسروق بملأ إرادته على سرقته واغتصاب السارق لكتابته مقابل حفنة من المال

 

هي أيضاً تُصنّف كمؤلفة شبح لأنها تكتب بدون أن تُصرّح باسمها الحقيقي أو تضع صورتها. لا أحد يعرفها على الإطلاق حتى الآن، لكن في حالتها الوضع مقلوب فهي روبن هود الذي يسرق من الأغنياء ليطعم الفقراء. هي بروميثيوس تسرق جذوة النار لتُشعل القنديل الذي ينير دروب القراء بدون مقابل. لم تصرح باسمها في وسائل التواصل الاجتماعي أو في الأوساط الأدبية ولم تضع اسمها الحقيقي على غلاف روايتها التي نُشرت مؤخرا في دار نشر مغمورة. لا أحد حتى يعرف إن كانت امرأة أم ذكرا لأنها اختارت اسما محايدا: سلام والذي يمكن حمله على الجنسين

 

سلامٌ خجولة جدا في حياتها اليومية. تحتفظ بأسرارها الخاصة لنفسها. لا تحب التطفل على الآخرين. عندها صديقة واحدة فقط، جارتها منذ الطفولة والتي تسمح لها بالتجول في حديقتها السرية وولوج عالمها المغلق عن الآخرين. غير اجتماعية ولا تبادر بالحديث مع أي أحد. قد تردّ أحيانا على من يتحدث معها فقط إذا اضطُرت لذلك. بين التهام أي كتاب يقع بين يديها والتلذذ بأصناف الطعام ومشاهدة الأفلام المعادة على التلفاز تقضي وقتها. أدمنت القراءة منذ نعومة أظافرها مما جعلها مختلفة في تفكيرها ولغتها وأحلامها عن أقرانها. لم تكن تستسيغ اللعب معهم بالدمى أو الجري بلا هوادة في الطرقات. كانت ثمرة استوت قبل أوانها وسقطت من الغصن في حضن الحروف.

 

سلامُ تتقيد حرفيا بما يمليه عليها والديها وإخوانها من أوامر ونواهي. تحترم العادات والتقاليد حتى التي ليس لها معنى. لا تحب أن تصطدم بأحد أو تكسر المحظورات. هادئة ومسالمة إلى أبعد الحدود. حتى الحشرات تشفق عليها ولا تؤذيها، فلها حق الحياة كما للإنسان، فالهرم الغذائي يقوم على التجانس بين الكائنات المختلفة وكلنا معا مترابطون في هيكلية واحدة كما يعتقد الشاعر العارف جلال الدين الرومي بوحدة الوجود. تُعيد تدوير الورق والبلاستيك وكل شيء فالبيئة للجميع ويجب المحافظة عليها. تعتقد أن كل إنسان يعتدي على البيئة يجب أن يُعاقب بقسوة لأنه مجرم في حق نفسه والأجيال القادمة. بسبب كسلها وإدمانها على القراءة والكتابة والطعام زاد وزنها حتى كسرت حاجز المئة كيلو وقفزت فوقه بعشرين كيلو فضاقت عليها كل ملابسها. سببت بدانتها لها السكري والضغط واحتكاك المفاصل ووجع الظهر الذي يؤلمها عندما تنام وتجلس لفترة طويلة. كل هذه العوامل: عزلتها، شراهتها في الأكل وبدانتها جعلتها تبدو كأنها في الأربعينات بينما هي أكملت الثلاثين في الشهر الماضي ولما يطرق بابها أي عريس بعد. صاروا ـحتى أهلهاـ يطلقون عليها اسم عانس ليس في وجهها ولكن من وراء ظهرها وأحيانا تسمعهم يهمسون بذلك فيدمي قلبها وتنحدر دموعها كالسيل العام. لذلك قررت ألاّ تخرج من البيت أبدا والتزمت بوعدها حتى هذا اليوم مهما قرّعتها والدتها وأخواتها. عن طريق الكتابة تفرغ شحنات القهر الذي يكتنف حياتها. تشعر بأن الكتابة لها دور كبير في تخفيف رزح الواقع المر عليها.

 

عندما تُمسك بالقلم وتبدأ الكتابة تنطلق ريح صرصر عاتية تُكسّر أغلالها وتحررها من العالم الكئيب الذي قبعت فيه طويلا. تتحدى مكبوتات النفس وقيود المجتمع. ربما هذا ما يسمى في علم النفس التعويض عما يعتمل في نفسها من ضعف وهزيمة أو قد يكون تفريغا للشحنات الانفعالية الغضبية.  قرأت عن الكتابة الهادفة واتجاه الفن لأجل خدمة المجتمع في النزعات الاشتراكية والدينية لكن لم تستطع أن تتماشى مع هذا الاتجاه، وأيضا تكره الاتجاه الذي يستخدم الفن للفن والأدب فقط مُهرِّجا للترفيه والتسلية، أي الفن يصبح استهلاكيا في خدمة الفرد. فالأديب في وجهة نظرها يجب أن يُحلّق في فضاء حر بلا حواجز أو موانع ليعبر عن ذاته ويبدع فنا يخدم البشرية وليس مجتمعه فقط. فالأديب الأناني الذي يفكر فقط في نفسه أو الأديب الذي يتماهى مع القيود أو يجاري المجتمع في خيره وشره وتفاهته وفساده ليس أديبا بل خائنا يستحق بتر أصابعه في مقصلة الأبجدية وإغراق أعماله الأدبية في نهر دجلة كما فعل المغول في بغداد قبل قرون عديدة. تكره أيضا أحكام الناس الظاهرة والباطنة على أي عمل فني. كل يقيّم العمل الفني من منظاره الخاص. الناقد ينقب عن عورات النصوص ليكشفها للعلن والأجدر به أن يسترها بورق التوت. المثقف يرى العمل الأدبي مسطحا فارغ المضمون ليست به أبعاد تاريخية أو ثقافية أو جدلية، الليبرالي يرى العمل متزمتا ومتقوقعا بينما المتزمت يراه متحررا ومتغربا. أما المتلقي العادي فهو الحمامة التي تقلد مشية الطاووس. يسمع للفئات الأخرى فموجة ترفع النص فوق السحاب وموجة تنزله لقاع البئر في أسفل السافلين وهو يسايرهم.

 

كلما افتقدت المتعة والبهجة في حياتها، انغمست في الفضاء الافتراضي والقصصي أكثر من السابق. في عالمها لها زوج يحبها وأطفال يشبهون أباهم لكنهم هادئين مثقفين مثلها. عندها بيت كبير تحوط به حديقة غناء يقع على شاطئ البحر. صارت روائية مشهورة يشاد لها بالبنان كأحلام مستغانمي. لا تعيش حياة رتيبة كباقي النساء في حيّها بل تسافر كثيرا. تحضر مؤتمرات وندوات. يستضيفونها في برامج إعلامية وحوارية. حولوا رواياتها إلى أفلام ومسلسلات ومسرحيات تحضر تصويرها. تذهب للنادي الرياضي وتمارس الرياضة. رشيقة فارعة الطول وأنيقة ترتدي العباءات الطاووسية وتضع الحلي والألماس والمجوهرات. لديها الخدم والحشم والسيارات الفارهة وما لذ وطاب. هذا ليس بخيال أو تهيؤات بل يتحدثون إليها وحدها وتجيبهم وتحاورهم. يرونها وتراهم. عقل جميل مثل عقلها لا يمكنه أن يزيف لها الحقيقة.

 

شاهدت مرة فيلما بالإنجليزية أرعبها بشدة عن مؤلف شبح. لا تتذكر التفاصيل بوضوح بينما نهايته حُفرت في ذاكرتها خندقا للأبد. تدور أحداث الفيلم عن مؤلف شبح يكتب مذكرات لشخصية بريطانية مشهورة والذي استقر في أمريكا مع زوجته. عندما أكتشف الشبح أسرارا خطيرة تتعلق بهذا الرجل، صدمته سيارة عندما ذهب ليسلم الكتاب في لندن للناشر. كان المؤلف يحتضن كتابه كطفل فسقط في وسط الشارع بدون حراك والمطر يبلل أوراقه المتطايرة في الشارع. اختفى الشبح من الحياة كم كان مُسدل عليه الستار خلف جدران الكلمات من قبل. تتمنى ألا تنتهي مثله عندما تُعرف في يوم من الأيام شخصيتها الحقيقة فَتُحاك لها مؤامرة. هي ممن يؤمنون بنظرية المؤامرة حتى النخاع فالأحداث لا تقع بالصدفة بل ورائها مدبر وفاعل وشاهد وشهيد

 

سلامٌ ليست شخصية واحدة فقط إنما هي حرباء يتغير مظهرها حسب الوسط الذي تعيش فيه. في الانستغرام هي "هيفاء" فتاة مراهقة مدللة حسابها مليء بصور للطعام الذي تأكله أو تبتاعه من سيدات الانستغرام. تصوره بعد أن تصفه في أطباق فاخرة بطريقة جذابة وتختار لصورها فلتر مناسب يضفي رونقا بالخصوص للصور الباهتة ويبرز جمالية التفاصيل. هيفاء مغرمة بتصوير أظافرها بطلاء مختلف كل يوم. هيفاء تصور أحذيتها وحقائبها وعباءاتها الملونة والمطرزة بالدانتيلا. سلامٌ هي ناشط اجتماعي اسمه "ماهر الزين" في التويتر. ماهر يحث على القراءة والتفكير الإيجابي. يرصع ماهر صفحته بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة.  يزينها أيضا بالحكم والأمثال والعبارات المحفزة. أما في الفيسبوك فهي مفكرة رصينة "نور الحقيقة". تتابع نور الحقيقة أخبار الأدب والأدباء وتناقش المثقفين والقاصين وتنشر ما تكتبه تحت اسم نور الحقيقة. أما في رواياتها فتتعدد شخصياتها حسب الحبكة القصصية ومتطلبات العمل الدرامي. سلامٌ ديناميكية تمل السكون والبلادة وتتغير مواصفاتها الشخصية حسب العمل الفني. تتحدى ذاتها وقدرتها الكتابية فتتحول إلى شخصية جادة أو هزلية أو مخلصة أو خائنة أو جبانة أو جريئة أو من طبقة غنية أو معدمة. قد تكون طفلا أو شابة أو رجلا ناضجا أو امرأة عجوزا أو مراهق غر. تشعر أحيانا بأنه قد يكون لديها انفصام في الشخصية لتعدد الشخصيات التي تتقمصها في كتاباتها، بينما هي في الواقع نقيض ما هي عليه في القصص. عند التأليف تسقط عنها الأقنعة وينطلق المارد من القمقم وتسرد شهرزاد الحكايات حتى الصباح. هل الكتاب الآخرين متصالحين مع أنفسهم أم مثلها يعيشون انفصاما وتشظيات في شخصياتهم ليبدعوا أدبا رائعا؟

 

في يوم صيفي حار استيقظت من النوم تشعر بلهب حارق يجتاح جسدها وتصببتْ عرقا حتى ابتلّ فراشها. كان حلم خانق رأت فيه خفافيش باضوا في عشها ثعابين انتزعت جلد يديها. فتحت عينيها. أصابها هلع شديد حين شعرت بأن هناك من يراقبها من النافذة وآخر يتلصص عليها من ثقب المفتاح. أغلقت الستارة جيدا وأحكمت قفل الباب ووضعت قطعة قماش في سِمِّ القفل. ثم أغلقت جوالها لأنهم أيضا يمكنهم أن يتنصتون على أفكارها من خلاله فيعرفون مكان زوجها وابنائها وبيتها. اشتد قلقها فحطمت الجوال والذي حتى وإن كان مغلقا سوف يبث موجات تقودهم إلى غرفتها. تناولت كراساتها وأوراقها ومزقتها إربا إربا لكيلا ينظرون لما خطته من شخصيات متمردة على القيم والأعراف والمجتمع. بالتدريج تعالت الأصوات: إنها هنا. أهجموا على الغرفة. اكسروا الباب. اقبضوا عليها. سوف نحاكمها الآن. وسمعت وقع أقدام تقترب وأيدي تطرق الباب بإلحاح. ثم صوت أمها: سعاد حبيبتي أخرجي حان وقت العشاء. تواصل الطرق. لقد ابتزوا والدتها لتنضم إليهم في مكيدتهم وتخبرهم اسمها الحقيقي. سوف تغمض عينيها ثانية حتى يغادروا منزلها. ربما هي ما زالت في لُجة قصة من قصصها أو ما زالت تشاهد فيلم المؤلف الشبح. تساءلت قبل أن تغرق في عالم النوم وشبح نيكل كيدمان ترتدي وشاحا أسودا وتحتضن طفليها عالق بذاكرتها، من هو الآخر؟ هم أم هي؟ 

كتابة وتصوير: نجاة الشافعي

٢٣ مايو ٢٠١٩

 

عيدالموت#

قاربت الساعة السادسة مساء. انتهت من طبخ العشاء. أعدت أبريق شاي بالنعناع ودله قهوة عربية بالهيل والزعفران، مشروباه المفضلان. يحب أيضا المكسرات المشكلة وضعتها في أطباق صغيرة بلورية. يتراقص نور الشموع التي أشعلتها لتضفي للصالة دفئا ورومانسية بفعل الهواء البارد المتسلل من النافذة . رائحة كعكة الشوكولاتة انتشرت في فضاء المطبخ. أخرجتها من الفرن حارة شهية. أحتضنها صحن مزخرف اشترته لهذه المناسبة الخاصة، عيد ميلاده الخمسين. طلتها بكريمة طازجة وزينتها بحبات الكرز. صفت خمسة شموع على شكل قلوب حمراء فوق وجهها الأملس. قبل أيام اشترت له هدية كاميرا فاخرة ماركة كانون وعدسات احترافية كلفتها مرتب شهر كامل. لفتها في ورق ذهبي مطرز بالنجوم. يدمن على تصوير الطبيعة وكاميرته قديمة فارتأت أن تبتاع له هذه الكاميرا. أشعلت البخور متنقلة به كفراشة من زاوية لزاوية تنشر الرائحة الطيبة في كل أرجاء المنزل وتتمتم بالصلوات والمعوذات. ثم ألقت نظرة على أناقتها في المرآة. عدلت من تسريحتها ودست خصلات الشعر البيضاء خلف أذنيها. لبست قرطين ذهبيين أهداهما لها في عيد زواجهما الأول ثم توقفا عن الاحتفال به لأنه يقول لا داعي للمبالغة والتصنع فكل أيامنا أعياد. هو نادرا ما يتذكر عيد ميلادها لكنها تتذكر عيد ميلاده كل عام وتحتفل به معه. وضعت اللمسات الأخيرة: كحل أسود وبودرة خدود خوخيه اللون وأحمر شفاه صاخب. ارتدت الكعب العالي واغلقت الأنوار لتفاجئه عند دخوله المنزل

تصوير: نجاة الشافعيلندن صيف ٢٠١٦ م

تصوير: نجاة الشافعي

لندن صيف ٢٠١٦ م


تأخر الوقت كثيرا ولم يأتي. اتصلت به لكن هاتفه النقال كان مغلقا فأصابها القلق. هل به شيء؟ هل أصابه حادث أو مكروه لا سمح الله. وضعت يدها على قلبها وهي خائفة فهو عادة يعود للمنزل في حدود السادسة. وبعد ساعات كئيبة من الانتظار كانت فيها أعصابها مشدودة كأوتار الكمان رن الجوال بنغمة خاصة به: ليلة من ليالي العمر. قال بصوت هادئ: مساء الخير. لن أتمكن من الحضور. لدي عمل كثير! سأتأخر في المكتب. تعشي بدوني. سأتعشى مع الزملاء، وبفعل وقع المفاجأة سكتت على مضض

خلعت الكعب العالي. ألقت بنفسها على الأريكة وآمالها العريضة تحولت إلى سراب بعد عناء يوم طويل من الاستعدادات المرهقة. بكت طويلا فامتزج الأسود والأحمر أسفل عينيها وعلى وجنتيها. خالجها شعور أنه سيحتفل بعيد ميلاده في مكان آخر. قطعت الشموع أربا. طعنت الكعكة بسكينة حادة عدة مرات فتناثر الكرز وسالت دمائه ممتزجا بالكريمة البيضاء واشلاء الكعكة البنية في منظر منفّر. صورتها بالكاميرا ووضعت الصورة على الانستغرام مع هاشتاغ #عيدالموت. علق على الصورة في اليوم التالي: هههههههه وابتسامة وجه يبكي من شدة الضحك

نص: نجاة الشافعي

٢٢ مايو ٢٠١٩ م

  سالبة بانتفاء الموضوع  

في فترة الخطوبة كان يحدثني لساعات طويلة ويزورني باستمرار. نخرج سوية للمطاعم والمنتزهات والأسواق في كل أسبوع، فيمر علينا الوقت بدون أن نشعر لشدة سعادتنا. لكن بعد عدة شهور انقلبت الأمور وكأن بركاناً خامداً نهض فجأة واجتاح كل ما في طريقه من حب واهتمام. صار يحدثني لعدة دقائق ويزورني فيما ندر ولا نخرج إلا حوالي مرة أو مرتين في الشهر. وعندها نسير مكتئبين على رأسينا الطير أو نتحدث باقتضاب. كلما لـُمـته تدبّ الحياة في علاقتنا المريضة، ثم يعود الثلج ونستمر بين مد وجزر. عندما رأيتُ لوحة ممدة على الأريكة في شقته لرسامة مغمورة شممت رائحة نفاذة زكمت أنفي. سألته عن اللوحة وصاحبتها فأنكر أنها تخصه. قال بانزعاج لتحقيقي معه بأنها لأحد أصدقائه أحضرها ونساها عنده. أليس لديكِ ثقة فيني! أنتِ شكّاكة! وعلا صراخه ووعيده

the mask.jpeg

  في كل مرة يُلقي الكرة في ملعبي: أنتِ لا تحاولي لإنجاح علاقتنا. أنتِ دائما مستعجلة في الحكم على الناس. أنتِ لا تصبري. أنتِ قذيفة مشاعر سرعان ما تنفجر. أنتِ دوما تظنين ظن السوء بدون مبرر. أنتِ نار تحرق الأخضر واليابس. في عيد خطوبتنا الثاني باغتته وأنا أغالب دموعي: “لا داعي لأن نستمر. لا داعي أن نخدع أنفسنا ومن حولنا. فأصلاً لا توجد علاقة إذا لم يوجد تواصل فعلي بيننا واتصال عاطفي فيما بين روحينا. علاقتنا سالبة بانتفاء الموضوع”. هكذا يقال في علم المنطق. أردت أن أوصل له رسالتين: فسخ خطوبتنا وجهله في المنطق ليس كعلم فقط ولكن أيضا كمنطق في الحياة. “أنتَ - والآن حان دوري أن أستخدم أنتَ- أنتَ لا تستطيع الجمع بين الضدين. أن تجمع بين النور والظلام، النهار والليل. نحن ضدين. هذه المرة وضعتُ العصا في عجلة حديثه المشروخ وألقمتهُ حجرا جيريا. سأمتُ كيل الاتهامات المعلبة الجاهزة التي يستخدمها معي للقفز للأمام

نظرَ إليها شزرا. أربد وأزبد وأرعد. أصمّتْ سمعها فلم تميز ما قاله. أسدلتْ الغطاء الأسود على وجهها. غادرتْ المطعم الذي شهد احتفالهما الأول والأخير بخطوبتهما. صحيح أن أسرتها ستلومها وبالخصوص أبوها لأنه أختاره لها فهو عريس من أسرة غنية تتاجر في الذهب لكن حريتها هي الغِنى الذي تنشده فقط. رمقت باحتقار سيارته المرسديس البيضاء الواقفة باختيال أمام المطعم. مشت طويلا حتى وصلتْ البيت. ألقت بقلبها المنهك على الوسادة وقطعت حبل الأمل بسكين حادة لكي تفصُلُهُ عما تبقى من روحها

 

كتابة ورسم: نجاة الشافعي

٢٠ مايو ٢٠١٩م

المرأة ُ المنفلوطية

أحبها بعمق إلى حد الجنون لكنها لم تعلم بحبه لها لمدة ثلاثين عاما عجافا. تزوجت صديقه الذي تقدم لخطبتها فأختفى من حياتهما وتلاشت أخباره. سمعت في سنة من السنوات بالصدفة إنه هاجر إلى بلد بعيد لكن لم تسمع عنه بعد ذلك شيئا. زوجها لم يذكره أبدا رغم صداقتهما الوثيقة. عندما توفي زوجها بعد صراع طويل مع السرطان حزنت حزنا شديدا أثرّ عليها فازدادت نحولا وغارت عيناها وبرزت عظام خديها ورقبتها . أفتقدته كثيرا. أحست بثقب كبير ينخرُ قلبها وأنها صارت جنازة تمشي على قدمين. كانت علاقتهما مميزة رغم المشاكل التي عصفت بهما. يغمرها بالحب والهدايا ويحاول أن يرضيها بعد كل خلاف بينهما. لديهما ابن واحد سافر للخارج لدراسة الهندسة وعاد لمدة أسبوع فقط لحضور عزاء والده ثم رجع ليكمل مسار حياته العلمية بعيدا عنها. فكرت بالرحيل معه بعد وفاة زوجها لكن صرفت النظر في اللحظات الأخيرة بعد أن أعدّت العدة وحزمت أمتعتها . ثمة مغناطيس هائل يجذبها لموطنها. هل هو زوجها وذكراه في البيت الذي عاشا سوية فيه مع ابنهما الوحيد! لم تكن متأكدة سوى أنها سمكة لا تتنفس خارج بحر الوطن. نخلة وفية للأرض التي نشأت وتربت فيها

بعد عدة شهور من الوفاة كانت تجمع ملابسه وأشيائه في صناديق مخصصة لذلك. فتحت أحد الألبومات ونظرت للصور. الصورة الأخيرة كانت لزوجها وصديقه يأكلان معا ويضحكان في منتزه عام تحيط بهما مجموعة من الأصدقاء. تفحصت صديقه والذي نست ملامحه بمرور السنين. “صادق” يمتاز بسمرته الشديدة وشعره خفيف مجعد. عيناه عسليتان ثاقبتان وحاجباه معقوفان وأسنانه الأمامية متفرقة. أخرجت الصورة لتتفحصها عن قرب من الألبوم لضعف نظرها من شدة البكاء المتواصل. سقطت ورقة صغيرة مخبأة خلفها. انتابها الفضول ففتحتها وقرأتها. إنه خط المرحوم زوجها

صديقي وحبيبي الغالي صادق

أكتب لك اعتذار من صميم القلب لأني قطفت الوردة التي أردتَ أن تقطفها قبلي. لم أعتمد أن أجرحك أو أذيتك، عندما سبقتك وتقدمت لخطبتها. أتمنى أن تفهمني. لم تكن لي لدي الجرأة لأصارحك بحبي لها. لقد أحببتها حبا جما حتى قبل أن تخبرني أنت بمدى تعلقك بها، وأنك تفكر فيها ليلا نهارا ولا تستطيع الأكل أو النوم بسبب ذلك. لمَحْتُّ لك أكثر من مرة أن علاقتي بها مختلفة. قلت لك أننا منذ الطفولة نلعب ونمرح معا وأن أهلنا سَمُونَّا لبعض. كانوا دائما يكررون على مسامعنا منذ صغر سننا: منى لعادل وعادل لمنى. كنت في فترة المراهقة أكتب لها الرسائل وأرسلها لها عن طريق أختي الصغيرة. لقد منحتني الوردة حبها في مكالمات هاتفية بيننا ورسائل ما زلت محتفظا بها. حسبتك ستفهم وتبتعد لأنك صديقي الصدوق. أمنحني فرصة أوضح لك كل شيء. لماذا لا ترد على اتصالاتي ولا تجيبني. وعندما أطرق بابكم دائما يقول لي أخوك الصغير أنك غير موجود. صادق صديقي، يجب أن نتحدث وتخبرني عن مكنونات قلبك وأشرح لك موقفي. لا تقاطعني هكذا. أنا لا أطيق ضياع صداقتنا من أجل امرأة حتى وإن كانت منى زوجتي. لقد درسنا منذ الابتدائية معا وكنا أقرب الزملاء لبعض. صادق، اتذكر عندما اعرتني كتابك وتعرضت لضرب المدرس. أتذكر عندما كنت احضر الطعام من منزلي ونتقاسمه سوية. أتذكر لعبنا لكرة القدم في الطرقات. أتذكر ضحكنا عندما نعد المقالب للمدرسين والطلاب. أرجوك لا تسيء فهمي. أنت جزء لا يتجزأ من تاريخي وقطعة من قلبي. أتمنى أن تجيب على اتصالاتي. أتمنى أن أجدك لأحدثك بدل أن أحاول أن أرسل لك هذه الرسالة. وأتمنى أن تسامحني. صديقي أعاهدك بأني سأعاملها بحب ولن أفرط فيها أبدا.

صديقك المخلص أبداً: عادل

three+children.jpg

من شدة الصدمة التي باغتتها سقطت الورقة والصورة من يديها، وأغرقت عبراتها وجهها ورقبتها وابتلت ياقة ثوبها الأسود. لماذا لم يخبرني أحد! كان لي الحق أن أعرف! كان لي الحق أن أختار من أريد! لماذا كذب كليهما علي وأخفيا الحقيقة طوال هذا الوقت! لماذا يكذب زوجها ويقول أنها صارحته بحبه في مكالمات ورسائل وهي لم تفعل ذلك لشدة خجلها. الآن فقط وجدتْ التفسير لما حيرها سابقا من تجاهله لصديقه وتجنبه الحديث عنه. شعرت بخيبة الأمل تصفع وجهها بقوة. بدأ القهر يتغلغل في صميم قلبها. ما أعجب الحياة! في هذا الوقت الذي تود أن تحتفظ فيه بذكرى جميلة عن زوجها يفاجئها القدر بهذه القسوة فتتسلل نُذر الشك إلى عقلها. كيف تُصلح مرآة عواطفها التي كُسرت بعد أن قرأت الرسالة. مزقت الرسالة غاضبة ثم الصورة وألقتهما في القمامة. تريد أن تمحو ما قرأته من ذاكرتها متظاهرة بأنها لم تطلع على هذا السر الكبير الذي زعزع كيانها، ربما كان كل ذلك من محض خيالها فلا إثبات له بعد أن أزالت آثاره: الصورة والرسالة. غريب أمره لماذا لم يتخلص من الرسالة بعد كل هذه السنوات! هل نسى أم أنه تعمد أن تطلع على هذا السر ملتمسا منهما الصفح والغفران

من ضمن عيوبها الفادحة أنها دائما ترى النصف المملوء من الكأس. تنظر للناس بمثالية ثم تصيبها الصدمة إذا اكتشفت النقيض من ذلك. ما ساهم في مثاليتها المفرطة ما قرأته وهي مراهقة من كتب المنفلوطي: العبرات والنظرات وماجدولين والشاعر. فلقد فرضت مدرسة اللغة العربية العراقية على طالبات الصف الأول المتوسط أن يقرأن كتب المنفلوطي لتحسين أسلوبهن في الكتابة، أما هي فلم يتطور أسلوبها كثيرا لكنها تأثرت تأثرا شديدا بالشخصيات المثالية الافلاطونية التي يعرضها المنفلوطي لقيم كالحب والوفاء والتضحية والإيثار والفداء. لذلك زوجها كان يمثل لها قمة فريدة في الحب والإخلاص. لم تكن تعلم أن قمة الجبل قامت على أرض طينية متحركة. وإنه ذو وجهين. هل سيفاجئها القدر بأمور أخرى عنه، من يدري! لكن لو وضعت نفسها محله هل من الممكن أن تفعل مثله! أي لو أحبت شخصا وصديقتها أحبته أيضا بالتأكيد سوف تتقرب منه ولا تبالي بها. لا! إنها ليست كذلك! أنها تحمل في قلبها جذوة من القيم الأفلاطونية المنفلوطية. ستقاوم شيطانها وستؤثر صديقتها على نفسها، فالرجل يمكن العثور عليه أما الصداقة فكنز من الصعب الحصول عليه

بعدها حاولت اقتصاء أثره فوجدته قد تزوج أجنبية وأنجب خمسة أطفال، وعاد قبل عام للوطن. كان في السابق يرسم لكنه الآن كما علمت من ابنة عمه أنه أصبح أشهر من نار على علم. إذاً، ربما تسنح الفُرصة أن تقابله بدون أن تحرج نفسها في معرض من معارضه الفنية. هل سيعرفها وهي تغيرت كثيرا من فتاة جذابة ممتلئة شبابا وحيوية إلى خمسينية أرهقتها سنوات العناية بزوجها في مرضه وكسر جناحها ما اكتشفته أخيرا عنه. تندمت أنه في ذلك الوقت قبل زواجها لم تقرأ ما بين السطور. لم تشم رائحة الحب من خلال كلام صادق ونظراته إليها. كيف لم تشعر كأنثى بذلك، تذكر أنه كان يخالجها إحساس غريب كلما صادفته في الشارع لأنه ينذهل ويتجمد في مكانه ينظر للأسفل متجنبا النظر المباشر إليها لكي لا يشي بسره. يتلعثم ملقيا التحية عليها على عجالة. ألهذا السبب تقدم زوجها سريعا لخطبتها وأصر أن الزواج يكون بعد أسبوع فقط من الخطوبة خوفا أن تتطور العلاقة بينهما ولقطع الطريق عليه بلا عودة. فهمت الآن ما كان يتمتم به زوجها في غيبوبته: سامحني، سامحني، صديقي سرقتها منك... قطفت الوردة

تلك الليلة كانت ثقيلة كصخرة جثمت على قلبها. أتشحت بالسواد من قمة رأسها حتى أخمص قدميها. خرجت من العِدَّة لكن ما زالت ترتدي السواد وفاء لزوجها ولا تقرب الزينة والعطور . دخلت المعرض في يوم الافتتاح الذي يحضره غالبا الفنان قبل إغلاقه بنصف ساعة. كان هناك قليل من رواد المعرض يتجولون فيه ويتأملون اللوحات بصمت. بحثت عنه لكنه لم يكن موجودا في المعرض. معظم لوحاته بها امرأة غير واضحة المعالم لكنها تشبهها كثيرا في ملامحها وحركاتها وسكناتها. فجأة فُتح باب جانبي وظهر صادق. تساقط معظم شعره لكن حاجبيه زادا تقطيبا وتغضنت جبهته وصار يرتدي نظارة سميكة. رآها من بعيد فاقترب قليلا ورفع نظارته يمسح عدستيها كأنه غير مصدق نفسه. اقترب بفضول قائلا: كم تشبهين قريبة عرفتها! تردد أن يقول حبيبة فلا يليق به ذلك مع امرأة قابلها للتو. بادرها بالسؤال: كيف ترين لوحاتي؟ يهمني جدا رأي المتلقي! أجابتْ: جميلة جدا ومميزة. عندما تكلمت انتفض وبدأت دقات قلبه تتسارع: صوتكِ، صوتكِ، مألووف. أنتِ.. أنتِ مُنى. وسكت وتأمل وجهها وابتعد قليلا وأدار رأسه ينظر حولها يبحث عنه. تماسك وقال بلباقة: أختي منى تشرفت بحضورك المعرض. أين عادل؟ هل، هل ينتظرك في السيارة؟ أطلبي منه الدخول أو، أو سأخرج لأراه وهمّ بالحركة باتجاه الباب الرئيسي. أوقفته قائلة بصوت حزين خرج من بئر عميق: لقد أعطاك عمره. ارتعدت مفاصله وارتبك ونظر إلى البعيد وغالب دموعا صامتة تألقت في عينيه. قال غير مصدق ما سمعه: كيف، ما الذي حدث؟ ما زال شابا! لا أصدق! الله يعظم أجرك ويرحمه ويتغمده في واسع جنانه. آسف، آسف جدا! لم أعرف! انقطعت أخباركم عني لأني هاجرت للخارج وعدت مؤخرا. كم كنت أتمنى أن أراه! في غربتي كنت أفكر فيه دائما وأتحدث عنه وعن صداقتنا المميزة مع زوجتي وابنائي. لكن الأمر لله. إنا لله وإنا إليه راجعون

حزمتْ أمرها على المواربة، وقالت له: عادل في لحظاته الأخيرة كان يردد سامحني صديقي صادق وأنا لا أعلم ما هو السبب. ورغم معرفتها بما حدث من خلال الرسالة التي صدمتها أنكرت علمها لتحافظ على كرامة زوجها وهو ميت كم لو كان حيا. لم تجرأ روحها الشفافة أن تكيل له الاتهامات في غيبته ولم تستسيغ أن تنحدر في مشاعرها وتسأل صادق: هل أحببتني فعلاً، هل نسيتني، هل ما زلت تحبني، هل لوحاتك عني؟ تابعت الكلام: فأرجو رجاء حارا مهما كان موضوع الخلاف بينكما أن تسامحه من أجل العشرة والأوقات الجميلة التي قضيتماها معا. أجابها متلعثما ومجاريا لها: آه، مسكين عادل. كان.. كان خلافا بسيطا. هو أراد أن يشتري سيارة وأنا.. أنا أيضا رغبت في نفس السيارة لكنه سبقني واشتراها ولم يخبرني. زعلت في البداية لكني سامحته منذ زمن بعيد. كم هو رقيق أن يتذكر هذا ويحّز في نفسه! هو أيضا تصرف بنبل وحافظ على سمعة رفيقه بيضاء ناصعة فلم يبح لها بالسر. صمتا عن الكلام برهة ونظرا للوحات المصطفة أمامهما والتي تضج بالحياة. أحست بأن النساء اللاتي في اللوحات تنظر وتنصت لهما باهتمام

ثم باغتها: منى، أنت أيضا سامحيني! تسألت: لماذا؟ رد عليها بصوت حانٍ رقيق: لأنني لم أعلم بمرضه ولم أكن معه لأخفف عنه في لحظاته الأخيرة، ولم أقف بجانبك في ذلك الوقت العصيب. منى، سامحيني لم يكن بيدي! الظروف حتمت عليّ البعد، وهذا حال الدنيا لقاء وفراق. أجابت: لا داع للأسف. أشكرك، الآن عادل سيكون مرتاحا لصفحك عنه. شكرا جزيلا. شعرت بالراحة والرضا لحديثهما لأنها لم تلمه ولم يلم هو زوجها. كلاهما حافظا على ذكرى زوجها نقية. أنتهى لقائهما بأن أهداها لوحة من لوحاته . ترددت في قبولها لكنه أصر عليها. أخبرها بأنها من أعز لوحاته على قلبه، فقد رسمها عندما غادر البلد قبل ثلاثين سنه واسماها أمل. شكرته واحتضنت اللوحة التي بها امرأة كأنها توأم لها تقف بشموخ عند النافذة تحمل مظلة وتنظر للسماء الملبدة بالسحب السمراء

نص ورسم: نجاة الشافعي

١٩ مايو ٢٠١٩م