معلمات تافهات

هن مربيات صانعات الأجيال. تخرجت على أيديهن الطبيبة والممرضة والمهندسة والرسامة والكاتبة والمعلمة وربة المنزل، يعلمن النشء بكل جد وتفان وإخلاص. يخلقن أجيالا مبدعة تتطلع نحو السمو والعلم والازدهار. مجموعة من خمس معلمات يسكن نفس الحي الذي تقع فيه المَدرسة. لكن المديرة تسميهن: "المعلمات التافهات" وشاعت هذه التسمية بين الجميع. عن أي تفاهة تتحدث وهي قمة التفاهة والسخافة وتمثلها أفضل تمثيل فلو كانت التفاهة امرأة لكانت المديرة. يكفي أنها فرضت على الطالبات والمعلمات وضع شرائط بيضاء في شعورهن وارتداء أحذية مسطحة سوداء وتعاقب الطالبات فيكتبن تعهدا تضعه في ملفاتهن إن رأت أثر كحل في أعينهن أو وجدت لديهن مشطا أو مرآة. . ترعد وتزبد لأن الخمسة معلمات لا يطعنها طاعة عمياء كالأخريات أو يعملن كآلات صماء. حاربنّ هذا اللقب وحاربنها بكل قوة وكتبن خطابات شكوى عن إدارتها السيئة وتعاملها الرديء وعن سبها وتقريعها وصراخها عليهن وعلى الطالبات وأمهاتهن والمستخدمات في المدرسة، لكن إزاحتها عن منصبها الذي تسلمته من المديرة السابقة بنت عمها كان صعبا جدا بل مستحيلا لأنها مسنودة بشكل كبير مما جعلها تصول وتجول حتى حولت المدرسة لسجن كبير يقفل بابه في السابعة ولا يفتح إلا عند الواحدة 

ثم جاء اليوم الذي انتظرنه كثيرا يوم تقاعدها. نائبة المديرة ومن يدرن في فلكها من معلمات جعلنّ منه يوما تكريميا لها ولمسيرتها الحافلة بالإنجاز وجمعن المال من الجميع لتقديم الورود وهدية ثمينة لها وأرقنّ الكثير من دموع التماسيح. احتضنتها مساعدتها المنافقة قائلة: "كلنا سنفتقدك وإدارتك الحكيمة، ونتمنى لك سنوات تقاعد مريحة هانئة. لا نمتلك الكلمات التي تفيك حقك. شكرا جزيلا من أعماق قلوبنا" وصفقن لها. لكن المعلمات الخمسة تسألن في قرارة أنفسهن: من يصنع المارد؟ هل يولد ماردا؟ أم نحن من نصنعه! سمعن بعدها أصابتها بجلطة دماغية حدّت من كلامها وحركتها فأرسلت المساعدة لها علبة شوكولاتة وباقة زهور نيابة عن المَدرَسة متمنين لها الشفاء العاجل

في اليوم التالي تفاءلن خيراً بعد أن ظهرت المديرة الجديدة على أعتاب المدرسة. شابة ثلاثينية تفيض حيوية ترتدي عباءة ملونة حديثة الطراز. تلبس الكعب العالي وشعرها البني منسدل على كتفيها. مشت بزهو تحمل حقيبة ثمينة ورائحة العطر الباريسي تفوح منها. سلمنّ عليهن ببشاشة. رافقتها النائبة وتمنت لها بداية سعيدة وإنجازات باهرة. ثم ولجت مكتبها الذي تصاعدت منه رائحة البخور. افترشت الطاولة التي في قلب الغرفة باقة ورود حمراء وبقربها كعكة بيضاء محشية بالفواكه ونصبت لها دلة قهوة فضية وفناجين وصحن تمر فاخر. أعجبها ما رأته فزاد اتساع ابتسامتها وبريق عينيها. شكرت النائبة والمعلمات قائلة: "أشكركن جميعا. أنا أختكن ولست مديرتكن. الإدارة تكليف وليست شرف لأحد. لا أحب المجاملات. نحن هنا لنعمل فقط." تنفسنّ الصعداء صفقنّ لها طويلا وسارت الأمور في سلام ووئام

 وفي الأسبوع التالي عند نهاية الفسحة مررنا بالإدارة في طريقنا للفصول وسمعنا المديرة الجديدة تصرخ على النائبة: "أين المعلمات التافهات! أريدهن أن يمثُلن أمامي! أحد أولياء الأمور تقدم بشكوى على المدرسة. شهر العسل أنتهى والآن لنعمل بجد وسأدير المدرسة بحزم. أنا لا أحب الاستهتار والكسل! أدعي المعلمات التافهات لاجتماع حالاً 

حررن المعلمات شكوى جديدة. لكن لم يجبهن أحد

كتابة ورسم: نجاة الشافعي

١٤ يوليه ٢٠٢٠م

تنويه: أهدي القصة لكل المعلمات مع باقة ورد شكرا لعطائهن وهذا العنوان فقط لضرورة أدبية فنية*