اسمها زائدة
اسكتتها أمها عن الكلام: زائدة كفي عن الثرثرة وقتل الوقت! اقرأي القصة التي اشتريتها لك قبل شهر ولم تنتهي منها. أمسكتْ بالكتاب وتظاهرتْ بالقراءة. في غفلة من والدتها وضعت الجوال في وسط الكتاب. بدأت رحلتها من صفحة إلى صفحة في العالم الافتراضي. تتفحص ما بثته صديقاتها وحتى أشخاص مجهولون لا تعرفهم من صور وفيديوهات وكتابات وتعليقات. وزعت ابتسامات صفراء وورود حمراء وقلوب بنفسجية في معظم ما تصفحته في العالم الممتع الذي تنسى فيه نفسها والزمن وأوامر أمها
اسمها مميز. يطلقون عليها بالعامية زايده ماعدا أمها تصر على تسميتها بزائدة. كل المدرسة تعرفها. هي زائدة الوحيدة فيها. زميلاتها يتندرن على اسمها. ههه! زايدة ناقصة جمع ضرب مسألة حسابية. من سَمْاَك ها الاسم اللي يضحك. ههه! وحين درسوا عن الجهاز الهضمي في درس الأحياء في الثانوية صاروا يقارنون بينها وبين الزائدة الدودية. أنتِ زايدة عندما تلتهب تُستأصل من الجسم. ما هذا الاسم العجيب! هههه. كان يسوئها ذلك منذ صغرها. تذهب تبكي وتشتكي لوالدتها. لكن والدتها بملامحها الصارمة صامتة كالقبر. لذلك توقفت عن التذمر. أدركت منذ نعومة أظافرها أن علاقتها بأمها ذات نتوءات حادة كجلد صبارة تجرح من يلمسها.
لم تعلم من اسماها زائدة ولماذا إلاّ منذ فترة قصيرة من عمتها التي تراها فقط في الأعياد: أمك أسمتك زايده بعد وفاة والدك. كانت في حزن شديد وحالة نفسية صعبة بعد وفاة أبيكِ. تبكي باستمرار كمولود للتو ولج للحياة . وأحيانا تمزق ملابسها وتصفع بيديها خديها وصدرها. كم أحبته! كان قطعة من قلبها لكن القضاء والقدر شاء أن يموت. رحمه الله أخي كان طيبا وفيا كريما. كل الناس يحبونه. لماذا يَحْصُدُ القدر الطيبين أمثال أخي! اللهم لا إعتراض. أخي أحب أمكِ حبا جما. كنا جيران لكن عائلتينا لم يكونا على ود. فعائلة والدتك كانت غنية قبل أن يفلس جدك في الأسهم. أما نحن فكنا فقراء وتحسنت حالتنا عندما صار والدي يتاجر في المفروشات. منذ صغرهما كانا يلعبان خلسة معا. منحته قلبها ومنحها قلبه وتعاهدا أن تكون حياتهما معا. عن طريقي كانا يتبادلان رسائل غرام وكتب وورود وحلوى. أحيانا كنت استرق النظر لرسائلهما فيذيب قلبي ما بهما من مشاعر متأججة. تقدم لخطبة والدتك في نفس الفترة ابن جيراننا الغني الوسيم وأخي. فضلّت الفقير ورفضت الغني. لكن والدها أصر أن يزوجها إياه. لم تُجدي توسلاتها. فأضربا أمك وأبوك عن الطعام والشراب حتى أوشكا على الموت. عندها رضخ جدك على مضض لتقترن به لأنه يعرف أن أمك مشاكسة عنيدة المراس. كان أخي وفيا مخلصا. لم ينظر لامرأة قط سوى لأمك. عاشا سنتين في سعادة غامرة. أبوك لم تسعه الفرحة عندما حمِلت بك. كان يتمنى أن يراك ويضمك إلى صدره ويلعب معك ولكن لم يمهله القدر. أعدَّ لك غرفة صبغها بنفسه باللون الوردي وملئها بالألعاب والعرائس في بيتنا القديم. عندما توفى أخي كانت أمك حامل في الشهر الثامن. كانت غارقة في محيط الحزن وأنجبتك بولادة قيصرية وأسمتك زائدة. حاولنا معها لتغيير اسمك لأنه أثار استهجان العائلة. فعاندت الجميع. حتى المرحوم جدك غضب عليها ولم يكلمها حتى وفاته. عند ولادتك لم تلمسك إلا بعد مرور أربعين يوما. جدتك المرحومة والدتها اعتنت بك حتى الأربعين، بعدها بدأت تتقبل وجودك وبالتدريج اعتادت عليك. مزق روحها ما سمعته من عمتها فهي إذا زائدة بالفعل وليس فقط باللقب. أمها مسخت هويتها منذ اختارت لها هذا الاسم السمج. حذرتها عمتها: لا تخبري والدتك بما قلته وإلا ستحرمنا من رؤيتك حتى في الأعياد. هززت رأسي مطمئنة لها وأنا أغالب دموعي
أمها لا تعرف الرحمة طريقها إلى قلبها. كأنه لم يكفها يُتمها وأنها لم تنعم بحنان الأب فتزجرها على أتفه الأمور. تُملي عليها الأوامر من حين استيقاظها إلى وقت نومها: استيقظي، استعدي للذهاب للمدرسة، كُلي الطعام، راجعي دروسك، اقرأي الكتب، اشربي الحليب. لا تأكلي الحلويات. لا تشاهدي التلفاز. لا تستخدمي الجوال. لا تضيعي الوقت. لا تلبسي هذا. البسي عبايتك. غطي وجهك. لا ترفعي صوتك. كما تمنعها من زيارة صديقاتها أو حضور حفلاتهن وحتى عندما يجتمعن لمراجعة الدروس أو للعمل على مشروع للمدرسة ترفض ذهابها لهن. لا تثق أمها بالناس حتى أقرب المقربين إليهم. ورغم حبها الشديد لأمها وتعلقها بها تشعر بأنها قد استحالت إلى جثة باردة فاقدة للمشاعر. تذكرها بالجفاف العاطفي لأم الشاعرة الأمريكية اميلي ديكنسن التي تعشق والدتها شعرها واحتفظت بديوان لها بالقرب من سريرها تقرأه كل ليلة قبل أن تخلد للنوم. أمها ليست كباقي الأمهات لا تقبلها ولا تحضنها ولا تمشط شعرها. تشي لغة جسدها أنها تخاف من اقتحام ابنتها لشرنقتها الخاصة بها
هما على طرفي نقيض. والدتها تقرأ وهي تكره القراءة. تقضي الوقت على الإنترنت تتصفح المواقع وتدمن السوشيال ميديا وبالخصوص السنابشات الذي تصور فيه كل أمور حياتها صغيرها وكبيرها. وتتحدث مع صديقاتها بتطبيقات الجوال وترسل لهن المسجات سواء ما يتعلق بالدراسة وغيرها. أمها تعشق الكتب والشاي وكل ما يتعلق به. ملئت أمها البيت بالكتب والقصص والروايات حتى فاضت المكتبة وكذلك دواليب المطبخ بكؤوس الشاي والأباريق الخاصة به وأصناف الشاي: الأسود والأحمر والأخضر والأبيض وشاي الجنسنج الصيني والشاي المغربي والنعناع والحبق المجفف والورد المحمدي المجفف وماء الورد. خاطبنتها أمها يوما: زائدة لا تحتاجين لصديقات! رفيقك الكتاب وكأس الشاي. الكتاب لن يؤلمك ولن يجرحك ولن يخذلك يوما ما. والشاي سيرويك وينعشك. الكتاب بهجة ما بعدها بهجة وبمعية كأس الشاي الأخضر بالنعناع تتضاعف المتعة. القراءة أبقتني عاقلة. استردتني من غيبوبة الحزن. عندما اقرأ اشعر بالحياة وتوهجها. أحيا في شخصيات أخرى وأعيش حيوات متعددة مليئة بالتجارب والمغامرات. الكتاب جعلني من أنا، قوية مكافحة صابرة. عندما أتعب أضع كتفي على صفحات كتاب. عندما يدب في عيني النعاس أنام في حضن كتاب. عندما أستيقظ أفتحهما على وجه كتاب. خلال النهار يرافقني الكتاب وفي المساء ينادمني الكتاب. الحديث عن الكتب والشاي متعتها وزائدة تسمعها لكن فكرها في مكان آخر:. ماذا ردوا صديقاتها على الصور والفيديوهات التي وضعتها على السنابشات لطلاء أظافرها الجديد وهل أعجبهم؟
عندما أصاب والدتها سرطان الثدي خافت أن تفقدها كما فقدت أباها. شعرت بأن أمها تغيرت. عادت لها أنوثتها. تعاملها برقة وحنان. في يوم عملية استئصال الورم قالت لها: سامحيني إني سميتك زائدة. عندما منحتك الحياة كنتُ ميتة قلبا وقالبا. اُنتزعت الحياة مني بوفاة والدك. تمنيت لو أن الموت أختطف روحي قبله. كنت في السيارة معه أثناء الحادث في المقعد الأمامي أجلس بجواره ونتحدث ونضحك عندما اصطدمت بنا سيارة مسرعة وانحرفت سيارتنا عن مسارها. اصطدمنا بعمود النور من الجهة التي كنت أجلس فيها. حينها بدأت أفقد الوعي بالتدريج. لم أشعر بشيء سوى أنه ألقى بنفسه علي وعليك ليحمينا. وأجهشت بالبكاء بصوت عالً سمعها كل من كان مارا بجوار الغرفة. لذلك عشتُ جسدا بلا روح. كنت غاضبة من نفسي وقدري وكل شيء. أود أن أقتل نفسي من شدة الندم. لماذا أصررت عليه في ذلك اليوم أن نذهب لنتعشى في مطعم؟ لماذا لم أرضخ له عندما قال أنه مرهق ويود البقاء في المنزل؟ الحادث لم يقتله ولكني أنا من قتلته. أنا جولييت القاتلة. حبيبي روميو تحدى عائلتي ليتزوجني ثم قتلته. وواصلت النحيب. أنا أيضا أنفجرت باكية وحاولت أن أخفف عنها بلا جدوى
تماسكت قليلا ثم استأنفت الحديث. زائدة، تشبهينه كثيرا! تذكريني بوالدك. أراه فيكِ. كلما نظرت إلى حدقة عينيك السوداوين رأيته يبادلني النظر. كلما لمست يديك شعرت بيده تمسك بيدي. كلما ضممتك إلى صدري تراءى لي يربت على كتفي بحنان غامر. يعذبني الشعور بأن معاملتي لكِ كانت جافة وقاسية. سامحيني تعمدتُ أن أقسو عليك لئلا تكسركِ الحياة. أردت أن تصيري صلبة لئلا يُذِّلُكِ بشر. أنا أنهكتني الحياة فامرأة أرملة مثلي يراها بعض الرجال فريسة سهلة فيحاولون استمالتها وإن لم تستجب لهم يحاربونها بشراسة. أما صديقاتي السابقات فكُنّ يتجنبني كما يهربن من الطاعون، إمّا غيرة من كوني مستقلة أشقّ حياتي بنفسي أو خوفا أن أخطف أزواجهن. والمجتمع لم يرحمني من القيل والقال وخاصة عندما سكنت في شقة لوحدي. كنت أحارب على جميع الجبهات لأثبت وجودي ولأربيك أحسن تربية لأعوضك عن فقد أبيك. كنتُ أُمَاً ترتدي لبوس الأب لتوجهكِ وتقومكِ. أقضي الساعات في المطبخ أعد الأطباق الشهية وأبيعها لأعيلك إضافة إلى عملي الصباحي كموظفة استقبال. حبيبتي ستفهمين كل هذه الأمور بشكل أفضل لاحقا عندما تكبرين. أردتُ أن تقرأي كثيرا لتصبحي كاتبة يُشاد لها بالبنان مثل الروائيات اللاتي اقرأ لهن: آجاثا كريستي وايزابيل الليندي وأحلام مستغانمي. أردت أن تنهلي من معين الكتب تجربة وخبرة ومتعة. أن تسافري من خلال الكتب. أن تستمعي كما أستمتع. أن تحلقي مع النجوم. أن تكون الكتب اللغة المشتركة والرابط فيما بيننا كما كانت بيني وبين أبيك. أبوك كان كل حياتي، وأنت أيضا كل حياتي. أنت لست زائدة. أنت ما أحيا له وفيه ومنه أنت حياتي يا حبيبتي. انتحبتْ واحتضنتني بقوة. قبلت جبيني وأسدلت رأسها على كتفي. حبيبتي انتبهي لنفسك جيدا. كفكفي دموعك. أنا قوية ولن يهزمني المرض. سأخرج أشد قوة وسنقضي أوقاتا سعيدة مع بعض برفقة كتاب وكأس شاي. وسنُعِّد لحفل تخرجك من الثانوية في نهاية العام
لم تستطع أن تلُمها وهي في تلك الحالة. ودت لو أن أمها اقتربت منها قبل ذلك لتشرح لها معاناتها. كيف كانت تشعر بالحزن ليتمها. ليس لموت والدها فقط ولكن أيضا للجبل الشاهق الذي يفصل بينهما. ودت لو أستطاعت أن تقول لها كيف كانت تعاني من الإحساس بالنقص. فكل الطالبات لهن آباء ما عداها. عندما يتحدثن ماذا أحضر لهن آباءهن من ألعاب وملابس وهدايا وأين خرجن معهم يعتصرها الألم وتنخر قلبها الغيرة. تسأل نفسها متعجبة: لماذا ليس لي أب مثلهن! ما الذي جعل أبي يتوفى وأمي حامل بي! وتسللت إلى دماغها الصغير فكرة أنها مشؤومة كبومة تنشر الموت خصوصا لمن يحبها، وأنها تسببت بموت والدها. كانت تكره بداية العام الدراسي والأعياد على وجه الخصوص حين تسألهن المدرسات في كل حصة ولمدة حوالي أسبوع: كيف قضيتن الإجازة؟ أين سافرتن؟ ماذا فعلتن؟ فيخبرنها أنهن سافرن أو ذهبن لشاطئ البحر أو للبر مع آبائهن وعائلاتهن واستمتعن كثيرا. وعندما يحين عليها الدور تتأتأ، أنا أنا أنا، أمي كانت مريضة. تنومت في المستشفى. تؤلف قصة جديدة في كل مرة. لديها حصى في المرارة أو طحالها متضخم بسبب الأنيميا المنجلية أو التهاب الزائدة الدودية أو نوبات صرع أو تليف في الرحم. أنا قضيت الوقت معها أعتني بها وبشؤون المنزل. فيسكتن كأن على رؤوسهن الطير ويحطنها بنظرات التعاطف والأعجاب. تتدافع الأسئلة والتعليقات: هل تحسنت الآن؟ هل عادت للمنزل؟ الله يعينك. أنت بارة بوالدتك. في هذا الزمن قليل مثلك! الله يجزيك خير. فتبتسم بخبث وتزهو بمدحهن نافخة صدرها كطاووس
استقر أنبوب المغذي في وريد يدها اليمنى. لوحت لها بيدها اليسرى. ابتسمت ابتسامة تدفقت فيها المحبة تيار كهربائي أضاء كيانها كله وسرى دفئه إلى زائدة. قبعة زرقاء تستر شعرها وملابس وردية تلف جسدها وغطاء أبيض ينسدل على السرير. ترافقها ممرضة تحمل ملفا ضخما ورجل يدفع السرير. ترقرقت دموعها وبللت وجهها النحيف ورقبتها الطويلة. الطبيب قال هذه العملية خطرة لتفشي المرض العضال في جسدها. اغلقوا الباب وهي واقفة تنتظر خلفه. شعرت زائدة بأن هناك من يربّت على كتفها بحنان
نجاة الشافعي
٢٦ مايو ٢٠١٩ م