مدنٌ صديقة للتوحُّد التجربة السعودية.. واقع وآفاق

شهدت السنوات الأخيرة ازديادًا في عدد المراكز والجمعيات الخاصة بالتوحُّد. وبدأت المؤسسات والشركات والمجتمعات والمدن تتحوَّل إلى صديقة للتوحُّد بعد إعداد وتهيئة وتنفيذ حزمة من التغييرات في البنية المادية وإعداد الكوادر البشرية. كما بدأ العمل في دعم المصابين بطيف التوحُّد بكثير من البرامج التشخيصية والتعليمية والعلاجية، ومنحهم فرص العمل والتوظيف المناسب لقدراتهم، وتمكينهم من عيش حياة كريمة كبقية أفراد المجتمع

ما اضطراب طيف التوحُّد تحديدًا؟

تُسلِّط وزارة الصحة السعودية الضوءَ على التوحُّد في موقعها الإلكتروني وفي نشراتها التوعوية في اليوم العالمي للتوحُّد، على أنه ليس مرضًا، وأن “اضطراب طيف التوحُّد”، كما يُطلق عليه علميًا، هو اضطرابٌ نمائيٌّ يؤثر في التواصل والسلوك، ويسبِّب تحديات اجتماعيةً، وغالبًا لا يوجد ما يميِّز الأشخاص المصابين عن غيرهم، ولكن قد تكون طريقةُ تعلُّمهم وتواصلهم وتفاعـلهم وتصرُّفهم مختلفةً عن الآخرين. وتتفاوت قدرات التعلُّم والتفكير وحل المشكلات لديهم؛ فهناك أشخاص موهوبون، وآخرون ذوو تحديات شديدة تجعلهم يحتاجون إلى المساعدة في أعمال الحياة اليومية أكثر من غيرهم وتظهر اضطرابات طيف التوحُّد في مرحلة الطفولة، غير أنها تميل إلى الاستمرار في فترة المراهقة وسن البلوغ. ويمكن للتدخلات النفسية والاجتماعية مثل أنشطة معالجة السلوك، أن تحدَّ من صعوبات التواصل والسلوك الاجتماعي، وتؤثر إيجابًا في العافية ونوعية الحياة

في الأوساط الغربية، بدأ مصطلح “التنوع العصبي” يشهد رواجًا منذ تسعينيات القرن العشرين، ويُستخدم كذلك في الأمم المتحدة بديلًا للفظة “اضطراب”. إذ إن بعض المصابين بالتوحُّد يتمتعون بنقـاط قوة، مثل: القدرة على التركيز، والتعرُّف على الأنماط، وتذكُّر المعلومات، وغيرها. ويشمل “التنوع العصبي”، بالإضافة إلى ذوي اضطراب التوحُّد، الأشخاص الذين يعـالج دماغُـهم المعلومات بطريقة غير نمطية، مثل: صعوبات التعلُّم، واضطرابات نقص الانتباه، والقلق، وغيرها. ولذلك يدعو المختصّون والمهتمّون بالتوحُّد إلى أن تكون مدننا مهيئةً لاستيعاب المتنوّعين عصبيًا بدعمهم ببرامج مختصة، وتهيئة البيئة المكانية التي تُلبِّي احتياجاتهم سواء في المؤسسات التعليمية والعلاجية، أو أماكن عملهم، أو الأماكن العامة، أو وسائل النقل

المؤشرات الإحصائية لذوي الصعوبات في المملكة

تشير بعض المؤشرات الإحصائية العامة إلى أن نسبة ذوي الصعوبات الخفيفة والمتوسطة والشديدة في المملكة العربية السعودية، تبلغ %7.1 من إجمالي عدد السكان، ويمثِّل الذكور منهم %3.7، والإناث %3.4 (الهيئة العامة للإحصاء، 2017م). ومن بين هذه النسبة عدد غير محدد من ذوي اضطراب طيف التوحُّد. ولدعم التوحُّد، شهد عدد الجمعيات التي تخدم هذه الفئة تصاعدًا مطردًا حتى وصل إلى سبع عشرة جمعية للتوحُّد في جميع مناطق المملكة في عام 2022م، ووردت تسمياتها وتصنيفها وتوزيعها الجغرافي في بيانات المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي

ويُذكر أن هناك كثيرًا من المراكز المختصة بالتوحُّد، ومنها “مركز شمعة التوحُّد للتأهيل” الذي أُسِّس في عام 2016م بدعم من أرامكو السعودية في الدمام، ثم صار لديه فرع في الجبيل في المنطقة الشرقية، بينما يجري العمل على فرع آخر في الأحساء؛ لتقديم خدمات نوعية لذوي طيف التوحُّد من خلال التدريب والتشخيص والتدخل المبكر. وقد أصبح هذا المركز أوَّلَ مركز يحصل على اعتماد في الشرق الأوسط من اللجنة الدولية لاعتماد مرافق إعادة التأهيل (CARF) في عام 2021م. وكذلك حصل “مركز الأمير فيصل بن سلمان للتوحُّد” في المدينة المنورة، الذي أُسِّس عام 2021م، على الاعتماد بوصفه مركزًا معتمدًا للتوحُّد (CAC) من المجلس الدولي لاعتماد معايير التعليم المستمر (IBCCES) في مايو 2024م. وعادة ما يُمنح هذا الترخيصُ للمؤسسات التي درَّبت %80 أو أكثر من موظفيها الذين يتعاملون مع الجمهور على برامج متخصصة بالتوحُّد، وهو ما يزوّدهم بالفهم والمهارات اللازمة لتحسين التواصل والاستجابة للأفراد المصابين بالتوحُّد، وتقديم خدمات استثنائية لأسر المصابين وللمجتمع ككل

على المستوى التشريعي

على المستوى التشريعي، صدر في المملكة العربية السعودية نظام حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة بقرار مجلس الوزراء رقم (110) وتاريخ 1445/2/6هـ، ويشمل مجموعةً من القوانين لحماية حقوق ذوي الإعاقة، ومنها ما يتعلق بالتسهيلات اللازمة لهم للتنقل الآمن والوصول إلى الخدمات؛ حيث ورد في المادة الأولى: “إمكانية الوصول: مجموعة التدابير المناسبة التي تكفل إمكانية وصول الأشخاص ذوي الإعاقة إلى الخدمات المقدمة، على قدم المساواة مع غيرهم، ووصولهم أيضًا إلى البيئة المادية المحيطة بهم ووسائل النقل والمعلومات والاتصالات”. وورد أيضًا في المادة الثالثة: “ضمان حق الأشخاص ذوي الإعاقة في التنقل بسهولة وأمان عند تصميم وتنفيذ الطرق الداخلية والأرصفة وطرق المشاة ومواقف المركبات”

وفي إطار الاهتمام بهذه الفئة في المجتمع، أُسِّست هيئة رعاية الأشخاص ذوي الإعاقة بقرار من مجلـس الـوزراء في 1439هـ، وهي المظلة الرسـمية الجامعة لكلِّ ما يُعنى بالأشخاص ذوي الإعاقة فـي المملكـة، والهادفة إلى تمكين ذوي الإعاقة وضمان حصولهم على حقوقهم، وتعزيز دورهم في المجتمع، والعمل على تطوير الخدمات التي تقدِّمها الجهات لهم. ومن ضمن هذه التسهيلات، منح وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بطاقةً يمكن إصدارها إلكترونيًا لذوي “اضطراب التوحُّد” للتعريف بهم، ولتسهيل حركتهم في الأماكن العامة، وإعطائهم الأولوية عند مراجعة المستشفيات والمراكز الصحية وغيرها

المدينة المنورة.. أولى المدن صديقة التوحُّد

على الصعيد المحلي، تميَّز عام 2024م بتزايد الدعم لذوي طيف التوحُّد على وجه التحديد. إذ أطلق “برنامج سند محمد بن سلمان” مبادرة “طيف التوحُّد” في شهر يناير. وتهدف المبادرة إلى تشخيص المصابين باضطراب طيف التوحُّد وتأهيلهم وتدريبهم؛ لمساعدتهم على الاندماج في المجتمع، وتعزيز استقلاليتهم والاعتماد على الذات، وتوعية الأسرة بكل ما يخص المُصاب، وتوفير فرص عمل للشباب. وبلغ عدد المستفيدين من دعم “برنامج سند محمد بن سلمان” أكثر من 1400 شخص و10 جمعيات من خلال 17 برنامجًا في 8 مناطق من المملكة، ومن المبادرات الرائدة أيضًا لدمج ذوي طيف التوحُّد في المجتمع، تسجيل المدينة المنورة اسمها بوصفها أول مدينة صديقة للتوحُّد في الشرق الأوسط، والرابعة عالميًا، وذلك بعد توقيع اتفاقية بين جمعية “تمكن” للتوحُّد مع “البورد الأمريكي للاعتماد الدولي ومعايير التعلم المستمر” في 9 مايو 2024م. وتهدف هذه الاتفاقية إلى خلق بيئة داعمة لذوي التوحُّد على مستوى المنطقة، وتحقيق الالتزام بشمولية الدعم للمستفيدين، وتنفيذ التدابير المعيارية التي تضمن أن تكون المدينة المنورة موضع ترحيب يتواءَمُ مع متطلباتهم واحتياجات أسرهم، فضلًا عن تدريب واسع النطاق لأفراد المجتمع والعاملين في الأجهزة الحكومية والقطاع الخاص لرفع مستوى الوعي ومهارات التواصل والسلوك الاجتماعي

والجدير بالذكر أن تسميـة المدينة المعتمدة للتوحُّد أو المدينــة الصديقـة للتــوحد Autism Certified City (ACC)، تُمنح عادة من قبل المجلس الدولي لاعتماد معايير التعليم المستمر (IBCCES)، بناءً على استيفاء المعايير الآتية في المجالات المختلفة

التعليم: سيكون المعلمون وغيرهم من الموظفين مثل سائقي الحافلات والمعلمين المساعدين، مدربين وقادرين على تلمس احتياجات الطلاب ذوي طيف التوحُّد، والعمل معهم بشكل أفضل. وكذلك توفير معلومات حديثة ومتعددة التخصصات لمعلمي الدروس الخصوصية، ومراكز التعلُّم وغيرها؛ لمساعدتهم على تحسين النتائج، وتيسير تواصلهم مع المجتمع. ومن الأمثلة لمشاريع أُقيمت في مدن عدة من العالم في هذا المجال، تأسيس “معهد تعليم التوحُّد” (ATI) في مدينة ملبورن في أستراليا؛ لتقديم تدريب متخصص للمعلمين لإنشاء فصول دراسية أكثر شمولًا، تتضمن غرفًا حسية وخططًا تربوية فردية لدعم الطلاب المُصابين بالتوحُّد. وفي “منطقة سان دييغو الموحدة للمدارس” في الولايات المتحدة الأمريكية، برامج تعليمية خاصة قوية مصمّمة خصوصًا لتلبية احتياجات الطلاب المُصابين بالتوحُّد

التـوظيف: يمكن لأصحاب العمل في الشركات تعلُّم كيفية إدارة وجذب قوة عاملة متنوعة عصبيًا بشكل أفضل. وتشمل هذه القوة العاملة ذوي طيف التوحُّد، وعسر القراءة، وتشتت الانتباه، والقلق، وأنواعًا عصبية أخرى. ومن التجارب الملهمة في هذا المجال شركة دنماركية (Specialisterne) تعمل بنشاط على توظيف الأفراد المُصابين بالتوحُّد، مع الاعتراف بمهاراتهم الفريدة في مجالات مثل تكنولوجيا المعلومات وتحليل البيانات. وفي العاصمة الأمريكية واشنطن، تتعاون إدارة خدمات الإعاقة في مقاطعة كولومبيا مع الشركات المحلية لخلق فرص عمل للأفراد المصابين بالتوحُّد، وتوفير التدريب الوظيفي، وغير ذلك من أشكال الدعم لضمان نجاحهم

الرعاية الصحية: يمكن للمستشفيات وأقسام الطوارئ والعيادات خدمة المجتمع والتواصل مع ذوي التنوّع العصبي بشكل أفضل، وضمان التشخيص الدقيق والزيارات الفعَّالة والرعاية الفُضلى لجميع المرضى. ففي مدينة تورنتو الكندية، مثلًا، يقدِّم مستشفى “هولاند بلورفيو لإعادة تأهيل الأطفال” خدمات متخصصة لمرضى التوحُّد، وتشمل بيئات رعاية صحية صديقة للحواس وموظفين مدربين على تلبية الاحتياجات الفريدة. وفي مدينة لوس أنجلوس في ولاية كاليفورنيا، يقدِّم “مركز جامعة كاليفورنيا لأبحاث وعلاج التوحُّد” رعاية ودعمًا شاملين للأفراد المُصابين بالتوحُّد، بما في ذلك غرف فحص صديقة للحواس ورعاية منسقة عبر تخصصات متعددة

السلامة العامة: يجب أن يكون لدى المستجيبين الأوائل مثل رجال الشرطة والإسعاف وغيرهم من العاملين في أجهزة تطبيق القانون، التدريب والتجهيز اللازمين للتعامل مع الأشخاص المصابين بالتوحُّد، والاضطرابات الحسية الأخرى بطريقة إيجابية. وفي هذا الإطار، نذكر برنامج “تدريب التدخل في الأزمات” الذي وضعته إدارة الشرطة في مدينة سياتل في ولاية واشنطن، والذي يتضمن وحدات تدريبية للتعامل مع الأفراد المصابين بالتوحُّد، بحيث يساعد هذا التدريب الضباط على التعرُّف إلى علامات التوحُّد والاستجابة بشكل فعَّال أثناء حالات الطوارئ. بالإضافة إلى خدمة تقدِّمها شرطة مدينة لندن، وهي “بطاقة تنبيه التوحُّد” التي توفر معلومات عن حالة الفرد وأفضل طريقة للتواصل معه، وهو ما يساعد ضباط الشرطة والمستجيبين الأوائل على اتخاذ الإجراءات المناسبة

مجال الضيافة والترفيه: تحسين تجربة الضيوف من ذوي طيف التوحُّد وأُسرهم في مختلف المنشآت، مثل: الفنادق والمطاعم والمتنزهات. وذلك من خلال توفير التدريب اللازم للموظفين لتمكينهم من التعامل مع هذه الفئة بشكل أفضل، وتوفير بيئة ملائمة تلبي احتياجاتهم الخاصة. ومن جهة الترفيه، ستكون المتنزهات وأماكن الترفيه والمسارح ومراكز الترفيه العائلية والمعالم السياحية، قادرة على خدمة الضيوف من جميع الاحتياجات بشكل أفضل، ومساعدتهم على الاستمتاع بتجربتهم، وهو ما يسمح لهذه المنشآت بجذب وخدمة المزيد من الأُسر، بالإضافة إلى زيادة تمكين الموظفين فيها ورفع معنوياتهم. وكأمثلة ملهمة، نشير إلى ما أنشأته إمارة أبوظبي في الإمارات العربية المتحدة من “غرف حسية” في المراكز التجارية والمناطق الحيوية، بهدف توفير مساحات آمنة للأطفال أصحاب الهمم، لا سيَّما أطفال التوحُّد لتعزيز رفاهيتهم واندماجهم في الأماكن العامة. كما يمكن العودة إلى ما قدَّمته منشآت مثل “متحف أريزونا للتاريخ الطبيعي” في مدينة ميسا الأمريكية، الذي وفّر دليلًا للتأثير الحسي للغرف المختلفة ضمن المعرض، ولا سيَّما أن التحديات الحسية مثل الضوضاء غير المتوقعة والأضواء الساطعة والأماكن المزدحمة، هي التي تمثِّل التحدي الأكبر للأفراد المصابين بالتوحُّد. وعلى سبيل المثال، يُصنِّف هذا الدليل قاعة الديناصورات بـ5 من 10 لتحفيز الحواس الصوتية، و3 من 10 للمحفزات البصرية، و2 من 10 للمس، و1 فقط من 10 للشم والتذوق. ويمكن الاطلاع عليه إمِّا عبر الإنترنت، أو مشاهدته عند مدخل المعرض

نجاة الشافعي

مقال منشور في قافلة الزيت

عدد سبتمبر – أكتوبر | 2024