ديكنسون والهيدروجين

أحُس أني من كثرة قراءة شعر أميلي ديكنسون والكتب التي كتبت عنها قد تقمصت شخصيتها. هي تعتزل الناس وتكتفي بالنظر من نافذتها الصغيرة وأنا أيضا أغلق النوافذ والأبواب وأكتفي بالنظر إلى شاشة الكمبيوتر والجوال والآيباد. هي تكتب الشعر وأنا أيضا أهوى قراءة وكتابة الشعر ولدي هوايات أخرى: التطريز والكروشيه وإعداد الكعك والشاي مشروبي المفضل وعشقي الذي ليس له حدود

 

حتى بعد تقاعدي أستيقظ في السادسة كل صباح.  كل يوم أجلس على نفس الكرسي في غرفة المكتب. كالعادة الستارة مُنسدلة والغرفة معتمة ومصباح صغير يضيء المكتب. لا أفتح الستائر خشية أن يتسلل النور فيُعشي بصري. تتحسس عيناي من الضوء منذ أجريت عملية الليزر قبل خمس وعشرين سنة. لذلك أرتدي نظارة خاصة معتمة للنظر إلى شاشة الكمبيوتر. أضع كأس الشاي بالقرب مني على قطعة قماش مزخرفة بورود حمراء صنعتها بنفسي. أرتشفه على مهل ثم اشرب كأس ماء لأن ريقي يجف بعد شرب الشاي. الآن الكل يذهب للمقاهي ويتحدث عن القهوة ويضعون صورها في وسائل التواصل الاجتماعي لكني أكرهها منذ طفولتي. كانت أمي تمنعنا من شربها وتقول إنه عيب شربها للفتيات. البعض يسلط الأضواء هذه الأيام على شاي الكركك أي الشاي بالحليب وهذا أيضا أمقته حتى الثمالة فهو مجرد سائل حليبي له طعم مقزز. ما أفضله هو الشاي الأسود التقليدي شاي الوزة وليس أكياس الشاي. أغليه في الأبريق فيصبح أسودا محمرا أخلطه بقليل من الماء المغلي الصافي وكثير من السكر وأحيانا أضيف له بتلات من الورد الجوري لتعطيه طعم ماء ورد منعش

 

الشاي يعني لي إعادة برمجة مخي. عندما استيقظ من النوم رأسي يكون في دوامة يمتزج فيها الحلم بالحقيقة. عندما استيقن أنني في الواقع ابدأ أفكر فيما ينبغي علي إنجازه من مهام خلال اليوم. علقت على الثلاجة قائمة طويلة وجداول لأتذكر مهام اليوم والأسبوع والشهر والسنة. لا أستطيع أن أفكر أو أعمل أي شيء بدون أن أكتبه وأراه أمامي واتفحصه مليا. عملت من القائمة نسخة في الملاحظات على الجول لكي أستطيع الاطلاع عليها في أي مكان وفي أي وقت أشاء. كذلك صورت القائمة الورقية واحتفظت بها في البوم الصور في الجوال والآيباد والكمبيوتر. يؤرقني الزمن وضياعه وخاصة الآن في خريف عمري. الوقت طائر يجب اقتناصه قبل أن يفر من أيدينا. لذلك الساعات تملأ منزلنا يضعها أبي الذي يؤرقه مثلي الزمن في كل مكان. حتى في الحمام لدينا ساعة بيضاء معلقة على الجدار وأخرى وردية على شكل دجاجة

 

تعيش في هذه الفترة من حياتها بما يسمى بالإنجليزية “her own bubble” وهي عبارة ليس لها مرادف دقيق في العربية. يمكننا جزافا أن نترجمها إلى فقاعة أو قوقعة أو حيز. هي تسميها هالة أو حقل من حقول الطاقة مثل التي تحيط بالنواة في الذرات ويسبح فيها الالكترونات. كم عشقت الفيزياء وبالخصوص الذرات! ودت لو تسبح فيها للأبد. صنعت مجسما لذرة من كرة بيسبول خضراء وطلتها بالأزرق ثم أحضرت كرة تنس طاولة بيضاء صغيرة ولفتّ حول خصرها النحيف سلك نحاسي أوصلته بالكرة الخضراء. حملت المجسم ورأته زميلتها التي اعتمدت عليها لعمل المشروع فقطبت حاجبيها ونهرتها: "لماذا لم تتبعي ارشادات المدرسة لعمل المجسم كما أوضحت لنا عشرات المرات وعادت وزادت وكتبته على السبورة وكتبناه في كراريسنا. هي تريد ذرات بها أكثر من الكترون وأنت وضعت واحدا فقط!" أجبتها: "لكني أحب الهيدروجين! ذرة بها نيترون واحد ويطوف حولها الكترون واحد." واصلت زميلتها: "لكن هذا لن ينفع لدرسنا وسنأخذ صفر للمشروع! ثم طلاء المجسم يجب أن يكون الالكترون أحمرا ليمثل الطاقة التي به والنواة بيضاء وأنت لم تتقيدي بهذه الألوان". أحابتها: "لكن الإلكترون يطير بريشه الأبيض والنواة هي السماء والبحر التي يحلق فيهما." احتدت زميلتها قائلة:" خلاص، خلاص! خبئيه في كيسك وأعيديه إلى بيتك. لا تريه أحداً! سأقول للمدرسة أننا نسينا المجسم وسأعمل واحدا أحضره الحصة القادمة لنأخذ درجة عالية وليس صفرا". هززت رأسها بانكسار وحبست الدموع في عينيي

 

ما زالت أحتفظ بالمجسم أضعه على رف مقابل مكتبي. لا ولم يفهمني أحدا، زميلاتي ومدرسة العلوم ووالدتي. الهيدروجين أبسط العناصر وأهمها يدخل تقريبا في كل شيء. منه يتكون الماء الذي نشربه والهواء الذي نتنفسه. ترى كل الأشياء حية حتى الجمادات تتنفس وتتحدث بلغة خاصة بها. حتى الجسد في حالة تغير وكل الخلايا تتغير. خلايا تشيخ وخلايا تولد وخلايا تنقسم وخلايا تلتحم وخلايا تندمج تتغير كل يوم حركة دائمة متقنة. الالكترون يحلق كما هو الأمل في قصيدة أميلي ديكنسون: الأمل هو ذلك الكائن ذو الريش. الحروف والكلمات تدور في رأسي مثل الالكترونات والبروتونات وتباغتني وأنا جالسة ونائمة تقلقني قد تكون القصيده متعثرة ولادتها أو قيصريه أو سلسله أضع بجوار المجسم صندوقا أحتفظ فيه بريش الطيور كلما سرت ورأيت ريشة وضعتها في الصندوق. لقد امتلأ حتى رمته ربما أحتاج إلى آخر

 

دق جوالها فلم تجب كعادتها. جرت كرسيها المتحرك من خلف المكتب. اتجهت للمطبخ لتحضر لها أبريق آخر من الشاي على أمل أن تكتب قصيدة جديدة ستسميها ديكنسون والهيدروجين

 

نجاة الشافعي

11/7/2019