كيف صِرْتُ طَيْرَاً؟

كان قدري طيرا محبوسا في قارورة مغلقة بسدادة صدئة 

إن حاولتُ إخراجه بكسر الزجاجة يموت العصفور سريعاً 

وإن لم أحاول يختنق العصفور ويموت ببطء 

.ما بين شفير الحياة والموت يرقص قدري ضاحكا بسخرية لاذعة

I Became a Bird Painting

.كان قدري أن أُدفن حية في عرف وعادات جاهلية حديثة نسجتها لحى الرجال الكثيفة.كان قدري أن اسمي عورة، وجهي عورة، صوتي عورة، حديثي عورة، جلوسي عورة، وقوفي عورة، كلي عورة في عورة 

.كان قدري أن أُمنع من المشي على الأرض حرة طليقة لأن قدماي تُدنسها كلما سرت لوحدي بدون محرم أو قّدتُ مركبة

.كان قدري أن جسدي عيب وحرام يجب تغليفه وتعليبه في صندوق أسود لطائرة تحطمت في صحراء شاسعة سقطت أشلائها فوق خيمة مفقودة

 .كان قدري أن أصبر ثم أصبر ثم أصبر ولا أعترض ببنت شفة حتى يمِلُ مني الصبر وتلطمني غربتي على وجهي وقفاي

.وإن سولت لي نفسي وصدرت كلمة صريحة مني أو سؤال جريء أو ضحكة عالية أو حتى إبتسامة بريئة وجهوا لي أصابع الإتهام بقلة الحياء والإسترجال

كان قدري أن تُخنق طفولتي وتنعدم البراءة في صدري الغض المقبل على الحياة بشراهة، فالطفولة ملك للأولاد فقط. يلعبون في الطرقات الكرة. يتسلقون الأشجار ويقطفون الزهور ويداعبون العشب الندي. يعلقون صورهم ويتباهون بأسمائهم ويفتلون عضلاتهم وشواربهم. يلهون ويمرحون كما يشاؤون بدون حسيب أو رقيب  أما أنا فكل العيون ترصدني

أما الفتيات فتضمهن البيوت خلف الجدران ينظرن من ثقب بالباب أو من خلف ستائر الشبابيك للشارع المحرومات منه. يغسلن الصحون ويطبخن وينظفن ويكنزن أحلامهن كل صيف في إنتظار إستوائها عند الربيع. ويدرسن في المدرسة مناهج مختلفة عن الأولاد، مخصصة فقط للنساء لتحفظ كرامتهن وخصوصيتهن وقائمة المحرمات طويلة لا تنتهي: الأحذية الملونة والكعوب العالية وأطواق الشعر والقلائد وكل زينة وحتى المِرآة محرم إحضارها للمدرسة الخ.. بقي أن يحرِّموا الهواء الذي نتنفسه لأنه يختلط بالرئة والماء الذي نشربه لأنه يداعب الشفاه في طريقه إلى الحلق

كنت أختنق، أبكي، أتشظى حسرة وحزناً، وأتشنج وأشعر بالغثيان كلما أشتد الطوق حول رقبتي وحزها وكلما رغبت في تحدي العرف والمألوف. لكن بدء الداء يستشري لقد صدقتهم وكلنا صدقناهم. شعرنا كنساء بالفعل بالدونية، بالحقارة، بالضعف وبالإحتياج الدائم لهم. فهم المُنقِذون ونحن المُستَنقذون. إسترقاق بذخي لا يليق إلا بالعصر الجاهلي الحديث

الإعتراف سيد الأدلة وفضيلة من الفضائل. حقيقة الأمر أني ساهمت وغيري من النساء وشجعنا ذبحنا بسكين باردة في كل مناسبة. لا بل رقصنا على أشلائنا. لم اجرأ ولم أمتلك الشجاعة الكافية لفضح زيفهم. كنت ريشة ضعيفة مقابل طوفان البوم التي تنعق. لم أفتح فمي بالصراخ والرد عليهم وعلى إتهاماتهم المشرعة في وجوهنا ليلا ونهارا. كان منطقهم علكة يلوكونها بين أسنانهم الصفراء يمتصونها ثم يبصقونها في الشارع أو يلصقونها على الحائط. كنت مخطئة جدا. لم أستنكر أو أشجب. لم أقول لهم بصوت مزبد مرعد: كفى! كفاكم نفاقا! كفاكم ما تفعلون بنا! لسنا ضعيفات! لماذا تنظرون لنا بعين واحدة وتغمضون الأخرى! نحن مثلكم تماما لا فرق بيننا على الإطلاق

الكلام والحوار يدور في رأسي يترسب كالحجر في قاع حنجرتي ولا يخرج، أسمع بوضوح فحيح ردهم وتقريعهم كالطاعون الأسود وسيل من التهم المعلبة الجاهزة لكل من أرتد عن لوثتهم. لا منطق لديهم سوى الضجيج والهجوم الشرس. فقاعات صابون تنتفخ وتنتفخ ثم تنفجر بهواء فارغ

اتسأل بيني وبين نفسي لماذا لا أتخفى بزي أخي لأقود الدراجة، للعب بالكرة في صدر الطريق أو لمشاهدة مبارة لكرة القدم أشجع بها أبطالي الكرويين المفضلين. سرقت أحد أثوابه القديمة بدون أن يشعر وأبقيته في دولابي مع طاقيتة وغترته وعقاله. وعندما نام الجميع أوصدت باب غرفتي بالمفتاح. ربطت بقطعة قماش بيضاء صدري لكي يلتصق بظهري وأرتديت ثوبه. رائحته ملتصقة بالثوب منفرة قليلاً لكن بعد قليل أعتدتها وتوقفت حاسة الشم لدي. ثم رفعت شعري الأسود الفاحم بمشابك سوداء وإعتمرت الطاقية ثم الغترة الحمراء الملطخة بالبياض وأخيرا العقال الأسود .نظرت في المرآة المتسخة: "يا الله! لقد أصبحت أشبه أخي كثيرا!" لم أدرك ضخامة الشبه بيننا حتى تلك اللحظة. أبتسمت وضحكت كمن أكتشف سرا لذيذا. قلدت أيضا مشيته وسلوكه فأجدتها. وددت لو أوقظ أختي الكبرى في الغرفة المجاورة لأريها لكنني خفت أن تبوح بسري لأمي وأمي كعادتها الدائمة ستخبر أبي. فهي الكبرى  العاقلة وكل ما تخبرهم عني أنا الطائشة سوف يصدقونها بدون أدنى ريبة. وأخيرا رسمت شاربا أسودا بقلم الكحل ونظرت للمرأة: “نعم! أنا الآن رجل مثلهم!“ لقد أجدت التنكر. شعرت بالفخر وصفقت لنفسي. لماذا ننتظر الآخرون يصفقون لنا! وأطلقت على نفسي إسما. سميت نفسي وليد السعيد لأني ولدت من جديد وأشعر بالسعادة تغمر كياني تخرق روحي أطير حتى السماء السابعة

عزمت أن أخرج للشارع لأرى الأسفلت مبللا بالمطر في منتصف الليل. أراه بدون غطاء على وجهي. أمشي وأركض وألهو في غفلة منهم بدون أن أخدش حيائي أو أخدش حيائهم. أشم رائحة العشب والمطر والأرصفة والبيوت والناس. دق قلبي كمطرقة أسمع صوتها جليا. إزدادت سرعة تنفسي. شعرت بالإختناق. لا أستطيع إلتقاط أنفاسي. باغتني مغص شديد. إنها نفس الأعراض التي تنتابني عندما أدخل قاعة الإمتحان. لم أقدر على الخروج أو التحرك خطوة للأمام بل عدت للوراء وخر جسمي ممتقعا، مصفرا وجهي على كرسي منحني في غرفتي. شدتني القيود التي أعتدتها والأساور الذهبية للتسمر في مكاني تجللني الحيرة والخيبة والقلق. ماذا لو علموا بما أفكر فيه، بما يدور في رأسي ويقض مضجعي؟ كيف سأتصرف حينها؟ سأدعي أنني أسير وأنا نائمة لعلهم يغفرون لي مجرد التفكير بخرق قوانينهم الفولاذية

بدل أن أواجههم أو أخرج كسّرتُ تلك الليلة كل الدمى التي كان يجمح خيالي بها بعيدا فأمثل بها حكاية سندريلا وبيضاء الثلج وليلى الحمراء وزنوبيا وكليبوترا وبلقيس وأخيط لها الملابس المطرزة التي تليق بملكات وأدللها وأعتني بها، لويت أذرعتها جميعها ثم فصلت رؤوسها عن أجسادها، رميت بها على السجادة ودستها بقدمي، ووجوه النساء في الجرائد والمجلات رسمت لها كلها شوارب ولحى وفقأت أعينها. ابتلعت عبارات السب والشتائم القاذعة التي راودتني ودفنتها في مقبرة داخل رأسي. تمنيت لو أستطيع أن أطلقها كلها وشحن الغضب المترسبة في شراييني لتدمر نفاقهم وتفضح رجولته التي تستقوي على النساء فقط ولا تتجرأ أن تنتقد الواقع المر بكل تفاصيله المتناقضة لكني تعودت أن لا أشتم ولا أتذمر لأنني فتاة مهذبة جداً وعاقلة جدا

حددوا لي إطار المساحة التي أعيشها ضمنها، صندوق مجوهرات أزين بها جسداً شاءوا أن يكون رهينة منفراً أو مغرياً في زمن ومكان يختارونه، وعلبة مساحيق ألطخ بها وجهي وأُجَمِّلُ بها تشويه روحي، وأطلي قيودي بألوان ذهبية لكي أخدع نفسي وأقول أنها حلي أُهديت لي لتحفظني من الغواية، ودولاب ملابس تتصارع فيه ملابس فضفاضة تمحو خارطة الجسد وملابس ضيقة شفافة تسلط الضوء على كل النتوءات والتفاصيل، تبين أكثر مما تخفي، وكعوب عالية أتسلقها عندما نمثل كوميديا الحب السوداء

لكنني كنتُ دائما أشعر بأنياب القهر تمزق عقلي لأني في قرارة نفسي أعرف أني طاهرة منذ ولدتني أمي وأن لي إسم ووجه وعنوان وجسدي ليس عارا بل شمس دافئة، وأن لي حق في الحياة وممارستها مثلهم. شعرت بالغبن لأن الوطن يتسع للجميع ولا يتسع لأقدام وجسد أنثى! أصلا نحن النساء الوطن بأجمل تجلياته، بسهوله، بجباله، ببحره، بعشقه الناري، برمانه وعنبه، بزهرة مسكه، بفراشاته ونخله

في كل ليلة عندما أنام يخف جسدي من ثقله وكأن الجاذبية تنعدم شيئا فشيئا تتلاشى، وأعلو..أطير.. أطير.. أحلق عالياً. في البدء أشعر بالرهبة مخافة السقوط ثم أشعر بمتعة الطيران فالهواء يداعب ضفائري والسماء مبتهجة ترحب بي والسحب تسقيني رحيق المطر والنجوم تناديني لألعب معها الكرة.  تعمدت أن أنام طويلا كلما شعرت بالغبن والاحباط ليسكرني النوم ويأخذني إلى عالم يغمره النور والحرية كنت أتمنى أن لا أستيقظ لكن كنت أصحو من أحلامي مرة بعد أخرى والواقع كما هو بل أشد سوادا. لاحظت كلما زادت فترات نومي وهروبي من الواقع أشتدت مشاعري السلبية العدائية لكنها لم تتنفس بل كبتت واستحالت إلى إعصار داخلي يكتسح كل ثنايا الروح. تغيبت كثيرا عن المدرسة حتى فصلت منها لم أعد أهتم بشيء أو أطيق شيء حتى حبيبي السري الذي يحادثني متلصصا على الهاتف صرت أكرهه لأنه يذكرني بقمعهم وبترهم لأعضائي وأحلامي

 لا بل في مرة عندما أرتفع مستوى القهر في رأسي والكآبة في قلبي حاولت الانتحار لأغادر الزيف بدون عودة. ابتلعت أقراص علبة دواء كاملة لكن لسوء حظي أختي رأت العلبة فارغة وأخبرت أمي التي جاءت تصرخ وتندب: يا مجنونة! ماذا فعلتي بنفسك؟ لماذا هذه الفعلة الشنيعة؟ إن كنتِ تحبين أحدا أخبريني أكلم والدك ليتقدم لخطوبتك؟ لقد شوهتي سمعتنا بهذا الفعل السيء. الكل سيعلم ما فعلتِ وسينتشر الخبر على الملأ. لكنها لم تكن تعلم ولم أخبرها لأنها لن تفهم بأني كنت لا أحب أحدا ولكن أحب نفسي ونرجسيتي وأود أن أفقد حياتي لأني لا أطيق حياة الإماء. للأسف أخذوني سريعا للمستشفى وعالجوني. أعطوني محاليل اجبرتني على التقيء المستمر حتى آلمتني معدتي وضلوعي ورأسي وتجرح بلعومي من حموضه السائل اللزج المقزز الذى إندفع من داخلي. عندما عدت للمنزل رفض أبي التحدث إلي وأخي الأكبر عقابا لي لأني سودت وجههم أما أمي فصارت تبكي ليلا نهارا وتبتلع دموعها عندما تراني لتحدق بي بألم أما أنا فغدوت هيكلا عظميا وأمتنعت عن تناول الطعام والشراب بملء إرادتي

بعد أسبوع من تلك الحادثة واليأس يدب ويسري إلى عقلي. شعرت ببرودة نسيم هب من الشرق. بدأ يكسوني ريش نورس أبيض براق. أولاً شعرت بالعجب وتملكني الخوف الشديد. ماذا سأفعل وأنا مكسوة بالريش؟ سوف أنكشف وستسوء معاملتهم لي لأنني طير ضعيف لا حول له ولا قوة. فقد يذبحوني ويلتذون بأكل لحمي ويلقون بباقي أعضائي أو ربما يضعوني في قفص للفرجة والترفيه عن أنفسهم يسمعون زقزقتي ليطربون أو قد يجعلوني أرقص في حفلاتهم الماجنة وينظرون لريشي الملون كقوس قزح لتسعد غرائزهم المتهيجة

حسبته حلما لكنه لم يكن كذلك. أولا ذراعي اليمنى صارت جناحا أخفيتها بإرتداء ثياب فضفاضة بيضاء وأستخدمت يدي اليسرى للشرب والأكل والرسم. ثم عندما تحولت ذراعي اليسرى إلى جناح صار صعب جداً علي الإمساك بأي شيء فكلما أمسكت بملعقة أو قلم أو فرشاة سقطت فأبكي وأنتحب. وبعد محاولات فاشلة عديدة نجحت وشعرت بالفخر. بعد أسبوع تجاوزت المحنة الأولى لكن شعرت بحرارة حارقة في بلعومي. تحولت شفتاي، بدأتا تتصلبان وتتحدبان، نظرت في المرآة فرأيت منقارا صغيرا لبلبل جبلي قد ظهر لي. حاولت الكلام لكن لم أسمع سوى زقزقة جميلة آخاذة. سكتت لئلا يفتضح أمري. كيف سوف أتحدث وأجيب نداء أمي عندما تصرخ: “تعالي سريعا للمطبخ ساعديني! أو قومي حلي واجباتك! ثم مرت سبعة أيام أخر وعندها أختفت رجلاي وقدماي وظهر لي ذيل طاووس. ظهر لي ريش كثيف مثل لحاهم لكنه على عكسها جميل أملس ناعم براق طويل أزرق كالسماء وأخضر كالأشجار ومئات الألوان الفاقعة والدافئة والباردة. شعرت بالزهو ونفخت صدري لأني كنت أفتقدت رعشة اللون. أما أصابعي فصارت مخالب نسر قوية معقوفة تستطيع أن تلتقط طيرا صغيرا أو كبيرا وتصعد به إلى قمم الجبال الشاهقة لتسد رمقها وتطعم أطفالها

!أقتحمت النافذة بقوة. أخيرا حان وقت الطيران. صرت طيرا؟ صرت طيرا! صرت طيرا. لا أصدق نفسي لكنها الحقيقة

تحقق ما تمنيته خلال حياتي كلها. صرت امرأة ذات منقار بلبل جبلي وريش نورس بحري وذيل طاووس معجب بحسنه ومخالب نسر صحراوي. صارت تكسو جسدي الضئيل ألف ريشة وريشة. أملك مخالب حادة أدافع بها عن نفسي وأهاجم بها إن شئت. لدي عينا يمامة زرقاء تنفذ في أعماق البحار وتصعد إلى سقف الغيمات الماطرات. تستشعر أجنحتي الحب حتى من بعيد ولا تنفذ إليها سهام الكره والحقد والظلم. أهبط في الموانيء البعيدة على أشرعة السفن الغارقة، وأحيانا أحط في متاع عابرين يستسقون الماء وسنابل القمح فأسرقها منهم بدون أن يشعروا. نعمت بحياة هانئة لكن قصيرة جداً مثل شمعة أحترقت لتهدي روحها للآخر أو زهرة ذبلت وهي تمنح الحياة لمن أيتمها وهي طفلة. في موسم الخريف الماضي أشتد بي الحنين إلى الأرض لأني لم أعتد الحياة طويلا في السماء وبدت أهزل وأضعف، يتساقط ريشي، يتناثر، يحمله الهواء إلى مسافات بعيدة، تلتقطه أيدي الحالمين مثلي. وتنمو لي أصابع وأسنان وشفتان ويدان ورجلان وحنجرة. لم أستطع أن أهاجر إلى الجنوب مع بقية النوارس. فأغرقني الثلج وصقيع اليتم وحنظل الوحدة

.تحقق حلمي، صرت طيرا وحلقت بعيداً لكن لفترة قصيرة ثم نفقتُ عندما ضعفت قواي وتخلفتُ عن السرب

 في مقبرة الطيور أنا سعيدة أغني أحلامي وأمارس حريتي بين النوارس وعلى ذيل طاووس لم يهاجر. سأعود في قميص إمرأة أخرى. أحمل الشمس في يد والقمر في يد أخرى ومن شَعْرِي تنبثق كل ألوان الحياة. من مسته  النار سيذيب جليد المدن الممسوخة. من ذاق الخمرة لن يشرب الماء

نص ورسم: نجاة الشافعي

20/8/2015

النص من وحي لوحتي أعلاه "صِرتُ طَيراً “ وأيضاً من وحي النص النقدي الذي كتبه الناقد محمد العباس بعنوان قراءة في مجموعة "صدود" للشاعرة هيلينا بوبيرغ

 

ربما للحب زمن آخر

 

مكالمة مغتصبة. عانق صمتها صخبه بمودة. علقت خيوط شرنقتها الحريرية بشباكه. دعاها لمقابلة ضيوفه على عجل. أجابته باقتضاب بأنها تعبة ولن تستطيع أن تحضر. طلب منها أن تدعو الأخريات. أجابت بأنها مشغولة. خضب التوتر معالم صوته: "كما تشائين. سوف أتصل بك قريبا! باي!"  وقرَ نشيج البرد آذان حفله السفلي

أدركت أن وتراً ما قد أنقطع. شعرت بأن روحها هاجرت شمالاً فضلت طريقها إلى العش. انساب صوت أمها بعذوبة: "يا ابنتي اللي انكسر ما يتصلح! " تشظى قدرها فسيفساء كبتلات زهور القرنفل الجافة. مازالت باقات الزهور التي أهداها لها بمناسبة اسماها: (عيد الجنون) تحدق بها مليا

وصلتها منه رسالة الكترونية بعد شهر من الصوم. فضتها بتوق جناحي نحلة لهالات النور وسمرة الحقول لكن الأبجدية نفثت كل سمومها في صدرها. صفعها عرض شرائح سمج: ( فن التعامل مع الناس

انغرست بوصلة سفينة غارقة في راحة يدها وتدلت من أصابعها عقارب ساعة تآكل زمنها. داعبت ثمرة بطنها الناتئة برقة. مسحت شرايينها التي قفزت نافرة تحت جلدها المتغضن. يبدو أنها قد استوت قبل الأوان. أمطرها وابل من سكينة. دثرتها عنقاء الثلج بجناحيها. ربما للحب زمن آخر؟

أجمل باذنجانة زرقاء غريقة في العالم

إلى كل العراقيات والعراقيين في ذكرى الاحتلال الرابعة،

إلى كل من تسري في عروقها ويسرى في عروقه هوى العراق وعشق كل ذرة من ترابه الطاهر.

قبِض عليه قبل ثوان قليلة من تفجيره للقنبلة في المكتب البيضاوي بالمبنى الرئاسي. ذو الشعر الأشقر القصير والعيون الزرقاء البراقة يحل كل عقدة ولا يصل متأخرا أبداً. ينشد حبل “الأكشن” الرفيع حول عنق المشاهد. ينخلع قلبه من محجره. تنقسم الشاشة مرة أخرى إلى أربعة إطارات. يدور في كل منها حدث يتزامن مع الأخرى. سيارة مصفحة تحت حراسة مشددة تنقله للسجن. طائرة عسكرية خاصة تقل القيصر إلى خارج العاصمة. غرفة إدارة العمليات في حالة استنفار تام. باذنجانة زرقاء جميلة تفر إلى البحر.

مسلسل أربعة وعشرون ساعة تدور طاحونته في رأسها المتعب. تغفو قليلا ثم تستيقظ. يشتد الألم في أسفل ظهرها. تدير زر الكمادة الكهربائية لتسخن أكثر. تحاول أن تنام. تتقلب ذات اليمين وذات الشمال. تتصبب عرقاً. تنزلق إلى الأسفل. تهوي. تغرق. تغزو جوفها المياه المالحة. تتقاذفها الأمواج. يلفظها البحر. تتمدد على الشاطئ بدون حراك. تتفحصها عينان فضوليتان. ترتدي نظارات سميكة سوداء. تعتمر قبعة من القش. ربما تحسبها ماردة انطلقت من قمقم أو عروس بحر أغواها القدر. تصبح بطلة روايتها القادمة: “أجمل باذنجانة زرقاء غريقة في العالم” . تترجم لكل اللغات. يكرمون الكاتبة ثم يحرقونها ويذرون رمادها في البحر.

تحب الباذنجان كثيرا لا بل تعشقه. تعده بطريقة شهية جدا. تستمتع بطهيه كما تتلذذ برائحته وطعمه الرائع. المتبل والمسقعة ومحشي الباذنجان وشيخ المحشي والدولمة والمقلوبة ومرقة الباذنجان والباذنجان بالصلصة البيضاء ومكدوس الباذنجان وطرشي الباذنجان والباذنجان على الطريقة اليونانية ومربى الباذنجان وسندويتشات الباذنجان المقلية كلها أطباقها المفضلة وضيوف مائدتها الدائمين. طالما تمنت لو كان لديها رأسمال كافٍ لتفتح مطعما يعد وجبات شعبية فقط بالباذنجان لكن ما باليد حيلة فزوجها قد وظف كل مدخراتهم في سوق الأسهم وخسرها. موردهم الوحيد الآن هو مرتبه الحكومي الذي ينقرض عند منتصف كل شهر. تواجهها في المنزل مشكلة معقدة. أبنها الأصغر يكره الباذنجان بينما الأكبر يعشقه مثلها ويكرر دائماً: “ماما أموت في الباذنجان.” الأصغر يأكله على مضض. ضبطته ذات مرة يلتهم اللحم المفروم ويلقي بالباذنجان. الأكبر يصر على أن تعد لهم الباذنجان على الغذاء أو العشاء أما الأصغر فيبكي بحرقة ويصرخ محتجا: “لا! لا! أبغى بتاتس ودزاز” –يقصد بطاطس ودجاج.

في غرفة التحقيق كبلوه بالسلاسل. مرت أربع وعشرين ساعة متواصلة. حرموه من الطعام والشراب. لم يذق طعم الراحة. هريكليز ينهال عليه بالضرب المبرح. يتوقف لبرهة. يلتقط أنفاسه. ينظر إليه شزرا. المترجم يتحدث بعربية ركيكة:”ستندم على ما فألته مستر سبارتوكوس”. يتواصل السب والضرب. يريه شريط فيديو حيث يجلس أولاده الأربعة على الأرض مقيدي الأيدي. يحيط بهم جند مدججين بالأسلحة. يعلو صوت نحيبهم. “من أرسلك؟ من مأك؟ أين سنأتم الكنابل؟ أين الباكي؟ تكلم أم نكتلهم أمام أينك واهد واهد!” ثم يرقق أسلوبه ويغريه بنعومة: “تكلم أشان تسير شاهد ولن نكتلك راه نأتيك حك لجوء سياسي وجنسية ونجيب ولاد وزوجة.” أخيرا ينهار: “لا! لا! أتوسل إليكم لا تقتلوهم! ليس لهم أي ذنب! أنهم مجرد أطفال!” واصل اعترافاته الخطيرة. خرج هركليز من الغرفة المعتمة. تنفس الصعداء. قهقه بصوت عالٍ: “الغبي لقد انطلت عليه الحيلة!” حدث زميله ساخرا. “الفيلم مفبرك. أخرجه فرانكشتين، أفضل مخرجي أفلام الأكشين في هوليود.” سقطت الشبكة في قبضة العدالة الحديدية وسيقت الخفافيش زمراً لغرف الإعدام.

أحب أن أنعم بقيلولة قصيرة بعد الغذاء. يتسمر أطفالي حول التلفاز لمشاهدة الرسوم المتحركة في محطة سبيستوون. أتسلل خلسة على أطراف أصابعي لغرفة النوم. أغلق الباب بالمفتاح. أغفو. مسلسل أربع وعشرون ساعة عالق في ذهني. أربعة مشاهد تطاردني. تستحوذ على مشاعري. هريكليز يقهقه بعد أن أنتصر على الشر. زوجي ينام على الأريكة في غرفة المكتب. الصالة حيث يشاهد أطفالي الأربعة التلفاز. باذنجانة زرقاء يغالبها النعاس. تتسارع دفة الأحداث. ينتهي مسلسل توم وجيري. يكتشفون غيابي. يندفعون إلى غرفة النوم. يطرقون الباب. يتزايد طرقهم شدة وإلحاحا. يواصلون الطرق. يركلون الباب بأقدامهم. يدفعونه بأيديهم وأجسادهم. يعلو عوائهم. أمقتهم. أكره نفسي. أسارع بالنهوض لأن الباب على وشك السقوط. حتماً سيستيقظ والدهم من قيلولته وسيوبخني كعادته.

قمت رغماً عن أنفي. سأقوم بتحفيظهم دروسهم وحل واجباتهم. كان أمر العشاء يقلقني أيضا. “يا ترى ماذا سأطعمهم؟” تذكرت لدي في الثلاجة كيلو باذنجان أسود لذلك سأعد لهم متبلا للعشاء فهو لا يستغرق وقتا طويلا وسأقلي بعض البطاطس إرضاء لابني الصغير. أما والدهم فسيتعشى في الخارج كعادته. يبقى أن أحممهم ثم أقرأ لهم قصتهم المفضلة غرايندايزر. حين ينامون سأستمتع بمشاهدة مسلسلي المفضل وحدي ثم أخلد للنوم.

19 مارس 2007 م

في الذكرى الرابعة لاحتلال العراق

ماراثون العيد

.حمى أصابت جوالي فأصبح ينتفض بلا إنقطاع

.سيل لا ينتهي من التهاني بالعيد

. أنا لا أجيد الركض في ماراثون العيد

:ماذا أرد عليهم؟ أأقول الحقيقة

“!أن العيد لم يأتي بعد”

:أو أتحداهم وأقول

“!دلوني علي قميصه إن أستطعتم”

.جبنتُ عن تحدي القطيع

:أرسلتُ لهم

“!عيدكم مبارك. تصبحون على خير”

٢٤ اكتوبر ٢٠٠٦م 

ثاني أيام عيد الفطر السعيد

رسم نجاة الشافعي

رسم نجاة الشافعي

الضوء في آخر النفق

 1

سارا في النفق المعتم يتخبطان كانا وحيدان جداً توقفا برهة لإلتقاط أنفاسهما

قال: هل ترين ضوءا في آخر النفق؟

قالت: لا أرى شيئاً!

قال: تمعني جيدا لتريه!

قالت: ما زلت لا أرى شيئاً!!

قال: أرتدي نظارتك لتريه!!

قالت: لا فائدة لا أرى شيئاً!!!

قال: جربي أن تغمضي عينيك لعلك تريه!!!

قالت: أجل أجل لقد رأيته الآن، أراه بوضوح!!!!

وانطلقا يمشيان في النفق هو يمسك بيدها وهي تدله على الطريق، وشيئاً فشيئاً أتسعت دائرة الضوء التي تحيط بهما ثم غمرهما تدفق نوراني هائل.

كنت أغادر المنزل أحياناً عند العصر إما لشراء الآيس كريم من أبو أحمد في محل البقالة الصغيرة المقابل لبيتنا أو لزيارة بيت الجيران للعب مع صديقتي وديعة وكنت في بعض الأحيان أرى امرأة تلتحف بعبائتها السوداء وتسدل الغطاء على وجهها وتمسك بيد رجل عجوز أعمى متكأ على عكازه الخشبي عيناه بهما بياض شاسع غطى على السواد، تسير مهرولة به وقامته تتهادى للأمام والخلف ثم تقطع الشارع العام حتى تختفي عن ناظري. كنت أشاهد هذا المنظر فأتأثر بشدة وأكاد أبكي في داخلي لوفاء تلك المرأة النادر وتضحيتها واتسأل في قرارة نفسي من تكون تلك المرأة؟ هل هي أبنته أم أخته أم زوجته ؟ لماذا تسير بعجلة؟ وإلى أين تقوده؟ وتكرر ذلك المنظر في طفولتي المبكرة ورسخ في ذاكرتي كصورة من صور التضحية والوفاء والآن عندما أسترجع ذلك المشهد يراودني سؤال ملح: لو كانت تلك المرأة هي العمياء هل سيقودها ذلك الرجل سواء كان أبوها أو أخوها أو زوجها ؟ لكن كنت أستعيذ بعدها من الشيطان لأن لو تفتح باباً للشيطان.

3

حدثتني عمتي قبل عدة سنوات ليست بالقليلة عن زوج جدتي لأبي الذي تزوج امرأة عمياء كان هو رجل طاعن في السن وكانت هي شابة في أواخر العشرينات لم يتقدم أحد لخطبتها لأنها ولدت من بطن أمها وهي عمياء لذلك لم تفتقد العالم الخارجي لأنها منذ صغرها كانت تعيش في عالم آخر نسجته بنفسها وسنين عمرها الغض سكب عليها نفط أسود غليظ فالتصقت ببعضها البعض فلم تعد تميز بين واحدة وأخرى عمتي تقول أنه بعد زواجهما بدت الفتاة سعيدة وكانت تقوم بحقوقها وواجباتها الزوجية على أتم وجه تطبخ وتكنس وتغسل الملابس وتعتني بزوجها لكن لا تخرج من البيت على الإطلاق وحتى زوجها أقعده المرض وظل حبيس الفراش حتى توفي لكن تتوقف عن ذاك الحد لأنها لا تعلم عن المرأة شيئا بعد ذلك سوى أن أهلها جاءوا وأعادوها لعالمها ثانية.

4

من أفضل ألعابي وأحبها إلى نفسي عندما كنت طفلة صغيرة كان أن أغمض كلتا عينيي بقوة ثم أضغط على جفنيي بأصبعي السبابة والإبهام فأرى أشكالا وزخارفا وألوانا عديدة، في البدء تتداخل الصور فيما بينها فلا أميزها كشعور من يلج نفقاً معتماً بعد أن كان في الضوء الساطع، ثم تتضح الرؤية أمامي شيئا فشيئا بعد أن تعتاد عيناي على الظلام فتغمرني السعادة للصور الزاهية التي أراها، أرى سماء واسعة وطيورا وفراشات أحلق معها، وأرى قصورا ضخمة واحدا منها لي وحدي أتجول في غرفة الواسعة ثم أصل لغرفتي التي تحوي أثاث فخم لم يره أحد من قبل وسريري مفروش بريش النعام لأتزحلق عليه وأنام أيضا وخزانات ملابسي ضخمة بحجم المحلات التي في الأسواق وبها ملابس على أحدث الموضات العالمية وتتوسط الغرفة مرآة كبيرة مرصعة حوافها بالذهب ولدي من الحلي جميلة ذهب وفضة وألماس ومجوهرات ما لا يعد ولا يحصى وفي الركن ثلاجة كبيرة أو حتى بقالة صغيرة كبقالة أبو أحمد بها كل ما تشتهيه نفسي من شوكولاته وحلويات وكعك وأيس كريم ومكسرات وعصيرات ومشروبات غازية، وأرى فارساً شهماً على حصان أبيض يختطفني بين ذراعيه ويقيم لي حفل زواج أسطوري كزواج ديانا سبنسر أو حتى أفضل منه فتعم الاحتفالات أرجاء المملكة وتمد الولائم عشرة أيام بلياليها لعامة الشعب، وأرى أني أصبحت سيدة منزل أنيقة لي أبنتان وولدان مطيعان أدير مؤسستي الخاصة وأسافر في كل شهر لعقد الصفقات مع كبار المؤسسات في الخارج لكن سرعان ما تنتشلني من أحلامي الوردية كلمات أمي السوداء وهي تناديني بأعلى صوتها: “هيا تعالي بسرعة! هل أنت عمياء! ألا ترين شيئا لقد أتسخت ملابس أخاك بالحليب! تعالي أمسكي بالزجاجة وأسقيه الحليب هو لا يجيد إمساكها لوحده، هيا أسرعي إنه ما زال يبكي جائعاً! وبعد أن تنتهين من إطعامه خذيه للحمام!

 

 4/10/2006