أمي والكتاب

 أمي في السبعينات من عمرها المبارك. تمكثُ في البيت طوال الوقت. تذهبُ فقط مرة واحدة في الشهر للمستشفى إن احتاجت ذلك. ننقلها على كرسي متحرك أنا وأخي والخادمة

 كنت أجلس قبالها على أريكة طويلة مغطاة بملائة صوفية أقرأ كتابا. غرقتُ في صفحاته ونسيت وجودها بالقرب مني. ايقظتني بصوت عالٍ لأنها لا تسمع جيدا فترفع صوتها عندما تتحدث. قالت بحسرة وهي تتنهد 

-أشعر بالملل الشديد! لم يزرني أحد اليوم! الدقائق طويلة كنجوم في السماء أعدها ولا تنتهي

ثم باغتتني بسؤال لم تسأله من قبل 

-ألا تشعرين بالملل! أنت لا تخرجين من المنزل مثلي! تحبسين نفسك في غرفتك طول الوقت 

رفعت صوتي لأن سمعها ثقيل

لا، ماما 

ماذا تفعلين

أقرأ 

ماذا تقرئين 

كتب مختلفة، قصص، روايات، شعر، مسرحيات، كتب علمية 

لماذا 

أستفيد واستمتع بذلك 

والناس! لا ترين الناس 

الكتب أحسن! حتى في الكتب يوجد ناس

لكن الناس في الحياة يتحدثون معنا ويأنسون وحدتنا. يشاركوننا همومنا وأتراحنا

نفس الشيء في الكتب 

نفس الشيء. غريبة 

الكتب أيضا كتبها الناس! يقرأها الناس وعن حياة الناس! الناس يتحدثون عن طريق الحروف ونسمعهم في أذهاننا 

كيف 

خلاص! ماما! الكتب تُسلينّي! لا أحب الناس إلا في الكتب! لا يضرون ولا ينفعون 

أمي لا تستطيع الكتابة والقراءة لأنها لم تذهب للمدرسة. هزتني اسئلتها كورقة شجر مصفرة ترتعش في بداية الخريف. سيل متواصلة من الأسئلة الحادة شعرت بالصعوبة في الإجابة عليها لأنها سهلة ممتنعة. كانت مثل طفل فضولي يستكشف عالما آخرا جديد عليه، وأنا كنتُ أمه التي تحاول أن تروي ظمأه، وعندما تنزعج تحتد معه ليسكت ويدعها تكمل عملها.

واصلت حديثها وتهدج صوتها بأسى 

-أتعلمين أني حزينة وغاضبة

ماما، سيأتون لزيارتك! اليوم مشغولون. أمس جاءوا وغدا سيأتون 

لا! لا! 

إذاً، ما الذي يُزعجكِ 

أبي! أبي

جدي! لنقرأ له الفاتحة 

لن اقرأ له الفاتحة 

-لكن كلما نذكره نقرأ له الفاتحة

لم يسجلني في المدرسة! لم أتعلم القراءة! صديقاتي ذهبن وأنا لم أذهب. هو السبب 

سأقرأ لك من كُتبي إن أحببتِ 

لا أريد شيئا! لن أسامحه 

لماذا لم يسجلكِ وخالاتي في المدرسة 

فتحوا مدرسة في حيِّنا بالجوار من منزلنا! كنت اسمع صوت الجرس يدق في بداية اليوم وعند بداية الحصص ونهاية الدوام! قلت له أود أن أتعلم كأقراني فسكت ولم يجبني 

ثم ماذا فعلتِ 

كررت الطلب منه عشرات المرات وكل مرة لا يجيب فيئستُ وسكت مثله! سألتُ أمي فقالت إنه كان يخاف علينا أنا وأخواتي! كان متديناً! خاف إذا تعلمنا أن نتحرر مثل بعض بنات الحي ونختلط بالرجال أو نصير سافرات 

إذاً كان يحميكن 

تهدج صوتها 

لا! بل دمرّنا 

سكتنا كأنّ على رأسينا جثة طائر مخنوق. أمي غرقت في عالمها وأنا واصلت القراءة. باغتتني

أحضري كتابك لأراه

قمت. وضعتُ الكتاب في حضنها. أمسكته بلطف. قلبته بأصابع يدها اليمنى. يدها اليسرى بعد الجلطة لا تحركها كثيرا. نظرت له بتمعن 

جميل شكله! جميل 

أضافت بصوت هادئ

مصقول الورق. ناعم ملمسه كجنين ولد للتو من بطن أمه. مطرز بنقوش خضاب أسود على دانتيلا بيضاء. رائحته مختلفة

إنه جديد! ابتعته من متجر الكتروني! رائحة الحبر والورق ممتزجتان! مثل البخور عندما يحترق ويختلط بالهواء فيجعله عذبا

أريني الصور 

ليس به صور 

تضايقت وبان على ملامح وجهها الانزعاج. دموعي انحبست في داخلي 

-لا يهم! لا داعٍ! أديري التلفاز! أشعر بالحر! أطفئي المدفئة 

فاجأتها في عيد الأم. اشتريت لها مجموعة كتب للأطفال بها صور ملونة. اصطنعتْ إنها فرحت بها. وضعتها بجانب كرسيها المتحرك ولم تنظر إليها. فقط تتابع الأخبار في التلفاز وتنتظر زيارة أخوتي لها