Najat Alshafie نجاة الشافعي

View Original

الحوت الأزرق في اليوم الأسود


قراءة لرواية "الحوت" للكاتب خالد سعيد الداموك

كتبتها: نجاة الشافعي

 

كيف للموتِ الذي حلّ ضيفاً ثقيلاً في قرية مجهولة على الخريطة على شكلِ حوتٍ نافق ظهرَ على الشاطئ يوما ما أن يخلق الحياة، وأن يُطلقَ أسرابَ الأمل في سمائها، وهذا ما استهلت به الرواية عندما صورت بطريقة ساخرة "الطيور القادمة من الشمس[1]" التي تقذف فضلاتها على رؤوس البشر؟ وكيف صَنَعَ الموتُ أهميةً لقرية صغيرة لم يسمع بها أحد فَبَرَزَ وجودها للآخرين؟ وكيف يكون للموت مفعولاً عجيباً فيُخرج ما هو مدفون في نفوس الناس من خير وشرور؟

   

هذا ما يكشفه لنا الساردُ، وهو الراوي العليم، في رواية "الحوت" حيث تصبح قرية ساحلية قرية الحجر محوراً لحدث غريب، وتصير معلماً سياحياً يقصده الناس من القرى المجاورة، وتصبح محط اهتمام العاصمة، فيأتيها المصورون والصحفيون، ووفدٌ عالي المستوى يرأسه بروفيسور أجنبي "الرجل ذو الأنف الأحمر[2]" ومساعديه الأجانب

 

الحوت الذي انتحر على الشاطئ أنعش الأمل في نفس الشاب جبران العاطل عن العمل بأن يصبح تاجراً ثرياً عندما يستخرج العنبر منه ليثبت لأمه إنه ليس بالعالة عليها، وليثبت لنفسه إنه رجل كأبيه الذي ابتلعه البحر في إحدى رحلاته التجارية، وكأن البحر الغادر الذي أغرق أباه وَهَبَه بالمقابل الحوت الميت ليغير حياته للأفضل. يرافق جبران في كفاحه فتى آخر اسمه راشد الذي ولد وفي فمه ملعقة من الذهب، ونشأ غيرَ صالحٍ للتعلم كأقرانه في الكِّتاب أو للعمل في دكان والده التاجر المتسلط "الجبرتي". راشد أراد أن يتمرد على أبيه ويتزوج الفتاة التي يهيم بها فذهب مع جبران لسرقة العنبر، ومن المفارقات إن الحوت الميت جددّ الأمل في نفس الجبرتي والد راشد الذي يريد أن يعالج ضعفه بأكله لحمه ليتزوج أم جبران وينجب ابناً يحقق أمله في الحياة، وليس كابنه الفاشل راشد

 

الحوتُ كان نافذة الأمل أيضاً "لحسن الداشر" السيء السيرة ليُبرِزَ سلطته في حمايته، والذود عنه بدمه لأنه من ممتلكات قريته وليس مباحاً أو مشاعاً لغيرها، وبالخصوص لقرية بني ملال المجاورة. لم يكن الحوت أملاً فقط للأفراد، بل للقرية المجهولة كاملة لكي تدخل التاريخ وتُعرَف بين البلدان، القرية التي نفقَ فيها الحوت ليستدلّ الجميع إنها وأهلها موجودون على وجه الخريطة

 

قراءتي لرواية "الحوت" ستتضمن التركيز على أسلوب السخرية في النص الروائي لسبر مكنوناته، حيث وَظَّفَه الروائي كأداةٍ لرسم الشخصيات، وتطور الأحداث، وإبراز مكامن الصراع، وايصال المعنى للقارئ. الرواية مشحونةٌ بجرعات مُفرِطة من السخرية تتضح في الحبكة الدرامية، وأسماء وصفات الشخصيات، والحوار فيما بينها. فعلى مستوى الحبكة الدرامية فإنه لمن سخرية القدر أن يستلقي حوتاً منتحراً على شاطئ قرية صغيرة ليذيع صيتُ هذه القرية وليؤجج رغبات وطموحات أهلها، بعضهم بالثراء من بيع العنبر أو أن يتقوى أحدهم بأكل لحمه أو يشبعوا بطونهم، وفي آخر الرواية تبدد أحلام أهل القرية فالحوت هو الحوتُ الأزرق وليس حوت العنبر كما يخبرهم البروفيسور الأجنبي، ويضحك مع فريقه عليهم مستهزئين من سذاجتهم وجهلهم

 

وعلى مستوى انتقاء أسماء الشخصيات الرئيسية والفرعية فيطلق الروائي أسماءً ساخرة على بعضهم ليدُّل على سماتهم الشخصية أو يبرز تناقضا معيناً أو يشير لحالة ما. فمثلاً، "حسن الداشر" الذي اسمهُ "حسن" وخلقه سيء و"داشر" في العامية تعني الشخص السيء، ويَصِفُ السارد الداشر السيء ودفاعه المستميت عن الحوت مقابل اعتداء أهل القرية المجاورة بشكل هزلي ساخر: "رجلٌ يعلق على عنقِه قطعة من الجلد المُسدَل على صدره وبطنه حتى تصل الى ركبتيه ويمسك في يده سكينا طويلة." [3]

 

وهناك شخصية "الملا بركات" خبير بالعلاج بالعطور والأعشاب لكن لا تسري بركة علاجاته للجبرتي، ولم ينفعه ما يعطيه من أعشاب مقوية، ويسخر غاضباً راشد ابن الجبرتي من شوارب الملا بركات وهي من علامات الرجولة في المجتمع الشرقي عندما حاول والده اجباره على الزواج من ابنته فيتندر مستهجناً: "ماذا؟! نظر إليهم وعيناه تكادان تخرجان: "ابنة الكلب ذي الشوارب القذرة؟![4]" ويصف السارد حال راشد: "يلعنُ والده ويلعن الملا بركات وشواربه النتنة ويلعن ابنته... كان يقول لنفسه: "ويبقى ذلك الشارب القذر عمي طوال العمر؟!" [5] ومن الجدير بالذكر إن وصف راشد الساخر لشوارب الملا بركات يتسق مع وصف السارد لها كصفة مميزة فيه بطريقة هزلية عندما تحدث عنه وهو داخل لدكان الجبرتي: "فإذا بالملا بركات ينتصب أمامه بهيكله الضخم وشواربه الكثة تتراقص مع تحيته".. "حرك الملا شفتيه الغليظتين تحت شاربه وهو يمسح عليه مستشعراً ما قاله الجبرتي".. همهم الملا بركات وشاربه يتراقص على شفتيه وأعاد حديثه عن تزويج راشد." [6]

 

أما "راشد" فهو لم يبلغ الرشد أو النضج لأنه لم ينفع نفسه بالتعلم في الكِّتاب أو أباه بتحمل مسؤولية العمل معه في الدكان، ويريد أن يتزوج بفتاة فقيرة جميلة لا تناسب مستواه الطبقي، ويلوم والده نفسه على تسميته راشد فيقول: "ولأزيد خيبتي أسميته راشد! من أين سيأتيه الرشاد وهو لا يملك عقل بعوضة[7]؟!" ويسهب السارد في وصف خيبة أمل الجبرتي في ابنه حين يصفه بين الأصغر منه من أقرانه في الكِّتَاب لحفظ القرآن: "ظل يدب كدودة حتي بلغ الخامسة عشرة.. كان يجلس بين الصبية الصغار بقامته الطويلة كعود من قصب بين شجيرات طماطم أو فجل أو حتى بطاطا لا تظهر ثمارها على الأرض.[8]" ويصف أبوه أسنانه بسبب التدخين هازئاً وهو يتحدث مع الملا بركات عنه: "أسنانه صفراء كحبوب الذرة"، ويسخر منه لأنه لا يجيد التجارة في موقف يعكس الألم والحزن في نفس الوقت حين احتفلوا في القرية بِمَنْ أنهوا حفظهم للقرآن: "كانت أفواج الحافظين تطوف القرية في موكب مثير يهزج بالأناشيد وهو يستقبل الساخرين أو المتلمقين.. لن ينسى ذلك اليوم السيء. ظل فيه لأسبوع يداري خيبته أمام الناس مدعياً أن ابنه خُلق للتجارة كما خلق هو لها"[9]

 

ويوضح السارد خيبة أمل الجبرتي في زوجته: "التي لم تتوقف بعدها عن وضع البنات الواحدة تلو الأخرى حتى امتلأ بيته بمستلزمات النساء." واطلقت زوجته اسم "يمنى" على آخر البنات الذي يوحي بالخير لكنه على العكس من ذلك محبطاً لا يشعر بالسعادة لأنه يرغب أن تنجب له ولداً آخرا

 

وبالإضافة إلى هذا تحفل الرواية بالكثير من الأوصاف الساخرة للشخصيات والمواقف التي تجمع بينها والحوارات الساخرة، وشدّ انتباهي سخريته من رموز السلطة وفرض النظام، وبالخصوص المأمور والعريف عوض وابنه والمتعالون على أهل القرية كالمصّور الأجنبي والقادمون من العاصمة وطريقة لبسهم الغريبة، والبروفيسور الأجنبي وطريقة حديثه ومعاملته للمأمور، فمثلاً، يصف مشي المصور الاجنبي حين تسلخ جلده بطريقة هزلية: "كان يمشي بين الناس كمن تغوط على نفسه

 

وقسم آخر من الشخصيات المحورية مثل الجبرتي وجبران، سماها الروائي ساخراً لتعكس سمات بارزة مثلاً: "الجبرتي" الأب والزوج المتسلط المتكبر الذي يجبر ابنه على ما يريده له من تعليم ومهنة وزوجة، ويجبر زوجته وبناته على طاعته المطلقة، ويجبر صَبِّيه "نوفل" أن يسرق له من لحم الحوت، ويجبر الناس على الدفع له، وجبران الذي يدل اسمه على الإصلاح أو التعويض وهو يحاول أن يُصلِح حاله بسرقة العنبر من الحوت رغم عدم شرعية ذلك فينتهز الفرصة ويتسلل تحت جنح الظلام

 

ومن الملاحظ إن عدم تسمية الداموك لبعض الشخصيات له دلالة أيضا، إما لأنها شخصيات فرعية جداً وذكرت لمرة واحدة مثل رئيس الميناء وشيخ الكّتاب والمصور الأجنبي أو لأن الشخصية تمثل رمزاً وليس فرداً، فالمأمور من منظور الراوي رمز للسلطة السياسية، وكذلك لم يسمي الراوي من ليس لهم سلطة من منظور ذكوري مثل زوجة الجبرتي وبناته ما عدا ابنته الصغيرة التي سمتها أمها يمنى؛ فلم يكن لهن أسماء لأنهن كنساء مهمشات في مجتمع القرية، وعليهن تلبية أوامر الجبرتي فعندما عزم على تزويج ابنه اعترضت الأم قليلاً ثم أقرت بما أمر به زوجها، وحتى أم جبران الذي يطمح أن يتزوجها نُسِبَ اسمها لولدها؛ أما "سكينة" ابنة الفقير "فرج الله" التي طمح راشد في الزواج منها فبالعكس تسمى سكينة لتدل على سكون واستقرار نفسه بحبها ولتظهر وجهة نظر السارد التي مَثَّلَها راشد قائلا: "الفقر ليس عيباً

 

السخرية التي وظفها الداموك أبرزت التناقضات والصراعات في الرواية على مستويات متعددة، فهناك صراع داخلي في نفوس الشابين جبران وراشد كي يحققا أهدافهما و يثبتا ذواتهما أمام أنفسهما والآخرين، وصراع الجبرتي لإثبات قدرته على انجاب الابن الذي يحمل اسمه ويعينه في تجارته ويُشَّرِفه أمام الناس، وعلى مستوى آخر الصراع الخارجي مع الحوت النافق الذي يمثل الصراع مع الطبيعة لاستخراج والاستفادة من العنبر. أما الصراع الخارجي مع الآخرين فيتعدد المحاور، فأوله صراع خارجي طبقي بين التاجر والفقير الذي يود ابن التاجر الزواج من ابنته فيوبخ الجبرتي ابنه راشد :"ألم تجد رجلاً ترتبط به سوى هذا المعدم! ويجيبه ابنه "الفقر ليس عيبا"[10] وصراع مع السلطة بشكلها الأبوي والأمومي، وأهم أشكال الصراع الذي تم التركيز عليه في الرواية هو الصراع بشكله السياسي ممثلاً في المأمور الذي أبرزه السارد بشخصية هزلية ضعيفة وخائفة ومحاولته فرض سلطته على مجتمع القرية بسلاحه القديم المهترئ، وما يمثله من رمزية ليحمي الحوت الذي هو ليس ملكاً للقرية بل للدولة فيُرسِل برقية وينتظر الأوامر التي سوف تصله، حتى وإن فَسِدَ لحم الحوت. ويتبلور أيضا صراع مع الأجنبي ممثلا بالبروفيسور، وصراع بين المركز القوي وهو العاصمة من جانب والأطراف المهمشة الممثلة بالقرية البسيطة من جانب آخر، وصراع القرية نفسها مع قرية مجاورة منافسة لها وهذا ينعكس في شخصية الداشر والذي يمثل شخصية غير محترمة في مجتمعه وخارج عن قيمه لكنه يدافع في نفس الوقت عما يراه حقاً لقريته بقوة ذراعه لأن الحوت وُجِدَ على أرضها. ويلعب كُلّا من نوعي الصراع الداخلي والخارجي دوراً مهماً ينضج رؤيتنا للشخصيات، ويدفع بالحبكة القصصية إلى ذروة الحدث وثم الحل

 

وفي الخاتمة تبرز محورية الرغبات الفردية التي تراكمت جمعيّاً، واندكت في حالة مجتمعية تم تفريغها بشكل معلن وقاسٍ على رموز السلطة الممثلة بالأب والملا والمأمور والعريف والبروفيسور الأجنبي فكانت حالة تمرد شاملة على ما في داخل الذات الإنسانية من خوف وطاعة وانصياع للسلطة، ويصف السارد هذه الحالة: "كان الوضع متفجراً وسريعاً يلامس رغباتٍ مكنونة، كلهم شاركوا في نهش الحوت. وقبل نهاية النهار، كان الحوتُ هيكلاً عظميّاً ملقىً على الشاطئ."[11]

 

طرحت فيما سبق لمحات من توظيف للسخرية على مستوى الشكل والمضمون كأداة فعَّالة لرسم الشخصيات، وتطور الأحداث، وإبراز مكامن الصراع، وبالتالي ايصال المعنى للقارئ، وتحتاج الرواية لعدة قراءات، ومساحة أوسع للتطرق لما جاء فيها من أسلوب ساخر باستفاضة

 

كتابة: نجاة الشافعي

بيت السرد/ جمعية الثقافة والفنون في الدمام

في ٢٢/٥/٢٠٢٣م

 


[1] . رواية الحوت، ص ٨.

[2] . رواية الحوت، ص ١٢٦.

[3] . رواية الحوت، ص ٧٨.

[4] . رواية الحوت، ص ٩٩.

[5] . رواية الحوت، ص ١٠٠.

[6] . رواية الحوت، ص ٤١، ٤٢ و٤٤.

[7] . رواية الحوت، ص ٤١

[8]. رواية الحوت، ص٣٩.  

[9] . رواية الحوت، ص٣٩.

[10] . ص ٩٧ و٩٨.

[11] . رواية الحوت، ص ١٣٥.