سارة رسامة البورتريه
نحن مجموعة رسامات واعدات من أمصار شتى. تعرفنا على بعض من خلال تطبيق (الإنستغرام) على هواتفنا المحمولة نلقمه برسوماتنا فيشع بهجة وتألقا. البعض يسميه إنستغرام أو إنستقرام أو إنستجرام، لا تهم التسمية، المهم أنه حلقة الوصل بيننا. عرفنا ببعض ووطد علاقاتنا. نتابع أعمال بعضنا البعض ونشجع بعضنا بضغطة زر فنرسم افتراضيا قلوب حمراء وباقات ورود ووجوه باسمة ونسطر عبارات رقيقة يحتاجها كل فنان ليُثري صفحته على (الانستغرام) فيُعرف ويشتهر. هذا السيل المتواصل من الرسوم والتعليقات على صفحاتنا يجعلها مفعمة بالحياة وليست كبعض الصفحات الأخرى كئيبة أو مُحنطة. (الانستغرام) رئة كل الرسامات بدونه يتوقفن عن التنفس لأنه يعتمد أساسا على الصورة وليس مثل (تويتر) الذي يُقيدكِ بكلمات معدودة. (الفيس بوك) موضة قديمة توقف معظمنا عن التعامل معه نحن جيل الشابات الواعدات
نحن متخصصات في رسم البورتريه. غالبا ما نرسم فتيات شابات جميلات تبرق عيونهن الواسعة وتنسدل شعورهن اللامعة ينظرن للمستقبل بتحفز. يشُدُنا الوجه الإنساني بكافة أبعاده. الوجه مرآة تعكس ما يعتمل في داخل الفكر والشعور وحتى شخصية المرأة إن كانت رحيمة أو متحجرة، ملتصقة بالوديان أم تحط على قمم الجبال. يقولون إن المرأة الجميلة غبية لكن لا توجد امرأة غبية بل أن المرأة قد تتغابى بملأ إرادتها في بعض الأحيان. كذلك لا توجد امرأة جميلة فالجمال نسبي يعتمد على الثقافة والمجتمع فقد يُرى ما هو جميل قبيحا والعكس صحيح. العرب في الجاهلية كانوا يعتبرون المرأة البدينة جميلة والآن ينعتوها بالسمنة ويجعلون النساء يتخلصن من سمنتهن بأي طريقة كانت حتى تحت مبضع الجراح. أهم شيء الجاذبية والكاريزما في المرأة وهذه تنبعث من روح المرأة وليس شكلها الخارجي. الشكل سمة إضافية وليس كل شيء
نستعمل خامات مختلفة. بعضنا يحب أقلام الرصاص والفحم والتي على بساطتها ومحدودية ألوانها تحتاج إلى مهارة فائقة، وأخريات يعشقن الألوان المائية والتي تندمج بانسيابية وتنشف بسرعة، وقلّة يستخدمن الألوان الزيتية مزعجة الرائحة والتي تأخذ وقتا طويلا حتى تجف وتحتاج للكثير من الصبر والعناء. كذلك نتنوع فيما نرسم عليه: الورقة بأنواعها وأحجامها المختلفة، أو لوحات الكانفس، أو الخشب. البعض غامرن باستخدام التقنية وشاشة الكمبيوتر أو الآيباد ولكن ننظر لهن باستخفاف لأن المهارة تنبع من استخدام اليد والتفاعل مع الألوان في الحياة الواقعية والتي تتسخ فيها أصابعكِ وحتى ثيابك أحيانا حيث تشمين الطلاء وتلمسينه وأنت ترسمين، وليس من واقع افتراضي هزيل لا يُسمن ولا يغني من جوع. نشبههن أحيانا بجُحا الذي عندما شم رائحة الشواء غمسّ خبزه به وأكل
عندما نقرأ معالم الوجه الأنثوي وتفاصيله الدقيقة ثم نرسُمه بدقة فينبض بالحياة نشعر بمتعة رهيبة تضاهي القفز بمظلة من طائرة تحلق خارج الغلاف الجوي على حافة الفضاء كقفزة (فيلكس) في دعاية (الرد بول) الشهيرة، (الشراب الذي يعطيكِ جوانح) أي يخلق لك أجنحة تحلق فيها في الأعالي. بعضنا درس دورات عند رسامات محترفات وبعضنا علم ذاته بذاته من خلال الكتب واليوتيوب والممارسة
ما يميز مجموعتنا أيضا هو رغم أننا غالبا ما نرسم النساء سافرات إلاّ أننا متحفظات فلا نضع لنا صورا شخصية في (الانستغرام) منسجمين مع متطلبات مجتمعاتنا وعوائلنا وعاداتنا وتقاليدنا والتي تعتبر نشر صورة المرأة عيبا ومشينا لأسرتها ومجتمعها. على منصة (الانستغرام) نتشارك أحيانا بالإضافة إلى رسوماتنا صور الأستوديو الذي نعمل فيه، ألواننا، فرشنا، أكواب قهوتنا، كتبنا المفضلة، صور الطبيعة الخلابة، أحداث حياتنا اليومية لكنها كلها خالية منّا. البعض قد يسميه تناقض بين ذواتنا والآخر، بين ما نرسمه وبين ما نعتقد به، ونحن نسميه توافق وانسجام وموائمة. الآخر المتمثل في عوائلنا أغدق علينا الكثير وفي المقابل لنعطيه بعض ما يستحقه منا وإن كان حدودا وخطوط حمراء ولكنها ليست قيودا
فاجأتنا (سارة) رسامة مغمورة من مجموعتنا بنشر صورتها في (البروفايل) في بداية الإجازة الصيفية. كانت صورتها تُظهر فقط عينيها وباقي ملامحها يستُرها خمارا أسودا. قبلنا بذلك على مضض ولم نقم بسؤالها أو مسائلتها. في داخلنا كان هناك جدار من الخوف بدأ يتصاعد بيننا وبينها. قَلّت تعليقاتنا على ما تنشره بدون أن نشعر. بعضنا وجد لها عذرا فهي أصغر رسامة بيننا وقد يكون عدم نضجها سببا في فورتها تلك ولم يَقِّل تشجعيهن لها. وبعضهن ازداد امتعاضه واعتبرها تحاول تسلق سلم الشهرة بسرعة
ثم في آخر الإجازة الصيفية صدمتنا (سارة). رسمت صورة بورتريه امرأة سافرة الوجه ينسدل شعرها الفاحم على كتفيها، وكتبت هذه أنا أعزف البيانو. لقد كسرت المحظور وخلعت النقاب ونشرت لها صورة وإن كانت عن طريق رسمة تظهر فيها وجهها طبيعيا بدون مكياج. لم تكن جذابة ولكن نظراتها كانت نفاذّة. في الرسمة تلك كانت تجلس على كرسي صغير تعزف البيانو لكن لا تنظر إلى لوحة مفاتيح البيانو بل للأعلى حيث أصيص به زهور البنفسج. لم نسمع من قبل أنها تجيد عزف البيانو
عندها ارسلنا لبعض رسائل على (الانستغرام) نستهجِن فعلها الصادم. خِفنا أن تجرّ خلفها بعض الفنانات من الشابات الصغيرات أو المبتدئات في الرسم. وبدون أن نسألها لماذا فعلت ذلك اتفقنا أن نقاطعها. أولاً، انسحبنا من صفحتها بشكل جماعي وامتنعنا أن نعلق على أي عمل فني تضعه. ثم الغينا متابعتنا لها بينما كثفنا تعليقاتنا وتشجعينا ودعمنا لبعضنا البعض. صمتت سارة وكأنها كانت متوقعة لردة فعلنا تلك. لم تسألنا أو تسائلنا
كنا نراقبها من بعيد بدون أن تعلم. نتفحص صفحتها بين فينة وأخرى بفضول لكن صامتات كخيال المآتة. للأسف الشديد رأينا صفحتها تضج بالحياة أكثر من صفحاتنا. كثر متابعيها حتى وصل إلى أكثر من سبعة آلاف متابع وخاصة من الرسامين الشباب، والتعليق على أعمالها والإعجاب بها ازداد. كأن شيئا ما قد حدث لها. خصُبت قريحتها وأنتجت أعمالا فنية معبرة تنشرها في صفحتها. حصلت على كم ضخم من القلوب والوجوه الباسمة والعبارات الرقيقة. مثلا الفيديو الذي صورته وهي ترسم بورتريه أمها رآه خمسة آلاف متابع
ثم بدأت عاصفة تجتاح الرسامات. بعضهن يصورنّ عينا واحدة أو عينان يضعنها في البروفايل. أخريات يضعن نصف الوجه بدون الشعر. أخريات الشعر بدون وجه أو أيدي فقط أو حتى يكتفين بأناملهن بطلاء أظافر منمق. بدأنا نتقبل ذلك ثم نعتاد عليه فالفنانات لهن أطوار غريبة قد تنم عن حس مرهف وذائقة فنية مختلفة. أضحكتنا رسامة تضع صورة قدمها تلبس أحذية مختلفة كل يوم في الأسبوع وكأن قيمتها من قيمة حذائها. تطورت الأمور ثم عندما تسللت الصور الشخصية في (الانستغرام) رفعنا راية الاستسلام وأنفرط عقد مجموعتنا. أما سارة فلقد جرفها تيار التحدي للمجتمع. انحدرت أخلاقيا حتى القاع تخدش رسماتها الحياء والذوق العام ـ نستميحكن عذرا لا نستطيع أن نصف ما صارت ترسمه ـ أما متابعيها فوصل إلى المليون. نحن حصدنا الخيبة لتمسكنا بالعادات والتقاليد. بعض الفنانات راجعنّ أنفسهن ونشرنّ شعارات جديدة على صفحاتهن الانستغرامية لنتمسك بما هو مفيد من العادات والتقاليد وننبذ ما هو ضار، وأخريات لم يتزحزحن عما هن عليه ووقفن عكس التيار
٨ أغسطس ٢٠٢٠م