Najat Alshafie نجاة الشافعي

View Original

المرأة ُ المنفلوطية

أحبها بعمق إلى حد الجنون لكنها لم تعلم بحبه لها لمدة ثلاثين عاما عجافا. تزوجت صديقه الذي تقدم لخطبتها فأختفى من حياتهما وتلاشت أخباره. سمعت في سنة من السنوات بالصدفة إنه هاجر إلى بلد بعيد لكن لم تسمع عنه بعد ذلك شيئا. زوجها لم يذكره أبدا رغم صداقتهما الوثيقة. عندما توفي زوجها بعد صراع طويل مع السرطان حزنت حزنا شديدا أثرّ عليها فازدادت نحولا وغارت عيناها وبرزت عظام خديها ورقبتها . أفتقدته كثيرا. أحست بثقب كبير ينخرُ قلبها وأنها صارت جنازة تمشي على قدمين. كانت علاقتهما مميزة رغم المشاكل التي عصفت بهما. يغمرها بالحب والهدايا ويحاول أن يرضيها بعد كل خلاف بينهما. لديهما ابن واحد سافر للخارج لدراسة الهندسة وعاد لمدة أسبوع فقط لحضور عزاء والده ثم رجع ليكمل مسار حياته العلمية بعيدا عنها. فكرت بالرحيل معه بعد وفاة زوجها لكن صرفت النظر في اللحظات الأخيرة بعد أن أعدّت العدة وحزمت أمتعتها . ثمة مغناطيس هائل يجذبها لموطنها. هل هو زوجها وذكراه في البيت الذي عاشا سوية فيه مع ابنهما الوحيد! لم تكن متأكدة سوى أنها سمكة لا تتنفس خارج بحر الوطن. نخلة وفية للأرض التي نشأت وتربت فيها

بعد عدة شهور من الوفاة كانت تجمع ملابسه وأشيائه في صناديق مخصصة لذلك. فتحت أحد الألبومات ونظرت للصور. الصورة الأخيرة كانت لزوجها وصديقه يأكلان معا ويضحكان في منتزه عام تحيط بهما مجموعة من الأصدقاء. تفحصت صديقه والذي نست ملامحه بمرور السنين. “صادق” يمتاز بسمرته الشديدة وشعره خفيف مجعد. عيناه عسليتان ثاقبتان وحاجباه معقوفان وأسنانه الأمامية متفرقة. أخرجت الصورة لتتفحصها عن قرب من الألبوم لضعف نظرها من شدة البكاء المتواصل. سقطت ورقة صغيرة مخبأة خلفها. انتابها الفضول ففتحتها وقرأتها. إنه خط المرحوم زوجها

صديقي وحبيبي الغالي صادق

أكتب لك اعتذار من صميم القلب لأني قطفت الوردة التي أردتَ أن تقطفها قبلي. لم أعتمد أن أجرحك أو أذيتك، عندما سبقتك وتقدمت لخطبتها. أتمنى أن تفهمني. لم تكن لي لدي الجرأة لأصارحك بحبي لها. لقد أحببتها حبا جما حتى قبل أن تخبرني أنت بمدى تعلقك بها، وأنك تفكر فيها ليلا نهارا ولا تستطيع الأكل أو النوم بسبب ذلك. لمَحْتُّ لك أكثر من مرة أن علاقتي بها مختلفة. قلت لك أننا منذ الطفولة نلعب ونمرح معا وأن أهلنا سَمُونَّا لبعض. كانوا دائما يكررون على مسامعنا منذ صغر سننا: منى لعادل وعادل لمنى. كنت في فترة المراهقة أكتب لها الرسائل وأرسلها لها عن طريق أختي الصغيرة. لقد منحتني الوردة حبها في مكالمات هاتفية بيننا ورسائل ما زلت محتفظا بها. حسبتك ستفهم وتبتعد لأنك صديقي الصدوق. أمنحني فرصة أوضح لك كل شيء. لماذا لا ترد على اتصالاتي ولا تجيبني. وعندما أطرق بابكم دائما يقول لي أخوك الصغير أنك غير موجود. صادق صديقي، يجب أن نتحدث وتخبرني عن مكنونات قلبك وأشرح لك موقفي. لا تقاطعني هكذا. أنا لا أطيق ضياع صداقتنا من أجل امرأة حتى وإن كانت منى زوجتي. لقد درسنا منذ الابتدائية معا وكنا أقرب الزملاء لبعض. صادق، اتذكر عندما اعرتني كتابك وتعرضت لضرب المدرس. أتذكر عندما كنت احضر الطعام من منزلي ونتقاسمه سوية. أتذكر لعبنا لكرة القدم في الطرقات. أتذكر ضحكنا عندما نعد المقالب للمدرسين والطلاب. أرجوك لا تسيء فهمي. أنت جزء لا يتجزأ من تاريخي وقطعة من قلبي. أتمنى أن تجيب على اتصالاتي. أتمنى أن أجدك لأحدثك بدل أن أحاول أن أرسل لك هذه الرسالة. وأتمنى أن تسامحني. صديقي أعاهدك بأني سأعاملها بحب ولن أفرط فيها أبدا.

صديقك المخلص أبداً: عادل

من شدة الصدمة التي باغتتها سقطت الورقة والصورة من يديها، وأغرقت عبراتها وجهها ورقبتها وابتلت ياقة ثوبها الأسود. لماذا لم يخبرني أحد! كان لي الحق أن أعرف! كان لي الحق أن أختار من أريد! لماذا كذب كليهما علي وأخفيا الحقيقة طوال هذا الوقت! لماذا يكذب زوجها ويقول أنها صارحته بحبه في مكالمات ورسائل وهي لم تفعل ذلك لشدة خجلها. الآن فقط وجدتْ التفسير لما حيرها سابقا من تجاهله لصديقه وتجنبه الحديث عنه. شعرت بخيبة الأمل تصفع وجهها بقوة. بدأ القهر يتغلغل في صميم قلبها. ما أعجب الحياة! في هذا الوقت الذي تود أن تحتفظ فيه بذكرى جميلة عن زوجها يفاجئها القدر بهذه القسوة فتتسلل نُذر الشك إلى عقلها. كيف تُصلح مرآة عواطفها التي كُسرت بعد أن قرأت الرسالة. مزقت الرسالة غاضبة ثم الصورة وألقتهما في القمامة. تريد أن تمحو ما قرأته من ذاكرتها متظاهرة بأنها لم تطلع على هذا السر الكبير الذي زعزع كيانها، ربما كان كل ذلك من محض خيالها فلا إثبات له بعد أن أزالت آثاره: الصورة والرسالة. غريب أمره لماذا لم يتخلص من الرسالة بعد كل هذه السنوات! هل نسى أم أنه تعمد أن تطلع على هذا السر ملتمسا منهما الصفح والغفران

من ضمن عيوبها الفادحة أنها دائما ترى النصف المملوء من الكأس. تنظر للناس بمثالية ثم تصيبها الصدمة إذا اكتشفت النقيض من ذلك. ما ساهم في مثاليتها المفرطة ما قرأته وهي مراهقة من كتب المنفلوطي: العبرات والنظرات وماجدولين والشاعر. فلقد فرضت مدرسة اللغة العربية العراقية على طالبات الصف الأول المتوسط أن يقرأن كتب المنفلوطي لتحسين أسلوبهن في الكتابة، أما هي فلم يتطور أسلوبها كثيرا لكنها تأثرت تأثرا شديدا بالشخصيات المثالية الافلاطونية التي يعرضها المنفلوطي لقيم كالحب والوفاء والتضحية والإيثار والفداء. لذلك زوجها كان يمثل لها قمة فريدة في الحب والإخلاص. لم تكن تعلم أن قمة الجبل قامت على أرض طينية متحركة. وإنه ذو وجهين. هل سيفاجئها القدر بأمور أخرى عنه، من يدري! لكن لو وضعت نفسها محله هل من الممكن أن تفعل مثله! أي لو أحبت شخصا وصديقتها أحبته أيضا بالتأكيد سوف تتقرب منه ولا تبالي بها. لا! إنها ليست كذلك! أنها تحمل في قلبها جذوة من القيم الأفلاطونية المنفلوطية. ستقاوم شيطانها وستؤثر صديقتها على نفسها، فالرجل يمكن العثور عليه أما الصداقة فكنز من الصعب الحصول عليه

بعدها حاولت اقتصاء أثره فوجدته قد تزوج أجنبية وأنجب خمسة أطفال، وعاد قبل عام للوطن. كان في السابق يرسم لكنه الآن كما علمت من ابنة عمه أنه أصبح أشهر من نار على علم. إذاً، ربما تسنح الفُرصة أن تقابله بدون أن تحرج نفسها في معرض من معارضه الفنية. هل سيعرفها وهي تغيرت كثيرا من فتاة جذابة ممتلئة شبابا وحيوية إلى خمسينية أرهقتها سنوات العناية بزوجها في مرضه وكسر جناحها ما اكتشفته أخيرا عنه. تندمت أنه في ذلك الوقت قبل زواجها لم تقرأ ما بين السطور. لم تشم رائحة الحب من خلال كلام صادق ونظراته إليها. كيف لم تشعر كأنثى بذلك، تذكر أنه كان يخالجها إحساس غريب كلما صادفته في الشارع لأنه ينذهل ويتجمد في مكانه ينظر للأسفل متجنبا النظر المباشر إليها لكي لا يشي بسره. يتلعثم ملقيا التحية عليها على عجالة. ألهذا السبب تقدم زوجها سريعا لخطبتها وأصر أن الزواج يكون بعد أسبوع فقط من الخطوبة خوفا أن تتطور العلاقة بينهما ولقطع الطريق عليه بلا عودة. فهمت الآن ما كان يتمتم به زوجها في غيبوبته: سامحني، سامحني، صديقي سرقتها منك... قطفت الوردة

تلك الليلة كانت ثقيلة كصخرة جثمت على قلبها. أتشحت بالسواد من قمة رأسها حتى أخمص قدميها. خرجت من العِدَّة لكن ما زالت ترتدي السواد وفاء لزوجها ولا تقرب الزينة والعطور . دخلت المعرض في يوم الافتتاح الذي يحضره غالبا الفنان قبل إغلاقه بنصف ساعة. كان هناك قليل من رواد المعرض يتجولون فيه ويتأملون اللوحات بصمت. بحثت عنه لكنه لم يكن موجودا في المعرض. معظم لوحاته بها امرأة غير واضحة المعالم لكنها تشبهها كثيرا في ملامحها وحركاتها وسكناتها. فجأة فُتح باب جانبي وظهر صادق. تساقط معظم شعره لكن حاجبيه زادا تقطيبا وتغضنت جبهته وصار يرتدي نظارة سميكة. رآها من بعيد فاقترب قليلا ورفع نظارته يمسح عدستيها كأنه غير مصدق نفسه. اقترب بفضول قائلا: كم تشبهين قريبة عرفتها! تردد أن يقول حبيبة فلا يليق به ذلك مع امرأة قابلها للتو. بادرها بالسؤال: كيف ترين لوحاتي؟ يهمني جدا رأي المتلقي! أجابتْ: جميلة جدا ومميزة. عندما تكلمت انتفض وبدأت دقات قلبه تتسارع: صوتكِ، صوتكِ، مألووف. أنتِ.. أنتِ مُنى. وسكت وتأمل وجهها وابتعد قليلا وأدار رأسه ينظر حولها يبحث عنه. تماسك وقال بلباقة: أختي منى تشرفت بحضورك المعرض. أين عادل؟ هل، هل ينتظرك في السيارة؟ أطلبي منه الدخول أو، أو سأخرج لأراه وهمّ بالحركة باتجاه الباب الرئيسي. أوقفته قائلة بصوت حزين خرج من بئر عميق: لقد أعطاك عمره. ارتعدت مفاصله وارتبك ونظر إلى البعيد وغالب دموعا صامتة تألقت في عينيه. قال غير مصدق ما سمعه: كيف، ما الذي حدث؟ ما زال شابا! لا أصدق! الله يعظم أجرك ويرحمه ويتغمده في واسع جنانه. آسف، آسف جدا! لم أعرف! انقطعت أخباركم عني لأني هاجرت للخارج وعدت مؤخرا. كم كنت أتمنى أن أراه! في غربتي كنت أفكر فيه دائما وأتحدث عنه وعن صداقتنا المميزة مع زوجتي وابنائي. لكن الأمر لله. إنا لله وإنا إليه راجعون

حزمتْ أمرها على المواربة، وقالت له: عادل في لحظاته الأخيرة كان يردد سامحني صديقي صادق وأنا لا أعلم ما هو السبب. ورغم معرفتها بما حدث من خلال الرسالة التي صدمتها أنكرت علمها لتحافظ على كرامة زوجها وهو ميت كم لو كان حيا. لم تجرأ روحها الشفافة أن تكيل له الاتهامات في غيبته ولم تستسيغ أن تنحدر في مشاعرها وتسأل صادق: هل أحببتني فعلاً، هل نسيتني، هل ما زلت تحبني، هل لوحاتك عني؟ تابعت الكلام: فأرجو رجاء حارا مهما كان موضوع الخلاف بينكما أن تسامحه من أجل العشرة والأوقات الجميلة التي قضيتماها معا. أجابها متلعثما ومجاريا لها: آه، مسكين عادل. كان.. كان خلافا بسيطا. هو أراد أن يشتري سيارة وأنا.. أنا أيضا رغبت في نفس السيارة لكنه سبقني واشتراها ولم يخبرني. زعلت في البداية لكني سامحته منذ زمن بعيد. كم هو رقيق أن يتذكر هذا ويحّز في نفسه! هو أيضا تصرف بنبل وحافظ على سمعة رفيقه بيضاء ناصعة فلم يبح لها بالسر. صمتا عن الكلام برهة ونظرا للوحات المصطفة أمامهما والتي تضج بالحياة. أحست بأن النساء اللاتي في اللوحات تنظر وتنصت لهما باهتمام

ثم باغتها: منى، أنت أيضا سامحيني! تسألت: لماذا؟ رد عليها بصوت حانٍ رقيق: لأنني لم أعلم بمرضه ولم أكن معه لأخفف عنه في لحظاته الأخيرة، ولم أقف بجانبك في ذلك الوقت العصيب. منى، سامحيني لم يكن بيدي! الظروف حتمت عليّ البعد، وهذا حال الدنيا لقاء وفراق. أجابت: لا داع للأسف. أشكرك، الآن عادل سيكون مرتاحا لصفحك عنه. شكرا جزيلا. شعرت بالراحة والرضا لحديثهما لأنها لم تلمه ولم يلم هو زوجها. كلاهما حافظا على ذكرى زوجها نقية. أنتهى لقائهما بأن أهداها لوحة من لوحاته . ترددت في قبولها لكنه أصر عليها. أخبرها بأنها من أعز لوحاته على قلبه، فقد رسمها عندما غادر البلد قبل ثلاثين سنه واسماها أمل. شكرته واحتضنت اللوحة التي بها امرأة كأنها توأم لها تقف بشموخ عند النافذة تحمل مظلة وتنظر للسماء الملبدة بالسحب السمراء

نص ورسم: نجاة الشافعي

١٩ مايو ٢٠١٩م