ذات الشَعر الأبيض
لا يوجد سبب واضح أو سر خطير ما وراء قرارها الشاذ عن عرف المجتمع بما يتعلق بالأنثى وتاج جمالها ألا وهو الشعر. كل ما في الأمر أنه عندما بلغت الخمسين قررت ألا تصبغ شعرها على الإطلاق. سأمت من خداع نفسها والآخرين. عندما اتخذت قرارها ذاك كان الشيب قد غزا كل خصلة وكل شعرة وأحال ما كان يوما ما أسودا حالكا كثيفا بياضا هشا رقيقا مثل الجليد الذي لم تراه إلا في الصور الفوتوغرافية والأفلام السينمائية لأن في بلدها الصحراوي لا يسقط الثلج أبدا
لم يعترض في العلن على قرارها أحد لكن على ما يبدو أن اللغط كثر في السر في أوساط صديقاتها وعائلتها وزميلاتها المدرسات والطالبات. الكل يتساءل، لماذا؟ لم تُدر بالاً للأقاويل فنصف عقد من الزمان يكفي ألا يجعلها ريشة في مهب الريح
الشيب له سر في عائلتها. تقول أمها إن دمائهم حارة لذلك يشيبون مبكرا. المرحوم خالها ذو الحياة القصيرة والهموم الثقيلة سيطر البياض على رأسه بأكمله في العشرينات. أما جدتها فبدأ الشيب يدب في شعرها مبكرا فتغطيه بالحناء فيصير مثل كرة اللهب. حذرتها أمها عندما رأت الشعرة الأولى البيضاء في رأسها في فترة المراهقة
!ابنتي! احذري! لا تقطعي أية شعرة بيضاء! إن قطعتي شعرة واحدة ستتضاعف! لا تفعلي ذلك! اسمعي كلامي! اجعليه حلقة في أذنكِ! ستدمين إن قصصتي ولو شعرة واحدة
أصغت لها بإنصات بالغ. سيطر عليها الخوف. لم تطق حتى تخيل البياض يعلو رأسها. لكن في يوم ما لم تتمالك نفسها. أمسكت بشعرة مجعدة على يسار مفرقها الذي يقسم هامتها إلى قسمين متساويين فقطعت واحدة خلسة. لم تعترف لأمها عندما كانت تمشط شعرها: غريبة! ازداد الشيب بسرعة! هل قطعتي شيئا؟
في يوم تخرجها من المتوسطة ولأجل الحفلة عجنت أمها الحناء بالشاي الأسود المركز وملعقة زيت الزيتون ووضعته على شعرها. قالت: يكفي ساعتين ليتشرب لون الشاي والحناء أما الزيت فسيجعله أملسا ناعما. لكنها بكت عندما لم يتغير لون شعرها المجعد ولم يصبح أملسا. لفت أمها لها شعرها بمنديل أسود وكان منظرها مضحكا في الحفلة التي تباهت فيها البنات بشعورهن الطويلة الملساء الداكنة
احتاجت لواسطة أخيها الأكبر المدلل ليقنع أمها بأن تسمح لها بأن تصبغ شعرها كباقي البنات لحلفة تخرجها من الثانوية فوافقت أمها على مضض. ترددت لأنها المرة الأولى. خافت أن تفشل. تذكرت تجربتها السيئة عندما كانت في المتوسطة لكن فرحة التخرج والصور التذكارية تستدعي المحاولة. طلبت من صديقتها أن يشتري لها سائقهم علبة صبغ باللون البندقي من الصيدلية البعيدة
اتبعت التعليمات المكتوبة بخط صغير على العلبة بحذافيرها. في إناء بلاستيكي قديم وضعت المسحوق وخلطته بنصف كوب من الماء.أضافت عليه محلول يسمى بالأكسجين له رائحة نفاذة. تصببت عرقا في الحمام الحار. حاولت ارتداء القفاز البلاستيكي الشفاف الذي معه لكنه انشق وهي تحاول سحبه لأنه التصق بيدها اللزجة. قسمت شعرها إلى أقسام لتطليه بالصبغ وهي تنظر في المرآة. كان صعب عليها طلاء المنطقة الخلفية التي لا تراها. تلطخت ياقة ثوبها القديم. عندما انتهت غطت شعرها بقبعة بلاستيكية. انتظرت بحماس لنصف ساعة. شعرت بها كأنها مدة طويلة وهي تترقب ما سوف تكون النتيجة عليه
عندما صبّت الماء على شعرها سالت أنهار ذات سحنة غامقة كأنها شلالات جرفت طينا في طريقها للأسفل. الأنهار الملونة المتصببة من قمة رأسها حتى أخمص قدميها لم تستحيل ماء صافيا بعد صب الماء لأكثر من نصف ساعة. بعد عناء طويل جففته بالفوطة التي اصطبغت بسحنة بنيّة منفرة. نظرت بتلهف للمرآة فلم تلحظ تغييرا في لونه. أصابتها خيبة أمل وجرت دموعها على خديها
عندما علا صوت بكائها وشهيقها سمعتها أمها. صاحت عندما رأتها: “ألم أقل لك! ألم أحذرك! انتظري سأعالج الأمر. يوجد وقت حتى الحفلة”. احضرت المجفف الكهربائي وجففت لها شعرها أولا. ثم استعملت مصففا كهربائيا يشبه المكواه الطويلة ذات الذراعين تدخل خصلات قليلة فيه وبفعل الحرارة الحارقة تتمدد خصلات شعرها المجعدة ثم تستقيم. لكن احترقت بقعة من جلدة رأسها فصرخت ألما. حوالي الساعة مرت وهي قلقة أن تصل للحفل متأخرة فوالدتها سترافقها ولم يلبسا ويتبرجا بعد
أعجبتها تسريحة شعرها الذي رفعته والدتها للأعلى بدبابيس ملونة لكنها تفاجئت أن شعرها لم يلتقط اللون البني البندقي. سألت والدتها عن ذلك فقالت: اللون الأصلي لشعرك أسود غامق فلا يلتقط الألوان الفاتحة لكن عندما يبيض شعرك سيكون العكس. انظري حبيبتي في المرآة عندما ينعكس الضوء على شعرك! هناك بريق بني جميل. ألا ترين ذلك
هززت برأسي موافقة بسعادة عارمة. صورة الأميرة النائمة بيضاء الثلج تتألق في مخيلتي. ماذا لو كانت بيضاء الثلج بشرتها سمراء وشعرها مجعد أسود مثلي
تأليف
نجاة الشافعي
١٧ اغسطس ٢٠٢٠م
.