Najat Alshafie نجاة الشافعي

View Original

فريد عقد فريد


ماذا دهى والده.. مدرّس اللغة العربية.. عندما سَمَّاه: فريد عقد فريد.. كان مَثَار تندّر أقرانه.. لكني سَمْيتُه منذ طفولتنا: فرايدي

(Friday)

لأني أحب الإنجليزية.. وأحب يوم الجمعة.. يوم العطلة.. وأحب صديقي فرايدي جداً جداً

واُدَلِّلُـهُ

(Fred)

دَخَنَّ غليونه، نفضّ قدمه اليسرى، رفعَ بها للأعلى قليلاً ثم أنزلها للأسفل، تهبط وترتفع ثم تهبط، ترسم دائرة رشيقة، كأنّه يَقُودُ دراجة هوائية برِجل واحدة، سحبَ نفساً ملوثاً بالقطران المتفحم ثم نفثَ الدخان في وجهي، عدلّ من جلسته، اتكأ بعضده الأيمن على الأريكة الوثيرة، واصلَ نميمته، وواصلتُ الاستمتاع

قبل أن يبلغ الأربعين؛ كانت حياة فرايدي في مُجمَلِها هادئة.. حياة عادية جداً جداً.. أيّ كائن يأتي من طبقة متوسطة يعيِشُ بطموح طبقته وهمومها.. يجتهِدُ في دراسته.. يجّد في حياته.. يفشل وينجح.. ينجح ويفشل.. يتطلَع أن يصير صنو أبيه.. وزوجته صنو أمه.. تعينّ فرايدي كمعلم لغة عربية في مدينة بعيدة.. يعيش في شقة بالإيجار.. يقود سيارة بالأقساط.. يُحِّبُه طلابه.. يحترِمُه بواب العمارة.. وتزوج من ابنة عمه.. لكن لم يُنجِب

سحبَ نفساً عميقاً آخراً، ونفثَ زفرة دخان حارة في وجهي، قادَ دراجته غدواً ورواحاً، ورواحاً وغدواً، يَحلِبُ ثمالة التبغ من فوهة الغليون، انتابته كحة ارجفت عظيمات قفصه الصدري، ارتعشَ كَمَنْ مَسَّه تيار كهربائي، واستمرت الكلمات تسري بِدَوّي مُخَدّر من حنجرته

كلُ واحدٍ من زملائه يتمنى أن يصبح موجِهاً أو مساعداً للمدير أو يُنقَل لمدرسة قريبة من بيته أو يزيد مرتبه أو يؤسس عملاً تجارياً خاصاً إلا هو.. كان فرايدي على النقيض منهم... قنوع جداً جداً.. يؤدي ما يُناطُ بهِ من مسؤوليات كمعلم، وزوج، وابن، وصديق، وجار على أكمل وجه.. ولا يطمح للكثير.. مسالم إلى أقصى حد.. لا يؤذي بعوضة.. ولا يدوس على ساق نملة

في يوم عيد ميلاد فريد عقد فريد الأربعين.. بداية الشهر الرابع .. وفي بداية كل شهر.. يقدم إعانة بسيطة لرفيقه الحميم.. عنده أربعة أبناء ذكور.. لكن يبدد ماله في تدخين السيجار الكوبي المُقَلّد في الصين.. سَمِعَهُ يتحدث في هاتفه

سأهدِيكِ ما طلبتي.. يا سيدتي.. أحدثُ (آيفون) نزلَ في السوق.. كم فوز عندي! أراكِ الليلة

لم يُجبه فريد عندما دقّ الجرس.. رحلَ حانقاً.. وسيل عارم من العبارات النابية.. انطلق من فِيِهِ.. واقتحم أزيزه طبلة أذنيّ فرايدي

مَنْ يحسب نفسه! هذا الكلب الأجرب.. يتظاهر إنه لا يسمعني أطرقُ الباب.. حمار بلّ أكثر بلادة من حمار.. ما ذنب الحمار أن ننسبه إليه.. تافه مغرور.. فريد عقد فريد عربيد.. أصلع قبيح.. ذو وجه صغير.. وخشم مفلطح كبير.. الغلط مني إني جئت لهذا البخيل المدقع.. مسكينة زوجته.. كيف تتحمل ذفر إبطيه النتنة.. وريحُ فمه المقزّزة؟ !

بدلَّ قدماً بأخرى، هزّ اليمنى بدل اليسرى، أنهكه الحديثُ فبدأ يقود الدراجة الهوائية بلا اتزان، يترنح صاعداً ونازلاً، يضيق نَفَسَه وهو يتسلق المرتفعات، ثم تتسابق أنفاسه وهو يهبطُ المنحنيات، سحبَ نفساً عميقاً من غليونه، شعرتُ به يدوخ ثم يهدأ، ويعود إلى طبيعته، يُكمِلُ لي مغامرات فرايدي

في اليوم التالي ذهبَ إلى مدرسته.. لقنّ الطلاب دروسهم.. قدموا له بطاقات بمناسبة عيد ميلاده.. شكرهم وأقفل راجعاً.. مرّ بالمقهى.. وأمسك بيد العجوز.. يقوده كعادته في كلّ ظهيرة لمنزله.. فابنه يرميه في المقهى حتى يُشفِق عليه أحد ما.. ويعيده للمنزل.. ليُرِيح الزبائن من شخيره المزعج.. وهلوساته التي تضحكهم.. حتى يتطافر الدمع من أعينهم

أيها العنز الشهم! اجلب لي كرسياً أمدُّ عليه رجلي.. أين الشاي! أنت يا حارث الملعون! سرقت من جدّي حصانه.. أين ولدي.. يا ملاعين! عبلة! أين الشاي! حتى الشاي! يا أولاد..! أريد بسكويت! تأخر العشاء

أمسكه بحنان غامر.. مشيا معاً بهدوء.. فجأة نظر العجوز في وجهه مندهشاً

!أين الشاي! أين ابني! لماذا تُمسِكني؟ أتركني! أتركني! أتريد أن تسرق شركاتي! تسرق أموالي! يا حرامي! حرامي! حرامي! امسكوا الملعون

احاطوا به.. مَنْ سيُشَكِّك برواية هَرِمٍ يطلِبُ النجدة! تجمدّ دم فريد عقد فريد في شرايينه.. استجوبوه ولم ينطُق.. تعجبتُ منه.. كيف تَتَأتَى له ألاّ يَرُدّ.. ألاّ تَفتُرَعن ثغرِه لفظة يدافع بها عن نفسه.. لم يَزُمّ شفتيه أو يرتفع حاجباه.. لم تحمرّ وجنتيه ويتعرق جبينه.. لم يلهث أو تتسارع أنفاسه.. لم تَنتَفِخ أوداجُه.. كيف لبشر أن يصير صنماً.. بملامح رجل وكينونة حجر؟! تساءلتُ في سِرّي: هل من الممكن أن نفقد آدميتنا.. أن تنمحق رجولتنا.. أن نتشيء.. أن نتحول - في وقت ما- إلى رِجل كرسي.. ذرة سماد.. صنان إبط.. نباح كلب أو صرصار كافكا

لحسن حظه.. أنا.. أنا صديق فرايدي.. أنا روبنسون كروزو انقذته.. مررتُ بالحشد الغاضب.. انتشلته من بين أيديهم.. وإلاّ لسلموه للشرطة.. هَدَأّتُ من روع العجوز.. وأعدته للمنزل.. لكن فريد الأخرس ظلّ واقفاً لساعات في قارعة الطريق.. والناس محتارون في أمره.. وهو لا يكترث بهم.. كتمثالٌ يستظّل بعمود النور

أضافَ جُرعةً من التبغ الفاخر إلى جوف الغليون. تناولتُ قداحّته الذهبية، وأشعلته له، انفرجت أساريره، تأرجحتْ قدمه لتقود الدراجة، ونفثَ الدخان في وجهي. أنصّتُ له بفضولِ من يسترق النظر من نوافذ الجيران

عاد فرايدي إلى المنزل.. شمّ رائحة الباذنجان المقلي.. سببّت له الغثيان.. طبختْ المسقعة.. وهي تعلم إنه يكرهها.. يمقتُ الباذنجان.. يحرق معدته.. يسبب له تهيجاً في القولون.. أضرب فرايدي عن الطعام.. وأضرب عن الشراب.. وأضرب عن الكلام.. وأمور أخرى.. قاطعها تماماً.. حاولتْ تبرير فعلتها الشنيعة.. أصابني الملل.. تغيير بسيط.. لم يجبها.. صففت شعرها الكستنائي اللامع.. ارتدت أجمل حلة في دولاب الملابس.. رشّت العطر الباريسي الثمين.. ارتدت كعبها العالي.. خرجت لتزور جارتها.. عادت متأخرة.. مبعثرة الشعر.. لعبتْ مع قطتها.. نامتا.. فرايدي جالس في مقعده.. ينظر ببرود لساعة الحائط.. دقتّ مُعلِنَةً انتحار الليل.. 

في اليوم التالي ذهب فرايدي للمدرسة.. استقبله زميله بحفاوة بالغة: والدي مريض جداً جداً.. قدمّتُ على إجازة لإجراء فحوصات طبية له.. اجمع فصلي وفصلك معاً.. وعلّم الطلاب.. وصلّح دفاترهم حتى أعود.. وافق بكل أريحية.. وعندما كان يسافر في عالم (الفيسبوك).. رأى صورته في تايلند برفقتي.. نحتسي الشاي معا.. في غابة بوهيمية ساحرة.. ندخن السيجار الكوبي الفاخر.. نقهقه.. كالقردة..

هل تعاطفت معه؟! إياك! ثم إياك! ثم إياك! كنتُ غبياً مثلك.. أشعر بالشفقة عليه.. لكن بعد أن عاد فرايدي من تايلند.. نفض عن جلده الرماد.. كالحرباء.. كالعنقاء.. كالغول.. بعد أن عاد فرايدي من تايلند.. عنفّ والده العجوز الذي صاح به: حرامي.. قام بِرَمْيِهِ في دار العجزة.. ولم يزره أبدا.. بعد أن عاد فرايدي من تايلند.. حطم هاتف زوجته فوزية.. جزّ شعرها بسكين حادة.. طلقها.. طردها.. سحق قطتها بسيارته.. بعد أن عاد فرايدي من تايلند.. شتمَّ المعلمين.. وكلّ الإداريين.. والمستخدمين.. ومزقّ بطاقات الطلبة.. وألقى   باستقالته في وجه المدير مزمجراً

!!!!!أنا! أنا فريد عقد فريد!! أنا لَسْتُ معلما

حطّت العنقاء في مخدعي.. تسللَّ على أطراف أصابعه.. اختبأ خلف الستارة.. جنّي يعدّ أنفاسي.. أنا.. أنا الفارس المقنع الذي ساندته.. عندما كان أبوه يصرخ به حرامي.. وهو متخشب كالتمثال.. وأنا.. أنا الخل الوفي.. الذي كنتُ أهدر وقتي الثمين.. أتحدث مع امرأة مسكينة.. أحّل مشاكلها المستعصية مع زوجها اللئيم.. امرأة استأمنتني على أسرارها.. ووأدتها في صحراء الصمت.. امرأة جميلة جداً جداً.. ذات حظ عاثر جداً جداً.. لجأتْ إليّ.. لولا شهامتي لجُنّت.. لولا نُبلِي لهربت من زوجها المتبلد الشعور

حسبته آدمياً.. توسلتُ إليه.. أن يسمح لي.. يَدَعُنِي أدخّن غليوني.. ألتذّ بسحب نفس عميق.. نفخة من القطران الملتهب.. للمرة الأخيرة.. آخر مرة.. حَلِفتُ له.. إنه تشابه أسماء.. هي فائزة.. وليست فوزية زوجته.. لكنه خنقني بحبل غسيل قذر.. جَلَبَه من حديقتي الخلفية.. ربطه حول عنقي بإحكام.. شدّه بتلذذ مازوشيتي.. ظل يبحلق في عينيّ.. بدون أن يرتد إليه طرفه.. أو يفتر ثغره عن كلمة

ألم أقل لك! إنه أنجس من خنزير.. أرعَنُ مِنْ ثور.. أدهى من ثعلبٍ.. كلب بن كلب.. كلبُ شوارعٍ نجس.. أجبنُ من ضبع.. أسرعُ من عقرب.. يلدغ ويفرّ.. أحقر من خنزيرٍ! لن تعرف فريد عقد فريد إلاّ إذا عاشرته مدة طويلة مثلي

نظرَ السجّان إليه، وهو يرفع قدماً يتبعها بأخرى كَمَنْ يصعد سلماً للنجاة، ولا يصل للدرجة الأخيرة

!فريد عقد فريد! زائرٌ لك!! فائزة

 

١ رمضان ١٤٤٤هـ

كتابة ورسم

نجاة الشافعي