سجادة الوفاء
منذ أبصرت عيناها النور رأت والدتها تنسج سجادة حمراء كالعقيق مطرزة بنقوش ملونة زاهية وخيوط ذهبية. وعندما يعود والدها من عمله كساعي بريد تقوم والدتها بتحضير الطعام ويتولى هو الحياكة بدلا عنها. يستخدمون نول خشبي كبير ولفات حريرية مصبوغة بأصباغ طبيعية تعدها أمها إما من الأحجار أو النباتات. أمها وأبوها أبناء عمومة. عائلتهم تسكن قرية صغيرة أسفل الجبل وتعمل في صنع السجاد العجمي يدويا حيث توارثوا الحرفة من أجدادهم. يبيعونه ويكسبون منه ما يسد رمقهم. أمّا تجار السجاد فهم من يحظون بالقدر الأكبر من الربح ويزدادون غنى وثروة تتجلى في مساكنهم الفارهة وملابسهم الفاخرة والسيارات المستوردة الغالية التي يقودونها لكنها لا تشعر بالغيرة منهم بل دائما يلج لسانها بذكر الله وحمده وشكره
كانت السجادة العقيقية تنمو معها وتكبر كلما كبرت فحياكة السجاد اليدوي بطيئة تستغرق وقتا طويلا وبالخصوص السجاد المميز ذو العقد الكثيفة. كانت تغريها الخيوط الملونة وهي طفلة صغيرة فتمد يديها لتشدها فتصيح بها أمها وتنهرها فتبكي وتركض إلى حضن أبيها الذي يسكّن روعها. أمها أشد صرامة من والدها الذي يُغدق عليها الحب والحنان ويشتري لها الألعاب والحلوى. تغار بشدة وتبكي عندما يلاطف أبوها أمها، فلشدة تعلقها به تعتبره ملكها وحدها. بعد أن سئمت أمها من تطفلها على خيوطها خصصت لها سلة تحوي ما يتبقى من خيوط الغزل. فصنعت منها كرة حريرية ملونة كقوس قزح تلعب بها وتقذفها لوالدها ليمسك بها ثم يرميها إليها ويعيدان الكرة من جديد. تقذف الكرة الملونة عاليا وتتحداه أن يمسك بالكرة فيتظاهر بأنها سقطت منه فتضحك وتصرخ بأنها فازت عليه
برنامج والدتها اليومي ثابت لا يتغير. تستيقظ قبل الفجر عندما يصيح ديك الجيران ثم تصلي وتباشر العمل. عند شروق الشمس تذهب لتشتري الخبز وتعد الفطور والشاي ثم تستأنف العمل حتى آذان الظهر. عندها تتوقف للصلاة وإعداد الغذاء. تحيك حتى يعود أبوها للمنزل عصرا. يتغذون ويشربون الشاي ثم تكمل العمل حتى صلاة المغرب فتجهز عشاء بسيطا وأخيراً تنام بعد ساعتين من العشاء. أمها تعد إبريق شاي في الصباح تحته ابريق ماء مغلي فوق موقد صغير ليظل حارا. تتوقف كل ساعة تقريبا لتريح أصابعها المتشنجة وأناملها المتقرحة. ترتشف كأس الشاي بعد أن تضع قطعه قند مصفرة في فمها فتذوب كتلة السكر الصلبة رويدا ملتذة بطعم السكر الحلو المختلط بالشاي المر. فقط تخرج أمها يوم الجمعة للصلاة في المسجد القريب فتعطل عملها بسبب ذلك
اتخذت السجادة صديقة حميمة لها لأن امها تنكب على حياكة السجادة طوال النهار وقسط من الليل وليس لديها وقت لزيارة الأهل أو الأصدقاء أو حتى استقبالهم في المنزل. صارت السجادة تشاركها أفراحها وأتراحها. تتحدث معها وتلعب معها. حتى النقوش الصغيرة تتخيلها أطفال ترافقهم. لا يتوقفون عن اللعب بالرمل تحت أشعة الشمس الساحرة. يعدون خلف القطط ويتسلقون الأشجار. يقطفون العنب ويستمتعون بأكله في حقول تعانق الكروم الخضراء أزهار الرمان الحمراء. عندما تحزن تذهب للسجادة بعد أن تنام أمها. تضع رأسها الصغير على نسيج الحرير الأملس فيسري بالدفء في دمائها. تشتكي لها ما ألم بها وتبكي ثم تمسح دموعها بذيل السجادة. بعدها تشعر بالطمأنينة والراحة وتهجع في مرقدها. عندما تفرح ترتسم الابتسامة العريضة على وجه السجادة ويقهقهان كمن أصابهما مس من الجنون
كانت طفلة لجوجة تردد نفس الأسئلة على والدتها كل يوم: هل سيصبح لدينا مال كثير عندما نبيع السجادة؟ هل سننتقل لبيت كبير به غرفة لي واسعة وبه حديقة جميلة ألعب بها؟ هل سنمتلك سيارة بيضاء؟ هل ستشترين لي ثيابا وألعابا كثيرة؟ هل سننتقل للمدينة؟ هل سنسافر مثل جيراننا؟ هل ستحيكين مزيدا من السجاد بعد الانتهاء منها؟ أين ستبيعين السجادة؟ بكم ستبيعينها؟ من سيحملها للتاجر أنت أم والدي؟ تتجاهل والدتها اسئلتها. تنهرها بصوت حاد: ألا ترين إني مشغولة! اجلسي ساكتة! انظري كيف أصف الخيوط بترتيب دقيق. تعلمي مني كيف تستخدمين النول. لن يتزوجك أحد من أبناء عمومتك إن كنت لا تعرفين نسج السجاد. ستكبرين وتندمين على تضييع الوقت في الكلام الذي لا يفيد
عندما بلغت العاشرة بدأت تتعلم النسج وكيف تمسك بخيوط الغزل وتلفها على أصابعها وتستعمل النول. أحضر لها والدها نولا صغيرا لصناعة السجاد وخيوط مزركشة لتصنع سجادة صغيرة. وكلما يأتي من العمل يساعدها ويعلمها حتى انتهت من سجادتها الأولى. كانت فخورة بإنجازها الأول فعلقتها على الجدار ووالدها يصفق لها ويشجعها. أمّا والدتها فرمقتها بطرف عينيها بإعجاب بدون أن تنبت ببنت شفة. بعدها بدأ أبوها يطلب منها أن تساعده في حياكة السجادة الكبيرة. في يوم قال لها: الصغار أفضل من الكبار في صناعة السجاد. أناملهم النحيلة تمكنهم من أن يعقدوا الغرز الصغيرة ويتقنوا النسج. أسرّها كلامه ورفع من معنوياتها. في يوم مولدها الحادي عشر قال لها: أتعلمين أن لهذه السجادة اسم. أسميناها أنا وأمك عندما حملت بكِ "سجادة الوفاء" مثل اسمك: وفاء. تعجبت من إنهم قد بدأوا في نسج السجادة منذ كانت جنينا. لكن ظل السؤال لماذا اسموها هي والسجادة وفاء يراودها بدون أن تعرف له جوابا. ربما للوفاء والإخلاص الذي يربط أبويها معا ومحبتهما الشديدة لبعضهما البعض
في يوم الجمعة عندما تأخرت والدتها في المسجد ألحت على والدها أن تعرف السبب. أجابها: عندما تزوجنا لم ننجب لمدة عشر سنوات وطرقنا كل الأبواب بدون فائدة. والدتك كانت السبب لأن لديها مشكلة في المبيضين لا يفيد فيها العلاج. ساءت نفسيتها وحياتنا بسبب عصبيتها الزائدة. طلبت مني إما أن أطلقها أو أتزوج بأخرى فرفضت ذلك مسلما بقضاء الله وقدره. تحملتُ سوء خلقها وحاولت التخفيف عنها بكل ما أستطيع. جدتك جاءت لزيارتنا يوما وقالت إنها ستصوم وتتصدق وتدعو لنا ليتحقق أملنا وبالفعل بعد مدة تحقق المستحيل فنسجنا هذه السجادة لنهديها وفاء لجدتك. نريد أن نبيعها فنجمع مبلغا من المال لها لتحج بيت الله لكن لم نخبرها بذلك بعد. سنفاجئها حين الانتهاء منها. هذا هو السبب لتسميتنا لكِ وللسجادة بالوفاء. بدأنا بنسجها منذ الحمل بك والذي أسعدنا جدا وفوق ما تتصورين. أن تكون لدينا طفلة جميلة مثلك تملأ المنزل بهجة. كان هذا حلمنا أنا ووالدتك وتحقق بفضل من الله علينا. ابنتي وفاء اعلمي أن والدتك تحبك جدا لكنها لا تجيد الإفصاح عن عشقها لك. لديها موهبة نادرة في نسج السجاد وإبداع في رسم الجمال ولا تمتلك الأسلوب المناسب للتعبير عن جمال محبتها لك وأنا عكسها تماما
في عام نحس ثقيل على قلبها صب الجبل جام غضبه على قريتها النائمة في أحضانه. اكتسح الزلازل الأخضر واليابس. نجى قليل من الموت وكانت هي من ضمنهم. وجدتْ بعد أن استيقظت من الإغمائه أن والديها ألقيا بجسديهما عليها عندما ارتجفت مفاصل الأرض وتزحزحت محدثة دويا كدوي الرعد. قبلت يديهما الخشنتان المتورمتان من نسج السجاد وأناملهما المتقرحة ومسحت بيديها المرتعشتان وجهيهما اللذان اصطبغا بالدماء. احتضنتهما طويلا وبكتهما كثيرا. مكثت في بيت أحد أعمامها في حداد تام نادرا ما تكلم أحدا. بعد شهر عادت للمنزل ترتدي السواد. رفضتْ مغادرة المنزل الذي تهدم أكثر من نصفه فنظفتْ ما تبقى وسكنت فيه يتيمة تطحن الغربة روحها ويعتصرها الألم كلما تذكرتهما. جاءت جدتها من القرية المجاورة التي كانت تعيش فيها مع ابنها الأكبر لتعيش معها
ذكرياتها تطوف بالمكان. هنا في الركن اليمين من الصالة المهدمة كانا ينسجان ويتحدثان بمحبة ويضحكان. هذا ما تبقى من غرفة نومهما التي سقط سقفها. هنا ملابسهما الممزقة. عندما وصلت لسجادة الوفاء علا نحيبها. ربتت عليها برفق واشتكت لها فقد والديها ووحدتها. جلست القرفصاء وأزالت الصخور والركام عنها. نفضت الغبار عن وجهها بخرقة مبللة. كلما أتسخت الخرقة غمرتها بالماء وعصرتها في إناء ثم عاودت الكرة من جديد. تبللت السجادة فنشرتها في جهة مشمسة لتجف. بعد أيام تألقت السجادة وكأنما وُلدت من جديد فقد كُتب لها عمر آخر. واصلت النسج ليلا ونهارا. تنام سويعات فقط وتأكل قليلا. سجادة الوفاء كانت تسمع مناجاتها بصوت خافت حزين وهي تحيك ودموعها تتصبب على خديها تمسحها بكفيها فتترطب أناملها. بعد عامين من وفاة والديها انتهت من نسج السجادة. عند الغسق تبادلا النظرات والابتسامات: وفاء والسجادة. رَأَيَا والديها يجلسان على مقعدين وثيرين في حديقة غناء تغرد فيها البلابل. كانا مسروران مستبشران
تأليف وتصوير: نجاة الشافعي
8/6/2019