Najat Alshafie نجاة الشافعي

View Original

رصاصة الرحمة

رسم نجاة الشافعي

 فاحت رائحة عطر فرنسي غالٍ رشته قبل قليل. نظرت في المرآة لوجهها المطلي بالألوان. كحل أزرق يبرز جمال عينيها العسليتين، ووردي يشرق على خديها، وأحمر فاقع يصبغ شفتيها. جلست على كرسيها الهزاز تنتظره . كرسي خشبي قديم مكسو بجلد أملس لونه أخضر داكن ابتاعهُ والدها عندما كانت صغيرة. كلما جلست فيه يُعيدها إلى طفولتها. تهيجُ بها ذكريات اللعب البريء في الشارع مع رفيقاتها ورفاقها من الصبح حتى مغيب الشمس. يلعبون بالرمل ويركضون على شاطىء البحر. يلقون بالحجارة والورق والخوص فيه فتتقاذفها أمواجه تارة بتؤدة وتارة بسرعة. يتسلقون الأشجار ويقطفون اللوز والليمون والكنار يقتضمونها بلذة. أمسكت جهاز التحكم عن بعد وخفضت صوت التلفاز لأن الوقت متأخرقال لها قبل ساعة إنه في الطريق فجهزت الطعام ووضعته على الطاولة. أعدت طبق الكبسة الذي يحبه وشوربة الفطر وسلطة سيزر ومهلبية بالفستق. الآن قد برد الأكل وهو لم يأتي بعد. نظرت لهاتفها لعله أرسل رسالة لم تنتبه لها فلم تجد شيئا البتة. كتبت له أين أنت فلم يرد عليها. دخلت السناب شات فلا أثر له أيضا. إتصلت به أكثر من مرة ولم يجبها. هجم عليها القلق بشراسة. لعل شيئاً أصابه. طردت الأفكار الشريرة بقراءة المعوذتين وآية الكرسي. دعت الله أن يحفظه وأن يعود سالما

فجأة فُتح الباب بقوة اهتزت لها الجداران. قفزت واقفة ترتجف. رأت وجهه مكفهرا غاضبا. زمجر صارخا: "كم مرة قلتُ لكِ لا تسأليني أين أنت! كم مرة! أنتِ لا تفهمين!" تلعثمت قائلة: أ أ أررردت فقط أأن اطمأن علييك." فأجابها بحدة: "أنتِ! أنتِ تتعمدين مضايقتي. لست طفلا حتى تلاحقيني! أنا أفهم تصرفاتك جيداً!" نظرت له بجمود غريب. لم تنبس ببنت شفة وكأن جبلاً من الجليد حطَّ في شغاف قلبها وسرت حبات الثلج الباردة في عروقها. لم تتوسل مثل كل مرة. لم تكرر على مسامعه إنها لن تعيد الكرة ولم تَعِدُه بشيء. لم تُقبل رأسه بخنوع ليسامحها كما في السابق. لم تُسرع لتسخين الطعام وإعداد الشاي والأرجيلة له وحتى لم تبدو على وجهها أية مشاعر. أدركت بإحساسها الأنثوي وجود امرأة جديدة في حياته. هنّ كخواتمه الفاخرة. عندما يشتري جديدا يبتهج ويعتني به أشد الاعتناء ثم بعد فترة يستبدله بغيره وهكذا دواليك

استشاط غضبا لصمتها المطبق وبرودها غير المعتاد. فقال وأوداجه تنتفخ: "طبعا ليس لديك ما تقولينه لأنك غلطانة! لكن المصيبة أنك لا تعترفي بأخطائك السابقة والحالية. كل تصرفاتك خاطئة ومريبة. ثم حاول أن يستثيرها لتنطُق: "اُنظري لوجهك في المرآة! لماذا كل هذه المساحيق! تبدين كالمهرج! هل ستخرجين من المنزل؟ مع مَنْ؟" وضحك بسخرية عدة ضحكات مدوية ولم تُجب 

برودة الثلج تحرق حلقها وكأنها صارت تمثالا أخرسا. حتى الدموع جفت في مآقي عينيها. آخر ما سمعته: "أنتِ عنيدة وقليلة أدب!". وأزيز رصاصة يخترق أذنها بحدة: "أنتِ طالق!" رأسها يكاد ينفجر. أغمضتْ عينيها. سقطت مستسلمة على الكرسي بدون مقاومة

 تأليف ورسم

نجاة الشافعي

١٥ يوليه ٢٠٢٠م