Najat Alshafie نجاة الشافعي

View Original

المرأة الإماراتية تُمخِرُ عباب المحيط

 

روح أي بلد تتمثل في ثقافتها، علومها وآدابها، وفنونها القديمة والحديثة، والمرأة الإمارتية تُسهِم بشكل جلّي في خلق روح ثقافية تضخّ فيها علمها ومعرفتها وخبراتها الثرية. كانت لي زيارة قصيرة لإمارة الفجيرة، ومن خلال عيني قاصة من السعودية تعرفتُ على بعض أوجه النشاط الثقافي فيها جعلني أشعرُ بما يعتمل في بوتقة المرأة من حيوية فائقة حيث أن المرأة الإماراتية قد أصبحت رافداً أساسياً للتطور العلمي، والثقافي، والمعرفي وفي مقالي هذا سأركز على زيارتي لدار المحيط للنشر  

ولأني كنتُ وما زلتُ مهووسة بالكتب، أتتبع أثرها في كل حدب وصوب، كان المرفأ الأول في رحلتي هو دار المحيط للنشر والتوزيع والتي تُطّل في منظر خلّاب على البحر الساحر والجبال الشاهقة من الطابق الثالث عشر في مبنى الهلال، قصدتها بهدف أن أطلع على قصص الأطفال بصفتي مهتمة بالقصة القصيرة وأيضاً بأدب الطفل واليافعين، وجذبتني قصص الصغار المتنوعة فيها بحلتها الفنية القشيبة ومواضيعها المفيدة مثل “عظيم كالزرّ”، “حكايات جليلة وفتنة”، “كبكوبة وخيط”، و“المعلمة عجيبة في المدرسة الغريبة”. جولتي في دار المحيط وجدتها ممتعة أيضا لتزويدها بجلسات مريحة لكي يتمكن مرتادي المكتبة من الاطلاع على الكتب وقراءتها وليس فقط ابتياعها 

تربعّتْ أيضا على رفوف المحيط مجموعة كتبٌ تراثية وتاريخية قيمة تنشرها الدار، شدني منها كتاب “الصفات في لهجة الامارات” وواحد عن “فن المسبّع (الدانة)” الذي يأتي في سبع أبيات ثم طالعتُ مجموعة قصصية اسمها "زمان أول" للكاتبة عايشة الظنحاني من منشورات دار المحيط في ٢٠٢١م، حيث تروي الكاتبة والتربوية عائشة المتخصصة في اللغة العربية والعلوم الإسلامية عدة قصص من ذكريات الزمن الجميل التي عاشتها الأمهات والجدات مثل: "العطارة"، "كرخانة أم مطر"، "المعِقصّة"، و"الحنّاية" وغيرها من القصص بهدف ربط الأجيال الحديثة بتراثهم، وسحرتني ماكينة الخياطة القديمة في صورة الغلاف وتسمى في اللهجة الإماراتية المحلية "الكارخانة" ــ كما أخبرتني الأستاذة منال النقبي مديرة الدار لاحقاً

ذكرتني ماكينة الخياطة بتجربتي في صغري، والتي لم تكلل بالنجاح في تعلم الخياطة عند جارتنا أم ناصر والتي كنا نعتبرها بمثابة خالتي، وعندما كَبِرتُ صرت أنسج القصص بدل خياطة الملابس. ومن القصة والتراث إلى الفلسفة حيث كانت بين الرفوف مجموعة كتب من منشورات بيت الفلسفة ومقره الفجيرة تتولى الدار أيضا بيعها وتوزيعها، وتحتوي على كتب تعريفية بالفلسفة ومواضيعها وتاريخها وقضاياها بشكل عام مثل كتاب “ضرورة الفلسفة” للدكتور أحمد برقاوي، وكتب متخصصة بعضها مترجم مثل “فلسفة الحرية”، "الموضة دراسة فلسفية”، “فلسفة الملل”، “فن الجوع”، “فلسفة الخوف”، وغيرها وسلسلة كتب تعريفية بأعلام الفلسفة العرب مثل: “ابن رشد”، “ابن باجة”، “ابن طفيل”، و”ابن سينا” وغيرها 

في آخر جولتي في محيط الكتب رأيت إعلاناً لورشة في فنون السرد: القصة القصيرة نموذجاً مع القاص والروائي إسلام أبو شكير من إعداد الدار فسجلت فيها لكي أطور مهاراتي في الكتابة، ولم أكن أعلم أن القدر قد ساقنّي للتعرف على ثلاث قاصّات إماراتيات في يوم واحد. كانت عائشة الظنحاني كاتبة (زمان أول) جالسة عن يميني فتعرفت عليها وأخبرتها عن اعجابي بتوجهها لإحياء التراث من خلال قصصها الشيقة وكتبت لي إهداء على كتابها نابعاً من عشقها للتراث ورغبتها في إحياء ذكريات الزمن الجميل ومن صميم قلبها الدافئ: “لعل رائحة حناء.. قهوة.. عطر قديم يستشعرها جيل غابت عنه تفاصيل (زمان أول) 

وفي الورشة التقيت أيضاً بإعلامية وقاصّة إماراتية هي رقية فرحان الكعبي صاحبة مجموعة قصصية "دلوعة باباتي" نشرتها في عام ٢٠٢٢ متحتوي على ٢٣ قصة ممتعة. والقاصّة الثالثة كانت مديرة دار المحيط منال النقبي نفسها فلقد نشرت مجموعة قصصية (غصون أماليد) في ٢٠١٩ م وتضم باقة من قصص النساء من دول متعددة تستعرض فيها بعض تحديات ومشاكل المرأة في أمكنة مختلفة. وأثمرت الدورة الغنية بالمعلومات عن القصة القصيرة وخصائصها وأمثلة عليها والتدريبات التطبيقية عن ولادة أربعة نصوص قصصية لي، اخترت واحداً منها: (قدمان برائحة السمك الفاسد) وعملت على تطويره من خلال النقد البناء الذي أسداه لنا الأستاذ الجليل إسلام أبو شكير ورفيقات الورشة 

وبعد انتهاء الدورة طرحت رقية الكعبي قصة قصيرة للنقاش ولتطبيق ما تعلمناه في الورشة وهي قصة "الضفيرة" من مجموعة "المرآة" لمنى عبد القادر العلي وهي قاصة وفنانة تشكيلية إماراتية، ومن خلال النقاش الغني حول الضفيرة تعرفنا على أسلوب القاصة منى العلي من منظور تحليلي ومنى العلي كانت رابع القاصّات الإماراتيات اللاتي تعرفت عليهن خلال رحلتي للفجيرة 

وكذلك يستضيف صالون المحيط فعاليات ثقافية متنوعة فلقد حالفني الحظ بحضور محاضرة رائعة للأخصائية النفسية الاستاذة نورة النقبي من تنظيم جمعية الفجيرة الاجتماعية الثقافية عَرَضَتْ فيها بطريقة حوارية شيقة مفهوم وآلية التشافي بالقراءة والتي من الممكن أن يستخدمها الاخصائي النفسي كطريقة علاجية، وأوضحت فيها دور القراءة فيها حياتها بأمثلة واقعية ودورها في حياتنا جميعاً وضرورة تعزيز عادة وحب القراءة لدى الجميع

ارتَدتُ دار المحيط أيام الورشة، ثم ذهبت للقراءة والكتابة هناك كلما سنحت لي الفرصة، ووجدت المكان رائقاً وملهِماً فكلما قلّبت في الكتب المنتقاة بعناية فيها كلما تفتقّت الأفكار وانبعثت القصص من فانوس علاء الدين الذي أحمله أينما ذهبت

جولتي في دار المحيط أعادت نبض الحياة لرحلاتي المكوكية القديمة في مكتبات بغداد ودمشق وشارع الحمراء في بيروت والساقي في لندن وارتيادي لمعارض الكتب حيث أنسى نفسي وأبحر في عوالم بديعة، وأخرجُ منها متأبطةً عشرات الكتب وأنا أشعر بالحماسة لسبر أغوارها؛ لذلك خرجتُ من المحيط إلى شاطئ المظلات الذي يطل على المحيط الهندي مصطحبةً قصة أطفال "كبكوبة وخيط"، وكتاب "ضرورة الفلسفة"، وقصص "زمان أول"، وفي الفجيرة قصص أخرى سأكتب عنها لاحقاً

 

نجاة الشافعي

٢٨ شعبان، ١٤٤٤ هـ