رحمُ الولادةِ الأربعين
في ساعة الولادة يُقرَعُ الجرس. يتصارعُ أملٌ خاثر في عنق الزجاجة المعتمة، تبكي، تصرخ، تتصدع. ينطلِقُ رجع الصدى هادراً في الفراغ، يتكسّر الصمتُ شظايا حارة، مولودٌ آخر يقتحم الهواء الحامض قفصه الصدري، وتنحسِرُ أجنحة الصقور مقيدة بسلاسلَ إلى الأرض البور، وفي رحم الحقيقة ينمو للعنقاء ٤٤ وجه، وتنتثر بذور مصّفرة في البيداء.
في تمامِ القمر، رجلٌ خارجيٌ يتنسّك في كثبان الرمال، يفترش جُبتّه أمام الخيمة، يَصُّب قهوته الغليظة في فناجين الغرباء، وفي الخريف تسري في بدنه الحمى الحمراء فيتجه إلى حيث النار التي لا تنطفئ، يَلْتَّفُّ يساراً، يَكذِبُ ليُصَدَّق، ويُصَدَّق لِيَكْذُب، والكذب الأبيض والأسود والأصفر وخرائط منسحقة الألوان جمارٌ تتقدّ تحتَ الرماد.
تسير بين الجموع الغائمة، وحيدة تنتظره عند باب المدينة العتيقة تتأبط ٥٥ رسالة كتبها لها في ليل الحنين الحالك. تضحكُ بملء شدقيها، تدوي قهقهتها المتقطعة كهدير مدافع، ولم يسمعها أحد من غير الصُّم. دبَّت ألسِنة اللهب في جفونها، وهي تضحك حتى في الحلم، ثم تستيقظ ضاحكة بعد سبع سنوات مُجدِبات، تسير بخرطوم فيل يرشّ الماء على الحشود المحررة، لا أحد منهم يعرف سِّر الضَّحِك الذي تجلبهُ أكمامه العريضة وتطحنه خبزاً للبؤساء، لا أحد يعلم أنه ذبح جواده ليُطعِم المارقين عند باب خيمته، أنه يسير بكامل أناقته بين الجثث العارية من الكرامة، يمشي على قدميه بين الزاحفين على ظهورهم وبطونهم، المتقلّبين ببوصلة مشروخة، حتى ليلى نفسها لم يُبِح لها عن سره العميق، خبأه بين ثنايا عباءته، وضمّه زهوراً وحدائق في حبر رسائله ليفاجأها عندما يأتي برائحة الطين المعتق، وهسهسة النخل الأسمر، وعنفوان الخل الأخضر.
لا أحد يعلم سّره سوى ناقته وصهيل الصحراء التي يمتطيها! لا يخمدُ أبداً عشقه السماويّ، وبعدسة جنونه يرى ليلى الناصعة الشاهقة. يرى ليلى هي ليلى، ليلى أرضٌ أبدية للعاشقين، ليست رملاً أو تراباً أو أبنية تشظّت، وإنما الواحات عيون ليلى التي ترفد العابرين، حنجرة المؤذن وأجراس الكنائس تغريد ليلى، النسائم الدافئة أنفاس ليلى، التين والزيتون والليمون أشجار نبتت من أهداب ليلى، الأطفال الذين يطّيرون الطائرات الورقية أبناء ليلى، والنساء الجميلات المزغردات وصيفات ليلى، والحناء القاني حناء ليلى، والعشق والهيام وأقصى نقمات الجنون كُلّه ليلى. لا شيء سوى ليلى!
خاطبتها الريح بصوت انزلق من أوتار أشجار الزيتون، من خلف الجدار العازل، ومن بين الأسلاك الشائكة:
يا ليلى! يا أصل العشق وجذوته السرمدّية، فصله وفصوله، قصصه القصيرة والطويلة.
يا ليلى! واصلٌ هو قبل أن يَصِلكِ، عارفٌ قبل أن يَعرِفكِ، له ٤٨ يداً ليتسلق جدائلكِ حتى يصل إلى مدّ شفتيك قبل الهجيع.
يا ليلى! قوافل المرضى والجذاميين تؤمّ إليكِ، تتعمدّ بثغركِ الشافي، فيرتفع بوهج كفيكِ الداء، ويصيبهم داء ما له بُرء.
وتندكّين يا ليلى في كل الأزمان! كُنتِ قبل أن تكوني، في أروقة المعابد، والنقوش المحفورة في الكهوف، والحدائق المعلقة في السماء، تصبين في النيل ليفيض في الدلتا، تسقين الماء فراتاً، وتخصبين الأرض ربيعاً، تروين العطشى عشقاً لا ينقطع، لا ينتهي حتى يبدأ.
يا ليلى الخارج والداخل وما بينهما من زوايا حادة ومسافات مهشمة، هو ثَمِلُ قبل أن يراكِ، فما باله حين يراك، ويا ليلى هل سيعرِف من هو بعد أن يراك، يا ليلى سوف يُبصِر بك، وبعد أن يرتد إليه بصره سيغشاه النور فلا يستطيع أن يرى!
يا ليلى! أقسّمتِ أنّ من يظفر برسائلك التائهة وله ٤٨ يداً سيرقد خالداً في مذبحك، أن من يحترق حتى صبابة العشق في وضح النهار عند ثكنة الثعالب سيلِج بابك، أن من يُفجرّ رأسه حتى آخر رمق من حُبِّه سيبحر في شرايينك المائجة، أنّ من تتكسر مجاذيفه في يمّ العطش ويغرق في جوعه سيرتشف قهوتك ويأكل خبزك في مأدبة العشاء الأخير.
اِعلمي يا ليلى، إن وصل متأخرا فقد سبقهم جميعاً شهيداً في مقلة عينيك، وسيحصد الرطب لأنك نخلته، وسيسير رافعاً هامته لأنك زمام ناقته.
ليلى يا ليلى! تأخر لكنه أول الواصلين في أربعين ليلة! وصلَ مجنونكِ إلى أعتاب البشارة، وقد فاضت روحه بالدموع لتروي الغيمات والزهرات والسعفات، والمخيمات التي تفترشها نجوم السماء!
كتابة ورسم
نجاة ناجي الشافعي
١٢ مارس ٢٠٢٤م